رواية كتيبة الخراب من الأعمال المتميزة بالساحة الأدبية العربية ، وتدخل ضمن روايات المدينة أو المكان ، نظرا لبلاغة التصوير فيها ولاعتبار الأمكنة غدت فيها أحيانا موضوعا ومكونا من مكونات حبكتها ، وفي هذا الصدد يشير الدكتور خالد مشبال بكون" المكان لاينفصل عن الزمان والشخصية والحدث واللغة وغيرها من مكونات التصوير السردي الروائي..(وهو)فيها مكون محوري يستقطب باقي المكونات ويخضعها له..إن لم نقل يولد السرد ويمنحه الحياة"(1)
في حين يرى الأستاذ فؤادالعزاوي أنه " يصعب الحديث في النقد الروائي عن مكون ما في معزل عن باقي المكونات، ولذلك فإن اجتثات عنصر معين من تربته النصية بغية بيان صورته أو طبيعته عمل محفوف بالمزالق وعرضة لإهدار فرصة الإمساك بتواشيح مكونات الحسن متدثرة باللغة في انفتاحها غير المحدود على الإمكانيات التعبيرية الخلاقة"(2)
أن هذا الإنطباع تمنحه القراءة الأولى لرواية كتيبة الخراب - التي نرى أنها بالإضافة إلى كونها رواية المكان ، نظرا لحضور الأمكنة المتعددة - هي رواية تحكي صورا أو قصصا مثيرة لأبطالها، بحيث تم تصويرها سرديا بتوظيف أنماط متعددة تاريخية وروائية وشعرية مكنت من صياغة نموذج روائي فريد لكنه واقعي ، مكننا من التعرف على صياغة حبكته الروائية وصور الشخوص وأمزجتها، ونمط تفكيرها ، تبعا لأمكنة تواجدها ، والتربة انبتتها . وهذه الشمولية في الرصد للواقع جعلتها لوحة ناطقة تبرز العديد من الإختلالات من خلال مواقف ناتجة عن فعل التخريب ، والهدم والقلق، والتدمير ، والإحساس باقهر والدونية ، وغياب التواصل ، وكأنها كانت تحفر في عمق الكينونة الإنسانية ، معرية كل إحباطاتها، واقنعتها وزيفها. مما أفرز نظرة وأراء الروائي الواعية والمدركة لمشاكل مدينته ، وبالتالي وطنه. وهو ما جعلنا نلمس قدرته الكبيرة على الإدراك الوجودي العميق من خلال استرجاع الماضي أو الواقع التاريخي ، والإجتماعي ، والسياسي لذاكرة المكان والشخوص على السواء .
فإلى أي حد تمكن الروائي عبد الكريم جويطي من رصد هذا الواقع ، وماهي أهم الأفكار والمواقف التي أطرت كتابته في رواية كتيبة الخراب؟
يشير الدكتور محمد برادة أن " الروائي هو جزء من القوى الساعية إلى خلق وبلورة دينامية التغيير وبلورتها والإنخراط في الحداثة بقوة ورؤيا" (3) وهذ الموقف هو ما سعى إليه مؤلف كتيبة الخراب في تجسيده الإبداعي بنظرته اليقظة ، والقلقة ومواقفه الواضحة ، والواعية في تصويره لعلاقة الفرد سواء بالإدارة، أو القضاء ، أو المجتمح بشكل عام . وهي نظرة امتزجت بسخرية ونقد لادعين وصل حد توظيفه لأقنعة خاصة كما حدث مع شخصية الأعشى المستحضرة من التراث العربي ، والذي لم يكن في واقع الأمر سوى الكاتب المتواري وراء سارده بامتياز.فألأحكام التي كان يطلقها ، والتعليقات ، والردود التي كان يوظفها من خلال ظهوره في الخطاب ، وكذلك علاقته المعرفية بأغلب شخوصه الروائية التي منحت السرد مصداقية عالية ، بدت دلالاتها وتجليتها وكأنها تؤسس واقعا يفتح مجالا أرحب أمام توقعات القارئ كما تجلى ذلك أيضا من خلال قصدية العنوان ودلالاته اللفظية باعتباره عنوان مباشر ، وفي نظرنا المتواضع يثير احتمالات متعددة .وهو ما يجعل النص يدخل ضمن الأنماط الجديدة للكتابة الروائية العربية . يشير د عزيز ماضي (4) أن "مهمة الرواية الحديثة تتمثل في تجسيد رؤية فنية ، أي تفسير فني للعالم ، والرؤية كشف جديد لعلاقات نفسية ومن خلالها هذا الكشف الجديد تتولد المتعة والتشويق والجاذبية ..فهي تتغلغل إلي جذور الظواهر وتصور العلاقات من الداخل".
