إن سجل القيم واسع شاسع. وعندما ينتقي المؤلف الروائي من ذلك السجل ما يعتقد أنه يتناسب وشخصيته أو أحداثه الروائية، يمهد بذلك الطريق للناقد الروائي كي يسأل إن أفلح المؤلف في ذلك وقدم ما يكفي من العلل لتبرير ذلك الاستعمال الأدبي.
حالات بلاغية:
البلاغة بحر صاخب متعدد الألوان، غزير الإمكانات، متفاوت الاختيارات. وهي بسبب هذه الغزارة تتداخل في كثير من الأحيان مع أبواب النقد والتحليل والتأمل والتفسير والتأويل والشرح والتعليم. كما أنها قاسم مشترك بين المبدع وممارسي كل تلك المهام العقلية حيث يمتح الجميع من جماليات الإمكانيات التعبيرية المتاحة أو المحتملة، إما بقصد النظر النقدي أو بقصد الخلق والابتكار. بيد أن إقرارنا بهذه الرحابة قد يفوت علينا في عديد من المناسبات فرصة التأمل المجهري في قضية من قضايا البلاغة أو اجتهاد من اجتهادات أعلامها. لذلك يحسن في مثل هذه الأحوال العمل على تقليص مظاهر الرحابة ولو على سبيل التبسيط وتقريب المفاهيم.
ويمثل كتاب واين بوث Wayne C.Booth حول بلاغة الرواية Rhetoric of Fiction مناسبة فريدة من تلك المناسبات حيث يقدم هذا الباحث اجتهادا بلاغيا معاصرا يخص الرواية بصفة أساسية. وأظن أنها فرصة فريدة ما دام عنوان الكتاب قادرا وحده على إحداث رجة في عقلنا النقدي. وربما من أجل هذه الفرادة –وبتأثير أسباب أخرى تخرج عن نطاق هذا المقال- سنقدم على عملية التبسيط المشار إليها آنفا.
1 ـ بلاغة التفصيل (أو التفاصيل):
وهي التي تهتم بدراسة أو تأمل أو تأويل الظواهر البلاغية الجزئية من حيث تقسيم البلاغة مثلا إلى بيان ومعان وبديع، أو من حيث تتبعها للأطراف المكونة للتشبيه والكناية والاستعارة، أو دراستها للأحوال الجمالية أو الدلالية للألفاظ والصور والصيغ. وسيان في هذه الحالة الدراسات البلاغية القديمة، كأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز للجرجاني والإيضاح للقزويني ومفتاح العلوم للسكاكي، أو بعض فصول شعرية أرسطو، أو الكتب التعليمية كعلوم البلاغة لأحمد مصطفى المراغي والبلاغة الواضحة، أو الكتب النقدية المعاصرة كـالبلاغة العامة لجماعة مو، أو بلاغة الصورة لفرانسوا مورو، أو بنية اللغة الشعرية لجان كوهن.
يشكل التفصيل البلاغي Détail هاجسا مؤرقا لأصحاب هذه الحالة حيث يغدو لديهم بمنزلة المنطلق والغاية، يصدرون عنه في تصوراتهم الفلسفية مثلما يتقيدون به في أهدافهم التعليمية أو تمريناتهم التوضيحية. لذلك يتم التركيز في هذه الحالة على الأمثلة البلاغية الجزئية، وأبيات الشواهد الشعرية، والأقوال السائرة، والأمثال، والجمل الحكيمة أو المتداولة مثلما هو شائع في كتب النحو والمنطق. أما الاحتفاء بالتصورات الكلية أو البناء العام للنصوص أو مجموع دلالتها الجمالية والمعنوية فلا يكاد يمثل غاية أساسية لدى أصحاب هذا النمط.
غير أن البلاغة قد تخرج أحيانا عن نطاق التفاصيل الضيقة إلى مجال أرحب تواجه خلاله تفاصيل من نوع آخر تختص بمعرفة صدق الراوي القصصي مثلا أو عدم صدقه، أو تهتم كذلك بمراتب الوصف وأنماط الرواة وما إلى ذلك من تفاصيل الرحابة المختلفة عن طلب تفاصيل المشبه والمشبه به مثلا، أو طلب الفرق بين الاستعارة المكنية والاستعارة التصريحية.
