من القصصي إلى الروائي :
كان النفس القصصي لدى هشام بن الشاوي من خلال ما قرأت له من قصص المجموعتين الأوليتين، ومن خلال ما قرأت له من قصص منشورة في مواقع ومنتديات على الشبكة العنكبوتية يشي بوجود بوادر تجربة روائية جنينية، يتضح ذلك من خلال الجمل الطويلة المفتوحة على آفاق الحكي، والتي يمكن للكاتب فيما بعد تطويعها عبر آلية التضمين وتمطيطها لتستوعب شكلا حكائيا أكبر، الشيء الذي يدل على أن هذه القصص مع سبق الإصرار والترصد هي مشاريع لروايات مؤجلة، ويزيد من ترشحها لهذا الوضع التجنيسي كثرة الأحداث القصصية، وتناميها بوتيرة غير معهودة في النص القصصي، فضلا عن الحيوية الزائدة للشخصية والفضاء القصصيين. كل هذه العمليات التي تبدو صعبة المنال بمكنة الكاتب نفسه أن يصوغها في قالب روائي ضاج بالعوالم والرؤى من خلال ما يمتلكه من قدرة على الحكي السلس والوصف الدقيق للأفضية والشخوص، والملاحظة الدقيقة التي تؤهل الكاتب لاستثمار أي معطى واقعي في بناء عالمه الروائي، دون أن أنسى أن الظروف الخاصة للكاتب وطريقته الخاصة في التعامل مع الحياة تضمنان له مادة دسمة للحكي نظرا لقربة من شرائح كبرى في القاع والهامش المنسيين في واقعنا، ومعاشرته الدقيقة لمخلوقات هذا الفضاء بحميمية الشعراء. كل هذه المعطيات التي تبدو جلية في المنجز القصصي لهشام بن الشاوي تجعلنا نعتبر التجربة القصصية لديه مجرد تمرينات سردية تهيؤا لاقتحام عالم أرحب وأشد فساحة هو جنس الرواية، وقد سهل هذا التمهيد التجريبي اليقظ على الكاتب العبور الصعب من الميكروسرد إلى الماكروسرد.
من عجيب المفارقات أن رواة بن الشاوي يصرون سواء في القصص أو الرواية على التشبث بالذات كمنطلق وخميرة لصنع الحدث والعالم الحكائي بالرغم من أن الكاتب يعي عناصر القص التجريبي، ويمارس بعض أساليبه على مستوى الموضوعات المطروقة، فهو يعيش يوميه بشكل غريب الأطوار، وتـنم يومياته المروية عن كونه يرتاد عوالم حياتية خاصة يصعب على أي كان طرقها من الكتّاب نظرا لمساراتها المتشعبة ومساربها المحفوفة بالمخاطر. إن الكاتب بهكذا مفهوم يجسد نمط الكتاب المغامرين، أولئك الذين يبحثون عن القصة ويطاردونها في مسارب الذات والواقع دون أن يتركوا لها فرصة الهروب، فتبدو الحياة الحقيقية التي يعيشها مثل هذا الكاتب بحق عالم من الجنون وضربا من الغريب بمفهوم تزفيطان تودوروف، فيتداخل الذاتي والروائي بشكل مفضوح. ولعل الوعي بهذا التهويل من فداحة المعيش بالصورة المخاتلة التي نراها في "كائنات من غبار" يشي بالأسلوب الساخر الذي ينتهجه الكاتب في تجريح المعاني وانتقاد القيم.
ويبدو واضحا انتهال الروائي من السير- ذاتي autobiographie في "كائنات من غبار" من خلال حضور عدد من مكونات الأليف في الحياة المعتادة للكاتب:
- الفضاء: وأغلبه يتعلق بمواقع من مدينة الجديدة التي يعيش فيها الروائي بصفة قارة (سيدي بوزيد، سوق الحمراء، أزمور، عائشة البحرية...). وهي مواقع تؤسس للتجربة المعاشة فضحا وتشريحا وانتقادا وتقويما. فالروائي لا يعرض الأمكنة والأزمنة والأحداث فحسب، بل إنه يعيد ترتيب فوضاها بالشكل الذي يخدم تصوره الصوغي للعالم الروائي.