فكيف صور عبد الكريم جويطي عالم بني ملال ، وماهي أهم الظواهر التي رصدها من خلال كتيبة الخراب؟
لعل أهم القصايا المحورية التي شكلت اللحمة الأساسية للرواية يمكن تناولها من خلال المحاور التالية :
I الإدارة نموذج صارخ لسوء التدبير والتسيير. قراءة في ملامح بعض الشخوص
II قضية الأب وماء عين أسردون
III ميمون الرجل الذي يريد تطويع البحر
IV شجرة الفيكس
V صورة المرأة في رواية الخراب
VI صورة بني ملال
VII تركيب واستنتاج
I الإدراة نموذج صارخ لسوء التدبير في المدينة قراءة في ملامح بعض الشخوص
قام الروائي عبد الكريم جويطي بتشريح عميق لمؤسسات الدولة من خلال انكبابه على ابراز عيوب الإدارة المغربية بدء من الرئيس المباشر في العمل إلى آخر موظف بسيط ( العون) مقدما عقليات متخلفة لشخوص مثلت قطاعات حيوية كالهيآت النقابية، والسياسية ، والصحافة "صالح الدركوكي مدير جريدة البشائر المحلية " من خلال الحفر العميق في واقع مدينة تعج بالمتناقضات ، وتعيش رتابة قاتلة ، بمكوناتها البشرية المتناحرة ، وغير االمتجانسة في نفس الوقت . مبرزا إياها وكأنها داخل مستنقع آسن يفرض تعايشا حذرا على الدوام ، بالإضافة إلى توظيف أخرى متخيلة كالأعشى التي مثلت قناع الكاتب ومن خلالها تم تمرير مواقف بدت وكأنها توجه السارد لحظة تيهانه أو إحباطه ، دون أن ننسى توظيفه لشخوص أخرى استلهمها من أعمال مبدعين آخرين تقاطعت إلى حد بعيد مع افكاره وتصوراته ، كالمهندس فروجل ، وأنطوان روكنتان ، وبيومي بطل رواية نجيب محفوظ * ، وشخوص من رواية جيرمنال " عمال المناجم ، وصور فلوندران مصور الحملة الإستعمارية . كما تمت العودة إلى متون التاريخ كمرجعية وإطار لحصر أو توجيه بعض الأحداث ، أو لتأكيد واقعيتها كما هو الأمر عند استشهاده بداوود بن عائشة ، والإدريسي ، وابن حوقل ، والحميري ، ناهيك عن توظيف عدد هائل من الشخوص بهدف ترك الإنطباع الخاص لدى القارئ من خلال بناء كثير من الأحداث الجانبية ، كما أنها شكلت أحيانا عمقا سينوغرافيا لتأثيت بعض الفضاءات الخاصة ، وهو ما جعل الشخوص الرئيسية تبدو كأنها حفرت بدقة متناهية وبيد مبدع مدرك لعمق النفسيات والتطلعات ، سابرا للأغوار ، والأسرار ، مما نفح الرواية صفة الواقعية بامتياز.
وسوف نركز من خلال قراءتنا للرواية كمبحث أول على بنية الإدارة من خلال تشريح مكوناتها والمتمثلة في موظفيها بشكل خاص اعتماد على تركيبة كتيبة الخرام.