2 ـ بلاغة الهيكل (أو البناء):
وهي التي تهتم بدراسة أو تأمل أو تأويل الظواهر البلاغية للنصوص من حيث طرائق بنائها أو اختلاف أصناف هياكلها أو أساليب تسلسل فصولها أو أحداثها. كما أنها قد تحفل بالأجناس الأدبية نفسها من حيث تصنيفاتها وتباين أنواعها وتفريعاتها وتناسل بعضها عن بعض. إنها ليست بلاغة الجزء التفصيلي بقدر ما هي بلاغة التجريد التي تتفنن في اختصار النص الأدبي الواحد أو مجموعة من النصوص إلى أنظمة نسقية، أو وحدات وظيفية، حتى إذا كان هناك اهتمام بمظهر تفصيلي كالتشبيه مثلا فلن يكون إلا لتوكيد النظام التجريدي الشامل. من هذا القبيل عموم الدراسات البنيوية والشكلية التي اعتمدت البنية أو الوحدة منطلقا مركزيا لتصوراتها النقدية أو البلاغية. يتجلى مثال ذلك عند فلاديمير بروب في اقتراحه لعدد من الوحدات الوظيفية الجامعة لهياكل الحكايات العجيبة الروسية، وعند كلود بريمون في محاولته اختصار أنظمة تمفصل عدد من النصوص السردية في هياكل بنائية، وعند تودوروف في طموحه إلى استخلاص هيكل نحوي لحكايات الديكاميرون.
بيد أن البلاغة الهيكلية يمكن أن تبرز حتى في تلك الاجتهادات النقدية التي تقارن إمكانيات التعبير بين أجناس وأنواع أدبية، أو تتأمل طرائق التوالد التجريدي لجنس أدبي من جنس آخر. فأرسطو حينما يقارن بين التراجيديا والتاريخ أو بين التراجيديا والملحمة إنما يصدر عن تصور بلاغي هيكلي كلي لتلك الأنواع. وكذلك الشأن عند جورج لوكاش في تصوره الهيكلي الذي يرى أن الرواية الأوربية الحديثة إنما هي نسخ للملحمة الإغريقية.
3 ـ الكون الأدبي:
وهي التي تحتفي بالنص الأدبي من حيث هو كون شامل، صادرة في ذلك عن تصور كلي للإبداع. والحق أن هذا النمط من الدراسة البلاغية لا يلغي الاستفادة من الطاقات التعبيرية التي يمكن أن تتضمنها كل إمكانية بلاغية بما فيها إمكانيات التفاصيل والمجاز والجزئيات التزيينية، أو إمكانيات الهيكلة والبنية.
ومن الواضح أن الكون الأدبي مفهوم جمالي متعال، وهو لذلك يمثل معينا لا يمكن أن يمتح منه إلا صاحب التصور البلاغي الناضج، سواء تجلى ذلك في صيغة دراسة موسعة أو مقال تأملي. ويحضرني في هذا المقام تصور غاسطون باشلار في تعامله مع القضايا الشعرية كما لو كانت صورا شفافة مؤرقة لا من حيث هي تنتمي إلى جنس الشعر أو إنها مفعمة بالسمة الشاعرية؛ بل من حيث هي هموم إنسانية تتعالى عن حدود التجنيس ومعرفة أنواع الاستعارة أو عدم معرفتها. كما يحضرني أيضا تصور ميخائيل باختين في معالجته أصنافا من الروايات كما لو كانت فرصا ثمينة لممارسة نوع من التأمل الأنطولوجي في صورة الإنسان أكثر مما كانت تطبيقات شكلية أو أنساقا هيكلية.