- الشخوص: ويبدو من خلال الكنى المنسوبة إليها أنها ذات شخصيات مرجعية تنبثق من الواقع الدكالي خاصة والمغربي عامة، حيث يستعاض عن الأسماء الحقيقة بأسماء مستعارة تلتصق بالشخصية من خلال ملمح جسدي أو نفسي لتصبح هي الطاغية والمستعملة كبديل دلالي معبر غالبا عن السخرية والاستهزاء من هذه الشخوص، وهي غالبا الرسالة التي يستضمرها النص (المعاشي، بعية، كبالا، قبقب، التباري...).
- اللغة: تلمح اللغة الموظفة في المتن الروائي إلى قيمة الواقعي المرجعي في النص خاصة من خلال استلاف عبارات وحوارات من اللغة العامية تماما كما تستعمل في الحوارات اليومية، وهو خطاب لغوي هجين يستهدف نسف مقولة نقاء اللغة والسخرية من نسقها من خلال إقحام تعابير لغوية غير فصيحة أي غريبة عن الكيان اللغوي العربي الفصيح، لكن الروائي يضع الخطاب الدارج بين مزدوجتين مشيرا إلى غرابته عن نسق اللغة الأصلي المُحكَى به. وتنضح الرواية بمصطلحات البناء وقواميسه التي لا يعرفها إلا المشتغلون في الميدان، مما جعل الكاتب يذيل الصفحات بدليل يشرح فيه الكلمات غير المعروفة.
هذه المكونات المستلهمة من الواقع المرجعي المعاش من طرف الرواة- الشخوص الذين غالبا ما يتطابقون- تتحول من معطيات واقعية إلى مادة تخييلية، حينما تنصهر في عالم جديد يتجرد من زمنيته الأصيلة ليلبس حلة زمن سردي متخيل تنهض به اللغة الرواية في سيروراتها المنحبكة بصيغ الحكي، وبالتالي بات من اللازم النظر إلى المادة السردية التي يحتفي بها العالم الروائي من خلال المنظارين معا: التخييل الذاتي الذي يتأسس على المرجعيات المألوفة للكاتب البراني، والمتخيل الروائي الذي يراعي العنصر اللغوي ويعي تحولات المادة المنقولة حكائيا عبر اللغة.
من الملموس إلى الافتراضي :
إن مستوى التحول من الواقعي المرجعي إلى الذاتي التخييلي إلى الافتراضي يتم على مستوى الرؤية والزمن والمكان، وهي العناصر الأساسية التي تشد إزار المتن الحكائي وتنظمه. وقد أتاح التمرس الكبير للكاتب على ولوج نوافذ الإنترنت والسباحة في المنتديات والمواقع وغرف الدردشة وتصميم المدونات استلهام تجربته هاته، وعيا منه بالتحولات المهولة التي أحدثتها هذه الوسائط على مستوى البنية الذهنية للمغربي، خاصة أولئك الذين يستهلكهم الإنترنت دون أن يعرفوا نتائجه الوخيمة. فبدل أن يوظف كوسيط للمعلومة والبحث والإنتاج العميق، يستغله الناس وفق رغباتهم لإشباع حرمانهم الغريزي الجنسي، نظرا لما يفتحه هذا الوسيط من آفاق التواصل بين الشباب على مختلف أعمارهم : "البنتان الصغيرتان تتصفحان موقعا. شيء ما يجعلك تحس بالمسؤولية تجاه بنات أخوالك، تقترب من الشاشة.. أزياء عرائس، وبستان ألوان، وحواء متأرجحة بين طفولة غاربة وأنوثة مشرقة. تنبه إلى أنه منتدى. بعد تفحص ردود، تسألها إن كانت عضوة مشاركة، تحرك رأسها نافية.. أحدهم أقحم نفسه وسط عرائس المنتدى، واضعا إيميله لا غير كرد، وآخر اختار عنوان المسنجر اسما. تقول لنفسك: "حتى الصغيرات يا عرب، يا أبناء العاهرات تلوثونهن!!" ص 22. وقد تعامل هشام بن الشاوي مع الموضوع بحساسية مفرطة، فهو ينتقد بشكل مبطن الطريقة التي توظف بها هذه الوسائط، مشمئزا أحيانا من التشويش الذي تمارسه على الذات والعقل : "وبكل قوته سدد الهاتف المحمول نحو الجدار المقابل له، تطاير أشلاء وشظايا..".