لعل أول إشارة نستشفها جاءت في ص 11 أثناء حديث السارد عن السيد المدير الذي وصفه قائلا " وهو داخل مكتبه يحكي ...بحماس زائد عن إحدى مغامراته ، وسط غلالة من الضحك والدخان ..رمقني بنظرة من صنف تلك النظرات المهيبة ..صعدني من تحت لفوق " وهي صورة تبرز بوضوح نموذجا بسريا مستهزءا ، يقضي سحابة يومه في الثرثرة عن بطولاته الخرافية . وكذلك من خلال موقفه من السيدة الدنماركية التي جاءت لقابلتهووصفها بكونها " مجنونة ..تخلصوا منهت في الولاية وألصقوها بي ، وقيل بأنها تريد أن تهدي سكان المدينة شيئا تافها" ص11
فالفقرة تبرز بعمق التبريرات الواهية التي يعطيها الرئيس لكل القضايا التي تهم المدينة ، ويعتبرها غير ذات جدوى ، وربما يعود سبب استهتاره إلى كونه شخصية مزاجية تعاني من تمركز حول الذات والأنا وهو مايتسبب في نفور الموظف نفسه من العمل داخل المؤسسة ، وجوها المشحون . وفي هذا الصدد يقول السارد " تراءت لي المؤسسة فاحسست بانقباض داخلي ، دخلنا ووقعنا محضر الدخول وخرجنا ص 31 وهي صورة جعلت من مفهوم العمل وأداء الواجب خاليا من كل حب أو ارتباط أخلاقي ، وفارغ من كل معاني التحفيز ، ويتكرر نفس الموقف عند الخروج " عدنا إلى مقهى الشعراء قرأنا الجرائد ، وحين اقتربت الثانية عشرة دهبنا للمؤسسة وقعنا محضر الخروج وسار كل واحد منا إلى داره " ص43
وعند تساؤلنا عن أسباب النفور ، لايتوانى السارد في فتح الباب على مصراعيه لنلقي نظرة في العمق ، داخل عالم يعج بالفوضى ، وهو يتحدث عن الدكتور " الكروازي" بائع شبكات الكلمات المتقاطعة يقول " في تمام التاسعة حين يصل .. يبدأ الطواف على المكاتب يحل ما أشكل من شبكات أمس المتقاطعة باستعجال ، يوزع نسخا من شبكات اليوم ...يأخذ منهم درهما باستحياء أويسجله دينا حتى يتجمع آخر الشهر ، تم يهرع إلى دراجته ليواصل الطواف بالإدارات قبل أن يتفرغ لرجال التعليم في المقاهي."53
وهناك شخصية أخرى جسدت حضورا مهما داخل المتن ، والمتمثلة في شخص "الأخ عبد الصمد" الذي يلقبه السارد " بالوقور" يقول عنه " في تامام الساعة العاشرة والنصف وبعد أن يؤدي صلاة الضحى يخرج .. الوقور ليأخذ حمامه الشمسي الصباحي يخرج معه كرسيه ، وسبحة ، ويسبل عينيه كأنه نائم وهو يحمدل ويحوقل ، ثم يخرج عود الأرك ..ويستاك ..يلبس على الطريقة الأفغانية ، يتكلم بازدراء وعدوانية .."ص54
لم تكتف هذه الشخصية حسب السارد في تبديد زمن عملها بممارسة طقوسها الخاصة فحسب ، بل جعلت من الإدارة مقرا حزبيا ونقابيا ففي ص 157 يقول " قبل أيام علق عبد الصمد ..فوق مكتبه شعارات مكتوبة بخط رديئ من قبيل " الإسلام هو الحل " ولو كره الكارهون... الإسلام قادم أين المفر . وكذلك تحويله لمكتبه إلى مركز للتوجيه والإرشاد يقول" دخل عبد الصمد مع احد المريدين الذين يتدبرهم من أمام ثانوية ابن سينا القريبة ...يتصرفون بثقل ووقار الشيوخ .. حيانا بتحية افسلام ، وبدأ يشرح له فضائل الإقتصاد الإسلامي"ص72
أما الموظفة المكلف بتوقيع محاضر الدخول والخروج " خديجة النايلي " الملقبة "بابن سيرين فهي " تحمل محضر الدخول والخروج ، تسير في خيلاء وعظمة ، كأنها تحمل قربانا عظيما " ص52 وهي سيدة تنازع الوقور في " الزعامة الروحية للمؤسسة " ص53 ونجحت في " تكوين حلقة من الدراويش حولها ، تتعقب البشائر في الليل ، وتجحد بقوة استواء الحياة على أسباب ومسببات." ص53
في حين رسم شخصية الشاويش بوعزة بوقار معتبرا إياه "عايش كل رؤساء المؤسسة، .. الجميع يقترب ويسترضيه ، إنه يستطيع أن يعلي شأنك أو يخسف بك الأرض "192