تلك حالات ثلاث للوضع البلاغي في صيغته العامة، عرضناها على سبيل التبسيط لعلها تسعفنا في وضع كتاب واين بوث في موضعه المناسب. وبعد قراءة الكتاب لمسنا أنه بقدر ما يصبو إلى الاهتمام بتفاصيل الرحابة بقدر ما يحتفي أساسا بدراسة الهياكل القصصية. لذلك بدا لنا بجلاء إدراجه ضمن بلاغة التفاصيل الهيكلية نظرا لتركيزه على البنى وطرائق تقديم الأحداث وأنماط التواصل مع القراء وصور الشخصيات الروائية وقياس المسافات فيما بينها أو بينها وبين الواقع الخارجي بدل اهتمامه بالتفاصيل البلاغية في تحققاتها الجزئية أو بالنص القصصي الواحد في حد ذاته من حيث هو كون يحتاج إلى تأمل متعال وراجح.
كتاب "بلاغة الرواية" والنقد العربي:
تعود الأصول الأولى لكتاب بلاغة الرواية إلى سنة 1961 وكان واين بوث قد حصل بهذا المؤلف على منحة من National Council of Teachers of English. بذلك يظهر أن المسافة النقدية التي تفصلنا عن أفكار هذا الكتاب تكاد تصل إلى أربعين سنة طفت خلالها تيارات ومناهج على السطح كما انطفأت تيارات ومناهج أخرى. غير أنه على الرغم من طول المدة والقدم الذي نفترض أنه أصاب الأفكار؛ لا نظن أن هذا العمل النقدي قد فقد سحره بالنسبة إلينا على الأقل. ولعل سر هذا السحر يرجع إلى سببين:
أولهما يتجلى في العنوان ذاته. فما من شك في أن الجمع بين البلاغة و الرواية سيحيلنا لا محالة على عوالم ثقافية غير مألوفة في بيئتنا النقدية العربية المعاصرة. فالأصل عندنا هو بلاغة الشعر، وفي أحسن الأحوال بلاغة بعض الشواهد النثرية. أما السرد في حد ذاته فلا يكاد يوحي بأجواء جميلة قد تحفز على استخلاص قيم ومظاهر بلاغية مثيرة.
أما ثاني السببين فيتمثل في تحقيق معرفة نسبية بحجم وطبيعة تعامل نقدنا العربي مع الآراء والتطبيقات التي تضمنها هذا الكتاب. ويبدو أن نقدنا قد اهتم بآراء بوث في سياق اهتمامه بإنجازات وتطبيقات بارث وتودوروف وباختين وباشلار وجنيت وإيزر وياوس وغيرهم من أعلام البنيوية والشكلية والتلقي. أما من حيث حجم التعامل فثمة إشارات عديدة وأساسية إلى مقال بوث الشهير "المسافة ووجهة النظر Distance and point of view" سواء في صيغته المفردة أو الصيغة التي ورد بها ضمن كتاب بلاغة الرواية أو في محاولة ترجمته. بيد أن حجم هذا التعامل قد بلغ أوجه عندما ظهرت الترجمة العربية لكتاب بوث بعنوان بلاغة الفن القصصي في سنة 1994.
أما من حيث طبيعة التعامل فقد اتجه القصد بصفة أساسية إلى الاستفادة من آراء بوث التي تختص بتحديد علاقة الراوي بشخصياته والمسافة التي تفصله عنهم إضافة إلى تحديد أنماط الرواة. لكننا قد نجد أحيانا من يتجاوز استعراض آراء بوث إلى مرحلة مناقشتها. يقول سعيد يقطين على سبيل المثال: "إن أهم خاصية نجدها في تصنيف بوث هي الدقة في التمييز بين صور تجليات الراوي. ولعل أهم إضافة للحقل السردي لديه تتمثل في استعماله لمصطلح الكاتب الضمني تمييزا له عن الراوي. غير أن البعد البلاغي الذي يحدد تصوره حال بينه وبين البحث عن قوانين عامة؛ وهو نفسه يصرح باستحالة ذلك. إن بوث ظل مشدودا إلى الكشف عن طريقة التواصل بين الكاتب والقارئ وما يرمي إليه الأول من نقل قيمه إلى الثاني بهدف التأثير عليه".
