مثلت انطلاقة "كتاب في جريدة" في نوفمبر 1997 انطلاقة رائدة في عالم الثقافة والأدب، فقد أراد القائمون على المشروع في حينه أن يبلغوا بهذا العمل الرائد ترسيخ وحدة اللغة والثقافة. وتعرُّف أبناء الوطن الكبير على كبار الكتاب والمفكرين والأدباء في العصر الحديث. ولعلي في ذلك الوقت كنت في بداية مشواري الأدبي؛ لذلك كنت انتظر أول أربعاء من كل شهر كي أبتاع جريدة الأيام المشاركة ضمن هذا المشروع. ولا زلت حتى اللحظة أذكر كم كانت متعتي في الحصول على الكتاب الشهري الذي تنوع خلال تلك الحقبة الطويلة بين الأعمال الإبداعية، والفكرية والتنموية، محتفظاً بذلك الكنز الثمين في مكتبتي كميراث لأولادي وغيرهم ممن أثق باحترامهم للكتاب.
مثَّل "كتاب في جريدة" خطوة كبيرة لي نحو التقدم والإبداع، حيث تعرفت من خلاله على كبار الروائيين والقصاصين العرب مثل بهاء طاهر وزيد مطيع دماج وإيميل حبيبي وغالب هلسا وعبد الرحمن منيف وإبراهيم الكوني وغائب طعمة فرمان، وغيرهم الكثير. كنت أقرأ أعمالهم بشغف، تاركاً كتب الدراسة كي أعيش عوالمهم، وأغوص في بحور أفكارهم. ولقد فتح لي "كتاب في جريدة" كوة من المعرفة نهلتُ منها الكثير الكثير. حيث أنني كنت أستعير جميع أعمال الروائي أو القاص الذي أجدني مشدوداً إليه حال فراغي من روايته أو مجموعته القصصية التي تصدر عن المشروع، فقرأت لبهاء طاهر خالتي صفية والدير وقالت ضحى وشرق النخيل وواحة الغروب والحب في المنفى وغيرها من الروايات التي لا تسعفني الذاكرة بها الآن. وقرأت جميع أعمال الروائي الرائع منيف، بدءاً بخماسية مدن الملح وانتهاءً بأرض السواد.
وبالفعل كانت الرواية قبل أيام بين يديّ حقيقة واقعة، وبطبعة ثانية صادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
بدأت في قراءة الرواية، وكانت بداية قوية وموفقة، استثارتني وجذبتني إلى عوالمها، بأسلوبها ذي النمط الفرنسي الجميل الذي كنت قد استخدمته في قصة عصفور في مجموعتي القصصية الثانية "قبل الموت، بعد الجنون". المهم أنني بدأت أقرأ وأقرأ حتى وصلت إلى بداية الجزء الثالث الذي خيب ظني في الرواية وآلمني كثيراً لتوقف كل عناصر الرواية الحقيقة عند ذلك الحد. فكان عنصر التشويق (Suspense) قد ولى إلى غير رجعة، وبدأت التقريرية الصحفية تطفو على سطح سيرة الكاتب الذاتية، أو روايته حسب تصنيفها، وانتقلت الرواية من الأحداث المشوقة والمهمة إلى أخرى لا قيمة لها عند القارئ. والأكثر إيلاماً في الرواية هو المغالطات التاريخية المقصودة بغرض تضليل القارئ، والحيادية المقيتة غالباً تجاه العدو الإسرائيلي.