يبرز مما تقدم أن كل واحد من هذه الشخوص كون له عالما خاصا به داخل الإدارة وهو ما منح السارد انطباعات خاصة دفعته إلى اتخاد المواقف اللازمة إزاءها يقول مخاطبا نفسه " كنت في الشهور الأولى تدفن رأسك في كتاب طيلة الساعات التي تقضيها هناك لامباليا ..وما أن توقع محضرالخروج حتى تهرول كأن غيلانا تطاردك ..فتنتهي هاربا من مؤسسة إلى مؤسسة أفضع يحملونها بداخلهم"ص52 ولعل المعاينة المستدامة هي التي دفعت السارد في نهاية المطاف إلى اتخاذ موقف صريح وواضح يقول " كانت السنوات القليلة التي قضيتها بالمؤسسة كافية لأعرف بأن فضيلة الفضائل هي اللمبالاة الصلدة والحياد التام " ص 59 ولم يتوصل إلى تلك القناعة إلا بعد مكابدات كثيرة ومريرة يقول " اكتشفت بغير قليل من الدهشة شيئا فشيأ ، خفة عباد الله الموظفين الدين حشروا مثلك في المؤسسة ثم هم متحررون من عذابات تبكيت الضمير يوقعون محضر الدخول ويروحون ليتدبروا شؤونهم او ينتشرون في المقاهي ثم يعودون قبيل الخروج لتوقيع محضره"ص50
لم يكتف سارد كتيبة الخراب برصد قتامة الواقع داخل الإدارة بل دفعته التجربة إلى تكوين قناعات أكبر ، وقراءة للواقع المغربي بشكل عام محملا المسؤولية للدولة نفسها " محلات الدولة العشوائية ورغبة وزارة الداخلية قد رهنت " الدولة " بين أيديها أن تبدو أما حنونا وحضنا متفهما لكل مشاكل الوطن " ص51 وتبدو الإشارة واضحة إلى الحملة التي قامت بها الدولة للتوظيف المباشر " الشباب والمستقبل" والتي تم استغلالها بشكل بشع من طرف" رؤساء المؤسسة المتعاقبين في خدمة اقاربهم وأبنائهم " 51 وهو ما نتج عنه التكدس ، وبروز ظاهرة الموطفين الأشباح " الكراسي لاتفي ، ويتردد المواطن في الدخول إلى مكتب لأنه يخال المر يتعلق باجتماع غداري أو أن مواطنين سبقوه لقضاء مصالحهم "51.
لقد أفرزت هذه الوضعية نماذج بشرية مسطحة الفكر ، مغتالة بفعل الروتين ، ولا مبالية بشكل مطلق ، لا تهتم إلا بمشاكلها الخاصة ، وهو يصفهم بسخرية لاذعة يقول " يتلهون فقط بالتعمق في تفاصيل الأمراض العديدة التي غنموها من مكاتبهم "ص128 مما دفعه إلى وضع تصنيف لهم ، فهناك البيوميون " نسبة إلى بيومي بطل رواية نجيب محفوظ ، والمتسلطون في الآن نفسه " ص129 والأكاكيفتشيون نسبة إلى موظف غوغول أكاكي في رواية المعطف وهم " الذين يقنعون بالوضع الذي جعلتم فيه الصدفة الإدارية " ص170 ثم صنف آخر ينتمي إليه وهو الذي سماه " قطيع المؤسسة الصامت والوديع الذي لاتتجاوز ( أحلامهم مشاكلهم وهمومهم ) الفردية البسيطة " ص 149 .
لقد استطاعت كتيبة الخراب رصد أشخاص أخرين من خارج الإدارة كالصحافة المحلية في شخص صالح الدركوكي مدير جريدة البشائر المحلية كما جاء على لسان صديق السارد الحلبي واصفا الرجل بكونه " ليس أستاذا ولاهم يحزنون ، بل ماكينة إشاعات ونميمة،وحقد يجب اتقاء شرها ، فهو لا يستطيع كتابة كلمة واحدة في جريدته ، وشك كثيرون في كونه حصل على شهادة مدرسية واحدة" ص 121 وهي إشارة الى ترامي الأميين على مجالات خطيرة وحساسة كالصحافة واستغلالها في غير وجهتها الصحيحة ، لتظل مواقفها تشكل الوجه المعكوس للحقيقة من خلال نشرها للمواقف الرسمية بتحايل ، ولمواراتها لكل الحقائق كما حدث مع حادث سقوط الجدار على العمال والذي اعتبرته قضاء وقدر ، بالإضافة الى المشاريع الخيالية التي تستنزف ميزانية الجماعة الحضرية وتغرق المدينة في ديون ثقيلة .