وعلى العموم يظهر أننا قد سايرنا احتفاء النقد الفرنسي بمفاهيم بوث خاصة ما تعلق منها بمقاله الشهير المشار إليه آنفا. في حين تظل هناك منافذ أخرى يمكن أن نتسرب من خلالها إلى مناقشة آراء بوث كانتسابه مثلا إلى النقد الأنكلوسكسوني الذي قلما استثمرناه في دراساتنا النقدية العربية المعاصرة مثل استثمارنا للنقد الفرنسي، أو انتساب بوث إلى الأرسطيين الجدد أو ما يعرف بنقاد مدرسة شيكاغو.
البلاغة بوصفها تقنية:
يهتم واين بوث اهتماما عميقا برصد طبيعة العلاقة القائمة بين الكاتب القصصي وقارئه. ففي هذا المجال الذي يلتقي فيه الطرفان (الكاتب-القارئ) يتركز بصورة أساسية الاجتهاد البلاغي لهذا الناقد. بيد أن واين بوث لا يود أن يمضي بهذا الاجتهاد نحو وجهة نظريات التلقي والقراءة، وإنما تراه يتحصن في تلك الجهة السردية التي يحتفي من خلالها بتقنيات الكتابة الروائية وجماليتها وغيرها من المظاهر التي من شأنها أن تكشف بأمثلة جزئية ملموسة حضور القارئ في مخيلة الروائي. لذلك يرفض بوث الإمكانيات الاجتماعية والسيكولوجية التي تثيرها نظريات التلقي ويركز اهتمامه بدلا من ذلك في الرصد التقني للعلاقة التي تجمع بين القارئ والكاتب. يقول في هذا الصدد:
"أعلم أنني عندما حصرت إمكانيات المؤلف التي يقوم بها بقصد التحكم في القارئ كنت قد عزلت بصفة اعتباطية تقنيات كل الطاقات الاجتماعية والسيكولوجية التي لها صلة بالمؤلف والقراء. في البداية كان علي أن أرفض مختلف الرغبات التي أبداها جمهور القراء بمختلف شرائحه في مختلف العصور. من ذلك مظهر العلاقة البلاغية الذي عالجه بفطنة ك.ليفس Q.Leavis في كتابه الرواية والجمهور القارئ، وريشار ألطيك R.Altik في مؤلفه القارئ الإنكليزي العام، وإيان واط Ian Watt في كتابه انتصار الرواية. ولقد استبعدت بدقة أكبر قضايا تهتم بالخصائص السيكولوجية لدى القراء وتشرح الاهتمام شبه العالمي الذي تبديه الرواية بمثل ذلك النموذج من القضايا الذي عالجه سيمون ليسر في كتابه الرواية واللاوعي. وأخيرا اضطررت إلى أن أتجاهل سيكولوجية المؤلف وكل القضية التي تخص كيفية ارتباط تلك السيكولوجية بالتطور الإبداعي. وباختصار فلقد استبعدت عديدا من المظاهر المهمة للرواية. أما عذري الوحيد في ذلك فهو أنني أتمنى بهذه الطريقة وحدها أن أتمكن من إنجاز معالجة مناسبة جدا للمسألة الأكثر تحديدا: هل يمكن تحقيق الجمع الموائم بين البلاغة والفن؟".
ويظهر أن بوث يطمح إلى أن يستخلص مفاهيمه البلاغية من التقنيات التي عرفها السرد في عصوره المتأخرة، من غير أن يعود القهقرى إلى التدقيقات البلاغية التي كان يحلو لأرسطو أن يفصلها (الاستعارة – المجاز – التشبيه – الدلالة – النحو) ومن غير أن يقع كذلك في صميم التصورات البنائية ونظريات التلقي كما يقدمها ياوس وإيزر. لذلك ليس بدعة أن ينتمي بوث إلى الأرسطيين الجدد الواقعين في مفترق الطريق النقدي. وربما كان هذا الموضع النقدي الحرج هو الذي يضفي صفة الطرافة على بلاغة بوث.