فقد ابتدأت الرواية بحكاية وليد دهمان أو ربعي المدهون على الأصح، ولقائه بدانا أهوفا اليهودية في الطائرة المتجهة إلى مطار بن غوريون الإسرائيلي. ثم يدور بينهما حوار جميل وجذاب له رونق أخّاذ مستعملاً نمط الرواية الفرنسية كما أسلفت، فيتحدث المدهون عن رحلته خلال الرواية إلى قطاع غزة بعد غياب طويل عن الأم والوطن. ولعلي أكون صادقاً بأن الرواية حتى الجزء الثالث كانت مقنعة جداً وجميع الخيوط الدرامية فيها محكمة، وتسير حسب ما هو مخطط لها. إلا أنها تتوقف عند وصول ربعي المدهون "وليد دهمان" إلى قطاع غزة واستقبال العائلة له. فخلال جلسات السمر تظهر التقريرية، والأحاديث الممجوجة التي لا حاجة لها داخل الرواية لأنها ثرثرة زائدة عن حاجة النص، كأن يتحدث مثلاً حول مشروع "الخرا" الذي ستشتريه إسرائيل ويستمر هذا الحوار "الخرائي" لعدة صفحات تستهلك وقت القارئ دون أدنى فائدة ثم يختمها السيد المدهون بقصيدة "خرائية" حين يقول:
يا خرنا يا خرنا
إحنا أمامك وانتا ورانا
يا خرانا يا خرانا
إنت معاهم ولا معانا
إلى غير ذلك من القضايا التي استهلكت عدداً من الصفحات دون أن تضيف شيئاً للقارئ. وأذكرني في هذا الموضع قد استفدت كثيراً من السيد وليد أبو بكر، الروائي الفلسطيني المعروف، الذي كان ينصحني دوماً بحذف كل كلمة لا تؤثر على بنية النص، لأنها ستكون زيادة مقلقة وثقيلة. وهذا بالفعل ما جرى مع السيد ربعي المدهون. فمن قصة الخرا إلى قصة القريب الذي لم يحضر لرؤيته بحجة أنه منشغل بزفاف أبنائه، وعليه فإن بطل الرواية لن يشارك فرحة الرجل بزفاف الأبناء حسب وصية الأم "فكما تدين تدان". إلى قصة القريب الذي يتعرف على وليد فيبادر الأخير بإرسال صورة عائلته، إلا أن القريب "أبو مشعل" يرد بصورة مماثلة لكن الصورة بدون صورة الزوجة، لأن أبو مشعل المتوسط الدرجة التنظيمية في حماس متشدد ولا يرغب برؤية صورة زوجته لأحد.
الأحداث باتت مفتعلة ومجردة من التنقية السردية، حيث أضحت مجرد سيرة ذاتية نقلها المدهون من مذكراته الخاصة إلى متن النص الروائي، الأمر الذي قتل عنصر التشويق وأوجد عدداً من العوائق والعقبات في طريق الخط الدرامي الذي كانت تسير عليه الرواية.
أيضاً، واجهتني كقارئ مشكلة البحث عن السيد نور الدين ابن العائلة الهاشمية، العاشق الولهان باليهودية دانا اهوفا، فقد اختفى مع بدايات الرواية دون أن يبرر الراوي سبباً لاختفاء الرجل، وهنا على ما يبدو نسي الروائي المدهون هذا الخيط الدرامي وانشغل بدانا أهوفا الجميلة دون أن يقنعني –كقارئ- لماذا لم يكن موجوداً في الشقة رغم الموعد الذي أعطاه لحبيبته أهوفا، ولست –كقارئ- بحاجة إلى أن أبرر للكاتب بأن الفكرة مفتوحة للقارئ يفسرها كيف يشاء، كالنهايات المفتوحة لأية رواية، لأن هذا الخط انفتح وخرجت منه خطوط درامية أخرى دون التعريج على سبب عدم مجيء نور الدين. وهذا خلل طارئ داخل الرواية أعتقد بأن على الروائي المدهون معالجته في الطبعات القادمة.
كنت أنتظر على أحر من الجمر وصول وليد إلى غزة والتقائه بأمه، مجهزاً دموعي للانزلاق لكني للأسف فوجئت بلقاء باهت لا حميمية فيه، ولا أزال أذكر كيف كان لقاء رأفت الهجان في رواية صالح مرسي بأخته شريفة مؤلماً على نفسي، فبكيت لأيام متواصلة حين أتذكر ذلك اللقاء الوردي والحميمي. وهنا أعتقد أن الكاتب بحاجة لإعادة صياغة المقطع بما يتناسب مع حجم الموقف واستغلاله لاستدرار مشاعر القارئ الجياشة.
التقاء عادل البشيتي بليلى دهمان لم يكن واضحاً للقارئ. فهل كان الالتقاء حقيقي أم داخل أروقة نص دهمان "ظلان لبيت واحد"؟ فالحقيقة تماهت مع خيال الكاتب. فعادل وليلى شخصيتين حقيقيتين، وأيضاً شخصيتين (copy-paste) داخل رواية دهمان التي يكتبها "ظلان لبيت واحد".
ولعل الأمر هنا يلتبس على قارئ هذه القراءة النصية للرواية، فبطل رواية ربعي المدهون روائي أيضاً صدر له 3 ورايات، وهو يكتب رواية جديدة اسمها الجديد حسب ما اقترحته دانا أهوفا "ظلان لبيت واحد" ومن بين أبطال تلك الرواية عادل البشيتي الذي يبحث عن ليلاه في غزة بعد عودته من ألمانيا، وهي رواية داخل رواية، كأن يراودك في الحلم حلم جديد.