وتأتي المفارقة، على هذا المستوى، حينما يكون الرواي المشارك في الأحداث والمتحدث بضمير المتكلم بناء يشتغل في أوراش مفتوحة بمدينة الجديدة، ويفقه في الإنترنت، بل ويكتب القصة. وهنا يتطابق العامل الذات مع الكاتب كشخصية مرجعية ما دام يتمتع بهذه الصفات، وتنبع إشكالية التطابق هذه من خلال التعاطف الكبير للكاتب مع شخوصه وعدم ترك مسافة بينه وبينهم من جهة، وكذا من خلال نقمة الكاتب ذاته على وضعه الاجتماعي ككائن مثقف يجد نفسه وسط مجموعة بشرية غير قادر على التعايش معها : "لا أظن أن شخصا كئيبا وبائسا مثلي قادر على شراء هاتف من نوع فاخر، يا سيدي. أنا لا أبتسم حتى في وجه المرأة التي أنجبتني" ص 49، ومن هنا تصبح الكتابة وسيلة للخروج الروحي من قمقم الانتماء المر لطبقة تعيش بوهيميتها مثل أيه كائنات أخرى غير بشرية، بالرغم من جسامة العمل التي تقوم به هذه الطبقة على مستوى النماء، وكأنها بهذه الطريقة تتمرد على وضعها المزري بطريقتها الخاصة، حيث يشكل الجنس معادلا موضوعيا لتزجية الوقت ومرواغة التعب وقهر التهميش: " أطل عبد الرحيم من الشباك، لعق بنظراته عجيزة الجارة، وهي منحنية، تجمع "التشطيبة" من أمام بيتها:
- وا بليزة عندها !!.
عند سماعهم كلمة السر "بليزة" قاموا –عزابا ومتزوجين- باحتلال النوافذ متلصصين على خيراتها الفائضة من تحت سروال يخنق تضاريس وعرة.
صرخ "بعية" في هياج:
- أححححححااااحححح". ص 43.
وتصل ذروة التمرد لدى الشخوص إلى درجة ممارسة الجنس الحرام ونكاح البهائم والتلصص الدائم على زوجات الرجال المجاورات لمقر الورش حتى أن لا واحدة تسلم من هياجهم الكارثي.
إن الشخصية الراوي تكره العالم المقيت التي وضعت على هامشه، بل تكره ذاتها، فتمزق كل الستائر والحجب الصائنة للّياقة، فتكشف طفولتها البائسة : "أطلق بصره من خلف زجاج النافذة متأملا وداعة الأشياء من حوله، رغم إحساسه المزمن بالحزن الغامض، والملل القاتل في مساءات الآحاد. إحساس لازمه منذ طفولة بعيدة: "أحيانا يخيل إلي أني لم أعش ما يسمى بالطفولة، و(لن) أعرف شيئا اسمه الفرح... تماما مثلما أحس أن الكتابة كانت بلسما لجراح الذات الانطوائية، فتجلت الرغبة اللاشعورية في التعبير عن هشاشتي الجوانية، وحاجتي الملحة لحنان امرأة..." ص 103.
فضلا عن هذه التوسلات التعبيرية يجنح الكاتب أيضا إلى إقحام مؤشرات نقدية تفكر في النص وأساليب صوغه، وهذا ما يسمى بالميتاروائي، يقول الراوي: "في رحم خياله تشكلت فكرة كتابة قصة قصيرة عن هذه الأم. تلح الأفكار على أن يحررها من ظلمات سجنها" ص 80.
تنغل هذه التجربة بالمفارقات الساخرة التي تدعو إلى ضرورة الالتفات إلى مثل هذه القضايا المؤرقة التي تشغل بال شرائح كبيرة في المجتمع؛ خاصة وأنها ترتبط بالذات المغربية في تشكلها العصي الذي قد يكون حجرا عثورا في سبيل أي تغيير أو نماء. أضف إلى ذلك هذه الرواية تبشر بتحول كبير على مستوى اهتمامات الشباب الكتابية على مستوى الرواية بالخصوص، والتي تحتفظ بملامح الجنس الروائي دون أن تفرط في ما يستجد من موضوعات وأدوات من شأنها إغناء التجربة.
-------------------------
* كاتب وناقد من المغرب