ويبدو أن هذا الاجتهاد النقدي يفتح البلاغة على مجالات أرحب وحقول نقدية جديدة. إلا أنه في الوقت ذاته لا يبدي اهتماما بحالات بلاغة التفاصيل الضيقة ولا بلاغة الكون النصي الشامل. ومن هنا منطلق اختلافنا مع هذا التصور. إن بوث يتساءل على سبيل المثال: "هل هناك تبرير مستند إلى تعبيرات جمالية يمكن أن نعلل به فنا مفعما بإمكانيات بلاغية؟ ما نوع الفن الذي يسمح لفلوبير بأن يمتزج بأحداث روايته مدام بوفاري حينما يصف إيما "باعتبارها غير واعية الآن بأنها مشتاقة للاستسلام إلى الشيء نفسه الذي طالما احتقرته" وباعتبارها "تجهل كليا أنها تمارس الدعارة"؟ ومهما كانت أجوبة فلوبير فقد اهتم النقاد بهذا النوع من البلاغة الواضح والملموس. ولسنا في حاجة إلى القيام بتحليل عميق من أجل أن نكتشف أن هذه القضايا هي نفسها التي ظهرت –وإن بشكل غير واضح- في ثنايا بلاغة السرد المعاصرة. وهكذا عندما يصرح هنري جيمس بأنه قد اكتشف "رابطا"، ما دام القارئ وليس البطل هو الذي يحتاج إلى "صديق"؛ فما من شك في أن هذه الإمكانية الدرامية هي إمكانية بلاغية يمليها المجهود المبذول من أجل مساعدة القارئ على فهم العمل الروائي".
لذلك يبدو كأن بوث يود لو يرقى بالعلاقة بين القارئ والكاتب إلى رتبة "الصداقة". لكن هذه الرتبة لا يجب أن تتحقق بطرق مباشرة أو بتقنيات بلاغية مفضوحة. لذلك يرفض بوث منذ السطر الأول من كتابه الاحتفاء بهذا النمط من الكتابة. يقول: "أشير منذ البداية إلى أنني عندما أكتب عن بلاغة الرواية فإنني لا أهتم بالرواية التعليمية التي تسخر للإرشاد أو الدعاية. إن موضوعي هو تقنية الرواية غير التعليمية بوصفها فنا للتواصل مع القراء وبوصفها إمكانيات بلاغة متاحة لكاتب الملحمة أو الرواية أو القصة وهو يحاول بوعي أو من دونه أن يفرض عالمه التخييلي على القارئ. وعلى الرغم من أن القضايا التي تطرحها البلاغة بهذا المعنى توجد في أعمال تعليمية من قبيل رحلات غوليفير لجوناثان سويفت ورواية 1984 لجورج أورويل فإنها قضايا تتجلى بوضوح أكبر في أعمال غير تعليمية من قبيل رواية طوم جونز لهنري فيلدينغ ورواية ضوء أغسطس لوليام فولكنر.
بيد أن إخراج بوث الروايات التعليمية والدعائية من دائرة اهتمامه لا يعني أنه يطالب الروائي بممارسة التقنيات الروائية بطريقة واعية صريحة حتى تكون هناك بالفعل تقنيات جديرة بالمتابعة البلاغية، وإنما ترى بوث يكرر بأن المطلب الأساسي هو: هل أنجز العمل الروائي إنجازا تاما أم لا، وأما مسألة التقنية الواعية أو غير الواعية فليست ذات أهمية. ذلك "أن نجاح بلاغة مؤلف لا تتعلق بسؤالنا إن كان يفكر في قرائه عندما كان بصدد الكتابة. فإذا كان مجرد "الحساب" لا يمكنه أن يضمن النجاح، صحيح كذلك أن الكاتب الأكثر لا وعيا وديونيسية ينجح فحسب عندما يفلح في جعلنا نشارك في الرقص. وانطلاقا من الطبيعة ذاتها لمهمتي [ النقدية] فإنني لن أتمكن من الحكم بعدل على مصادر النجاح الفني التي لا يمكنها أبدا أن تفحص في تفاصيلها الدقيقة. بيد أنه يمكن مع ذلك قبول هذا الحصر من دون أن ننفي الأهمية غير المحدودة ولا المحدودة لدراسة الأعمال [ الروائية] التي فكر مؤلفوها بطريقة واعية في قرائهم.