ويمكن من خلال بعض المقتطفات تعزيز بعض الأفكار بحيث جاء في احداها أن " رئيس المجلس البلدي ..وجد حلولا عاجلة لكل مشاكل المدينة ..التي ستنجز باقتراض مزيد من الديون " ص20 أما في مقتطف آخر ندرك مدى السخرية التي أبرزها الكاتب من خلال تعليقه على خبر اعتبر بمثابة رد من طرف الجريدة على المتشككين في حادث مقتل العمال جاء فيه " أما عاد فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية ..إن بطش ربك شديد" ص74 ويدعم هذه السخرية كون الكاتب على لسان سارده قد أورد مقتطفا من بيان شكك في الحادث جاء فيه " كيف سقط جدار إثر عاصفة صمدت فيها براريك الصفيح " ص74 كيف يؤتمن من عجز على بناء حائط غير آيل للسقوط على بناء مستقبل مدينة" ص73
لقد وصف السارد صالح الدركوكي " بكونه من صنع المخزن.. فهو من فئة اللصوص ليس له ما يخسره ( ونتيجة ) لسياسة مقصودة تريد أن تحطم تشكل ( أية )نخبة محلية واعية ونزيهة"ص170
في حين مثلت شخصية " الأخ محمد النقابة " قمة الإنتهازية ، وكان أول ظهور فعلي له في الرواية اثناء مواساته للسارد في محنة أبيه ، يقول السارد " انتهرني محمد النقابة قائلا : هم دائما هكذا يعجزون عن مواجهة الشرفاء فيضربونهم من الخلف" ص47 . وتتوضح معالم هذه الشخصية أكثر حين يصفها السارد قائلا " تفسخ زمنه ، وعلاه الصدأ بكلماته الأقرب إلى الشخير التي ذبل بداخلها كل بريق وما زالت تستعذب خرائبها . انتهى محمد النقابة إلى حمل رهاب النظام الذي حاربه من المزاحمة بداخله.." ص 148 ولعل هذا النقد الاذع كان نتيجة لقراءة أحد مكونات الكتيبة والمتمثل في الواجهة النقابية التي حادت عن مسارها الصحيح وتنكرت للمبادئ والحقوق ، ويعزز هذا الطرح استمراره في الزعامة واستماتته في البقاء والدفاع عن كرسيه رغم تجاوز المرحلة له ، يقول السارد ببلاغة عميقة " ينتزع ما لايمكن لغيره انتزاعه من حقوق ، ويتنازل على ما لايمكن لغيره التنازل عليه" ص148
كما يقدم السارد نفس الصورة القاتمة وهو يصف تشكيلة كتيبة الخراب الرسمية من خلال عرضه لمشهد ساخر لمستشاري المجلس البلدي يقول " بعد أن صوتوا مع الأغلبية بالإجماع على تخصيص أربعة مليارات أخرى لإتمام بناء مقر الجهة ..احتجوا على استئثار الرئيس ومن معه في المنصة بقنينات مياه معدنية ، بينما ملئت قنينات باقي الأعضاء بمياه الصهريج .مما دفع المعارضة للإنسحاب" ص180
يقدم السارد صديقه الحلبي على امتداد فصول الرواية كصورة طبق الأصل له من حيث الميول ، باستثناء تميزه بالإستهتار المطلق والمغامرة الجامحة ، وبردود أفعاله السريعة وشجاعته المطلقة وحدة المزاج . فهو كان يقيم صراعات وخصومات مع أصدقائه في العمل ، كعبد الصمد ، ويشارك السارد في كل القضايا والمحن التي تمر به ، واقترن الحديث عنه بضمير النحن. في إحدى المقاطع يصف الحلبي الوقور" بكونه الأخرق الذي يقتفي الظل المتبخر " ص55 ومن خلال مواقفه السطحية أحيانا كما كان الأمر بالنسبة للشجرة عندما تساءل السارد قائلا " لم يفهم كيف أفعل ذلك من أجل شجيرة هزيلة ، تافهة ، لاترقى ‘لى ظل شجرة حقيقية" ص183 ويتجلى حضور الحلبي كذلك رفقة السارد في بار الطاحونة القديمة " شربنا بعض البيرات العاصفة " ص48 ومن خلال مساندته له في قضية الوالد " حدثني (الحلبي ) عن القيام بما يفعله الناس " ص47 وكذلك في قضية ميمون الحلاق " حذثنا عن المليوني ريال اللذان في ذمته لصاحب الحانوت"ص36 وفي قضية صالح النصاب ووسيطه بوزكري " اكتشفنا بسرعة أن الرجل مشوش الدهن واستغربنا كيف يكل لرجل عملية معقدة .. لايتمكن من اجراء عملية حسابية بسيطة "ص163 . وحتى في اللحظات الأكثر حرجا وتدمرا " كلما همزت المدينة وهزمنا معها ..ننزل سراويلنا على المعارضين الجدرين الذين يملأون المقاهي " ص 168 وكذلك أثناء تصنيفه لموظفي الإدارة " نحن قضيع المؤسسة الوديع الصامت"ص 144
ولعل بلاغة هذه الشخصية المستهترة تجلت من خلال موقفه العميق من كل المشاكل التي كان يعيشها السارد وقد لخصها بقوله ساخرا " نعيش في مارستان عظيم مليئ بالكائنات التراجيدية ، ولا نحس بذلك ، واحد يريد أن يسترد الماء لقبيلة تبخرت في التاريخ والأهواء ، وحب الذات ، وضاعت أشجارها ، وآخر يريد أن يطوع البحر بدراجة ، وأؤلئك الذين انتذبوا أنفسهم لحراسة " قلعة النضال والتي أزهر فيها أشد الإنتهازين فتكا ، وأكثر حكايات النهب غرابة" س48 لنستخلص وكأن الحلبي كان بمثابة الصوت الآخر للسارد متواريا وراء شخصية أخرى متحركة وفاعلة داخل الرواية.