ولنتوقف قليلاً هنا عند رواية وليد دهمان "ظلان لبيت واحد" (الرواية التي في جوف رواية "السيدة من تل ابيب"). فقد أراد المدهون أن يخبرنا من خلال نصه الروائي بأننا نحن الفلسطينيين لسنا سوى ظل مساو لليهود الذي احتلوا الأرض وقتلوا وشردوا أهلنا ومن بينهم السيد المدهون ذاته. وكم آلمني حين وجدت الروائي ربعي المدهون يتحدث عن اليهود بلغة لم يعهدها الأدب الفلسطيني البتة، ودفاعه عن المحتل، رغم ما لاقاه أثناء رحلته من صنوف العذاب. فلا يتورع أن يقول عن العمليات الفلسطينية الثورية بأنها عمليات انتحارية، وكان الأحرى به أن يقول بأنها (فدائية أو نضالية) إن لم يرغب بكلمة "استشهادية". ووجدته يبرر للمحتل في أحايين كثيرة ما يفعله بنا كفلسطينيين؛ أذكر من ذلك أن اليهود (ولأنهم رحماء) يقومون بإخراج المرضى الفلسطينيين للعلاج داخل الأراضي المحتلة ويعاملونهم بلطف ونسي المدهون نفسه ما جرى مع العجوز التي أهداها "حذاءه" بسبب صهد الشمس الذي أحرق جسدها وقدميها المريضتين وهي تنتظر العودة إلى القطاع بعد عملية قسطرة للقلب قبل يوم واحد فقط من حر الانتظار (ص201).
يجول بعد ذلك ربعي المدهون أو وليد دهمان في الرواية فيسرد كيف حاولت سيدة فلسطينية تفجير نفسها في عدد من جنود الاحتلال الإسرائيلي في عملية (انتحارية) فاشلة. والغريب في الأمر بأن المرأة تدعى وفاء البس (القِط) وهي آخر قط موجود في القطاع لأن البلدية في غزة قامت بوضع سم للفئران فأكلته القطط، فـالفضول يقتل الهرة ( curiosity killed the cat).
هكذا استخف الروائي الهمام ربعي المدهون بالشهيدة ريم الرياشي التي قدمت روحها قرباناً من أجل فلسطين، فهي آخر "بِس" حسب رواية الدهامنة، الذين كان من بينهم الشهيد البطل حسين دهمان أو "حسن المدهون" والذي أرسل الفتاة لعمله كمنسق لكتائب الأقصى مع الإخوة في كتائب القسام وتحديداً الشهيد "فوزي أبو القرع". هكذا خدع الراوي القارئ بهذه المغالطة التاريخية التي أساءت لشخص امرأة طاهرة تركت فلذات كبدها من أجل فلسطين التي تركها الروائي منعماً في بريطانيا، ليعود بعد ذلك مشاركاً في مهرجان حيفا التطبيعي، متنكراً لفلسطين والقضية الفلسطينية رحلتها الطويلة في النضال الوطني.
ولا تتوقف المغالطات التاريخية عند ذلك الحد، بل امتدت لتطال الجامعة الإسلامية في غزة. فبعد حديث طويل عن عائلة الدهامنة "المدهون" التي لم تكن تحمل سلاحاً يوماً، يفاجأ الروائي بعد عودته إلى غزة بأن العائلة أضحى لها باع طويل في المقاومة الوطنية. ثم يذكر بعد ذلك الشهداء الذين سقطوا خلال مسيرة النضال الطويلة بينهم الأستاذ ياسر دهمان. فيتحدث عن اغتيال الأستاذ ياسر دهمان "المدهون" حين تم وضع عبوة صغيرة له أسفل مكتبه في الجامعة الإسلامية. وهنا يجب أن نتوقف.. لست أدري بأي حق يسرد المدهون واقعة غير حقيقة، وقد كان الأحرى به أن يكتب اسم جامعة وهمية إن لم يرغب بكتابة اسم جامعة الأزهر التي وقع بها ذلك الحادث الأليم عام 2005.
لربما كراهية الروائي للإسلاميين وللأذان الذي أزعجه يوم أن جاء إلى غزة ورفضه الصلاة لأنه يرفض خداع نفسه حسب نص الرواية، أراد أن يخدع القارئ ويشوه له هذا الصرح الشامخ الذي تربينا في ربوعه.
أختم بأنني ما زلت أثق بالإخوة النقاد ومقرري جائزة بوكر الرواية العربية، إلا أنني استغرب ترشيح مثل تلك الرواية بهفواتها وأفكارها، لأنها بالقطع دعوة نحو التطبيع مع قاتل الأطفال في صبرا وشاتيلا وقانا وغزة وتل الزعتر وغيرها من البقاع العربية المكلومة.