إن التفاصيل الروائية إذن هي الحقل الذي يزاول بوث في حياضه تصوره النقدي. بيد أن قراءة كتاب بلاغة الرواية ستثبت عمليا أن الأمر يتعلق بتفاصيل تقنية، تواصلية وهيكلية وحتى هندسية، على غرار ما نجده في كثير من أفكار هنري جيمس وبيرسي لوبوك. وبذلك يمكننا أن نتحدث عن نمط من بلاغة "التفاصيل التقنية المرتبطة أساسا بالهيكل".
بوث والسمات:
لكن، ما طبيعة العلاقة التي يمكن أن تجمع بين التفاصيل التقنية لدى بوث ومفهوم السمات الذي نصدر عنه؟ يمكن أن نجيب عن هذا السؤال من خلال التركيز على المبحث الذي يسميه بوث بـ"العلاقة بين التفاصيل والمعايير القائمة".
يعرض بوث إلى الأوصاف التي يضفيها الروائيون على شخصياتهم، أوصاف نفسية أو أخلاقية أو عقلية، يمكن أن تجسدها لفظة واحدة أو جملة أو فقرة. ويورد بوث أمثلة روائية كافية في هذا المضمار: هل دون كيخوطي قديس مسيحي أو شيخ لطيف أحمق؟ وهل استعمال فولكنر صفة "راهبة" لبطلة روايته Requiem for a nun استعمال مبرر؟ ثم يقدم بوث تقنية الأوصاف الراجحة كما هي عند فولكنر التي لا تكاد تدل على صفة مؤكدة وإنما تظل تقنية متسمة بالنسبية الغنية. ويقول: إن نوع ومقدار البلاغة التي يجب تسخيرها سيظلان متوقفين على العلاقة الدقيقة القائمة بين تفصيل الحدث أو الشخصية… وبين طبيعة المجموع الذي يحدث فيه.
بذلك يفسح بوث الطريق نفسه كي ينصرف إلى معالجة تلك العلاقة من زاوية نظر عالم التقنيات الذي ينطلق منه في تصوره. إلا أنه لا يركز على السمة أو الصفة في حد ذاتها أو يتتبع تحولات وظيفتها الجمالية أو يرصد صلتها بسياقها النصي أو الجنسي، وإنما تراه ينتقل بالإشكال من مجال رصد العلاقة بين السمة والمكون (الشخصية مثلا) إلى مجال علاقة السمة بوجهة نظر الراوي أو المؤلف أو صوته. ويمكن القول بإيجاز إن ما يحلم به بوث أساسا هو الحكم الذي يصدره المؤلف (أو الراوي) على شخصيته الروائية.
إن سجل القيم واسع شاسع. وعندما ينتقي المؤلف الروائي من ذلك السجل ما يعتقد أنه يتناسب وشخصيته أو أحداثه الروائية، يمهد بذلك الطريق للناقد الروائي كي يسأل إن أفلح المؤلف في ذلك وقدم ما يكفي من العلل لتبرير ذلك الاستعمال الأدبي. بيد أن فحصنا لتلك العلل التي يحتفي بها بوث يفضي بنا إلى نمط من البلاغية الهيكلية التي لا تراعي التفاصيل الجمالية الأخرى (وظائف المجاز أو الاستعارة أو الأوتوبيات أو الكليات أو الجنس الأدبي المتعالي مثلا) مثلما لا تهتم كثيرا بتفاصيل الدلالات التي يمكن أن نعثر عليها مثلا من لدن رجل مهتم بالتفاصيل السردية على طريقة غريماس أو بالتفاصيل الشعرية على طريقة جان كوهن.
هكذا يقدم بوث وجها وحيدا للسمة، في حين تقتضي الرؤية النقدية الكونية مراعاة كل الوجوه الجمالية المحتملة لبلاغة السرد، سواء منها تلك التي يعالجها بوث نفسه من خلال أحاديثه مثلا عن حياد الراوي أو تدخله في السرد، أو عن اقتراب الرواية من الوصف الواقعي أو ابتعادها عنه، أو تلك الوجوه الأخرى التي أهملها سواء في بعدها المجازي أو الكون