II قصية الأب وماء عين أسردون
يعتبر النضال من أجل استرجاع ماء عين أسردون من أهم القضايا المحورية التي استأثرت بها رواية كتيبة الخراب ، وقد بدأت معالمها تتجلى منذ الصفحات الأولى للروايةعندما كان أب السارد يقلب محتويات صندوقه الخشبي السميك الذي يحتوي " على ركام من الأسرار والحجج والأشياء الصغيرة والتفاهات ..ظهائر توقير ..رسائل شكوى ..عقود ملكية توكيل .."ص 26
وإن كان الوضع يبدو للقارئ عاديا ، فإن التلميحات التي كان يدسها الروائي من خلال سارده من حين لآخر كقرائن على عدم اهتمامه وتجاهله لقضية والده باصرار خفي يقول " وحده يملك سر الترابط بين الخليط العجيب ، والأهمية القصوى لكل وثيقة فيه "ص26 بالإضافة إلى وصفه لملابسه وخصوصياتها ودلالاتها التي أبزت طباع الأب " البلغة الصفراء ( وارتدائه ) الجلباب الأبيض والسلهام السود والرزة ، وظهير التوقير للشيوخ ..(و) خنجره الفضي "ص27 منحنا إحساسا ووضعنا أمام تساؤلات غامضة حول اسباب وحيثيات حرب الوالد ونفور السارد منها، لنصل إلى قناعة مفادها البحث عن سر القضية من جذورها وبداياتها الأولى وكيف تشكلت معالمها وتبلوت في ذهن أب السارد ..
تقودنا أحداث الرواية إلى الفترة التي عثر فيها اب السارد ضمن محتويات أخيه لما تم اعتقاله من طرف جيش الإحتلال الفرنسي على عقد كان " وسط مراسلات شخصية ..(و) بموجبه اقتسم الملاليون الماء فيما بينهم ..وضعه في جيبه ولم ينتبه للشياطين الغافية فيه بعد ذلك ..لم تولد الفكرة الحمقاء في رأسه إلا سنة بعد ذلك "ص207
واعتمادا على تقنيات الإسترجاع وبتوظيف سلس للتاريخ يتوغل السارد الروائي عبد الكريم جويطي في مرحلة أبعد مشيرا أن تاريخ كتابة العقد ترجع إلى سنوات غارقة في النسيان بعدما اشتد الصراع بين فخذتي أولا سعيد وأولاد سالم ، وهو صراع كان " ينتهي بالقتل ودفع فدية بخسة ، بعد تدخل المخزن ، وفرض ( صلح مطعون) في عدالته لم يصمد إلا الوقت الذي مسحت فيه مواسير البنادق وتم حشوها من جديد " ص140 . وهو صراع لم يكن ينتهي بشكل مطلق بحيث سرعان ما تعود المواجة حول الماء إلى الواجهة ف"التبست سواقي المياه بمجاري الدم ، ورائحة الأرض برائحة البارود وغلات الجنان بحصاد الرؤوس"ص 141 مما أدى إلى تدخل الشرفاء لفرض الصلح وكتابة عقود لإقتسام المياه بحضور كل القبائل المتنازعة .
لقد شكل العقد بالنسبة لقبيلة " أيت القيال " التي يتنمي إليها أب السارد أهمية كبرى في كون أجداده هم من أشرفوا على عملية توزيع ماء العين وحقن الدماء انطلاقا من الجد الأكبر يقول السارد " يمتلك هذا العقد الذي اختفى وعاود الظهور مرات عديدة في حياة أل القيال الطويلة روحا تمليكية قوية تجعله يرهن كل من وجده منهم لمشيئته ، يتجاهل نفسه ، وينقاد لداع نبوئي يوهمه بأنه مؤتمن على مصير القبيلة"ص 99 لكن نسخ العقد حسب السارد أصيبت بالتلف "لم يتبق منها سوى تلك التي منحت لصالح بن حدو القيال استثباب الصلح . افتقد لسنوات طويلة في رأس عين أسردون ( قرب ) مفصل السواقي " ص 141 ثم انتقل بعد موته إلى بوزكري جده بعد اقتسام البيت، وتركه في بيت العقارب داخل شكارته ، إلى أن يصل إلى عم السارد، وبالتالي إلى والده.
ولعل تلك اللعنة ، والروح التملكية هي التي أصابت أب السارد ودفعته إلى اعتبار القضية ، قضية حياته كلها " منذ أن صنع طواحينه حارب وحده ، كتب الشكايات والتقى بالمسؤولين ورفع القضية إلى المحاكم وسافر إلى الرباط ..وانتظر التشرف بمقابلة ...قام وحده وقعد وحده " ص44 .وأثناء انتظاره للقاء المسؤول وقع حادث تسبب في نزاعه مع قوات الحرس البلدي وهو امر تسبب في حبسه بعد الحكم عليه بالتجمهر بدون ترخيص والتهديد بالسلاح الأبيض.
لقد اتخدت القضية تأويلات متعددة ، فالسارد لم يكن مقتنعا بها أصلا ، واعتبرها " الخبر المهزلة " ص46 وأصدقاؤه في العمل والمقهى كانت لهم مواقف خاصة ، فعبد الصمد اعتبرها " ،محنة" ص 46 ، ومنهم من تمنى له " سراحا عاجلا" ص 47 والحلبي حثه على ضرورة القيام بما يفعله الناس " ص 47 وهناك من حولها من قضية المطالبة بحق تاريخي إلى قضية احتجاج " على غلاء فاتورة الماء "ص 36 والأخ محمد النقابة اعتبرها شططا سلطويا " هم هكذا يعجزون عن مواجهة الشرفاء ، فيضربونهم من الخلف " ص47 والبعض الآخر إلى قضية أخلاقية " ربما فقيه ضبط يعبث بمؤخرة صبي من صبيان كتابه" ص 59 .
ولم يفت السارد استحضار مواقف أمه من القضية عبر استرجاعه لذكرياته قائلا " كم حاولت امي أن تضرب في صخرهوسه ، لكن بدون جدوى ..كم بكت ، وتوسلت ، وغضبت ، وراقبت بمرارة ما يصرفه في طلوعه وهبوطه على قضية فارغة" ص96
في حين كان لصاحب القضية وجهة نظر أخرى وموقف مغاير تماما ، وكان واعيا كل الوعي بعدالة قضيته . جاء على لسان السارد " سنوات وهو يجاهد لرفع هذه المظلمة عن القبيلة ، فماء عين أسردون ملك لأهلها حارب من أجله أجدادهم قرونا ، قدموا ألاف القتلى حتى جاء المكتب الوطني للماء الصالح للشرب ووكالة التوزيع المحلية، يمدون الأنانبيب ، ويضعون العدادات يحتسبون من البقر الأموال الطائلة بغير الحق " ص 45
في حين كانت مواقف السارد ومنذ البداية متذبذبة ومتقلبة إلى رافضة احيانا ، بحيث يقول " لماذا لا أجد نفسي في معركة أبي من أجل الماء ؟ ولماذا أحس بأنه يحارب من أجل شيئ عبثي ..لايثير في مسعاه إلا الشفقة والأسى ؟ " 91 وهذه الحيرة كان يواجه بها والده أحيانا " قلت له مرة .. أن الدولة لن تخرج العفريت أبدا من القمقم ، ولن تقبل أبدا بأن تعيد معكم قسمة الأيام الأولى للإستقلال " ص 97
ورغم نفوره من القضية فوالده كان يحاول دوما إقحامه ودفعه لمساندته باعتباره وحيده وسليل " آل القيال " عندما حاول جره للحديث حول الموضوع يقول " كم حاول أن يجرني للحديث في موضوع قضيته ..لكني وبإصرار شاذ كنت أعرض عنه .. كنت أقابل حربه بنفور زصمت مهين وعدائي.. ولايبدي امتعاضا ولا تعبر وجهه حتى مسحة حزن أو تضايق " ص 96وهو ما كان يتسبب له في قلق دائم وتيه مطلق ، فلبس قناع الأعشى لحظة ليقارن بين والده ، وأب الأعشى متسائلا " هل كان مثلا قدريا إزاء نكبة أبيه أم عاش تمزقا عنيفا بين نقمته وعجزه عن الفعل كحالي تماما ، حين أطبقت صخرة المخزن على أبي ؟ ..حين أفكر في جفاء وقلق وبعد أبي وأب الأعشى أتبين كم سرق منا التاريخ معا أباءنا" ص89 .
ويمكن إرجاع هذا الأخد والرد لطبيعة علاقة السارد بوالده سواء في حياة أمه أو بعد مماتها ، فمجرد الجديث بينهما كان قليلا ومقتضبا " كلا منا المقتضب في ماقيت الأكل وحول الطقس ، وبعض أخبار الجيران ص 66 وهو ما منحه الإنطباع بكونهما أسبه ...".بغريبان جمعتهما صدفة طريق طويل ومرهق يتواطئان على مقاومته بالثرثرة " ص67
وقد شكلت الأم على الدوام صلة الوصل بينهما " لم نعرف بعضنا حقا وبميثاق لاينتهك ، إلا عبر الصورة المرضية التي كانت ترسمها الأم لكلينا لذى الآخر " ص68
ولعل رواسب هذا الجفاء ترجع إلى زمن الطفولة ، وإلى الصورة التي كونها عن والده الذي أحسه دوما غريبا عنه يقول بحسرة كبيرة وكأنه يحاسبه " ما لاعبني ، وما هدهدني ما سهر الليالي فوق رأسي ، ما حماني حيث كنت أتهجى فضاعات العالم ... ما أظهر فرحا بي وأنا أتحامل وحدي وأصعد سلم التعلم الصعب " ص 212 .
لكن هل يتنكر الفرع للأصل ؟ فسرعان ما ستعرف علاقتهما ، وكذلك موافقه من القضية تحولات اخرى ، وكأنه كان فقط في حاجة إلى من يقنعه بوجاهة موقف والده ، ويزرع الثقة في نفسه . وهو ما حدث عندما كان يتجاذب اطراف الحديث مع العاهرة وهما قرب شجيرة الفيكس المغروسة في باحة المنزل ، خصوصا بعد إخباره لها بقضية والده ، فاقنعته بضرورة مساندته معاتبة إياه قائلة " لا يستحق هذا العالم أن تخذل أباك من أجله ..تبدو الفكرة ..دائما جنونا حين لا تجد من يؤمن بها "ص 222 لتعرف مواقفه من قضية والده تحولا مطلقا وقد تم تبنيها من طرف آخرين .
III ميمون الرجل الذي يريد تطويع البحر
شكل مشكل الهجرة السرية إلى جانب مشكل الماء ، وسوء التسيير والتدبير بالمدينةمن أهم القضايا التي استأثرت بها الرواية في شخص رجل حالم جدا " ميمون الحلاق " والذي صوره الروائي عبد الكريم جويطي كدونكيشوط مغربي ، لما يؤمن به من أفكار غريبة جدا من أجل العبور نحو الضفة الأخرى بواسطة دراجة عائمة . وتبدو علاقة السارد بميمون جد وطيدة امتدت إلى زمن المراهقة ، ابتدأت بمباريات كرة القدم ، وهوس ميمون بها حد الجنون ، فهو ص" لم يكن يتنازل عن الرقم عشرة كعظماء كرة القدم ، وعن شارة العميد ، وقذف كل الكرات التابتة القريبة من المرمى " ص35 وشكل حانوته القريب من المحطة الطرقية ملاذا للسارد ولصديقه الحلبي ولاعبي كرة القدم ، وهو يصف المحل وفوضاه العارمة يقول السارد " زين بشكل يبرز مزاج صاحبه ، مجلات تحتل بصمود الطاولة الصغيرة ، وتقاوم عرق الأيدي وعبثها " ص33 " علب بالموليف الفارغة المؤتمنة بثقوب عديدة وغريبة ... لطلاء الأزرق الذي كتب على الجدران كنوع من العقاب "ص 34 و لإ براز جانبا من شخصيته وتصرفه العدواني اتجاه معارضيه كان " يعمل موسى الحلاقة بفضاعة في وجه من تحنق عليه حتى يثقب الصورة وللشماتة يترك الجسد سالما ويعرض الصورة فوق علب بالموليف بمباهاة " ص36
ولم تفت السارد الإتشارة إلى تجاربه العاطفية الفاشلة للتأكيد على اقتران لعنة الفشل بصاحبها الذي صار سجلا حافلا للإنكسارات والفواجع . ومن بين الأسباب التي دفعت ميمون للهجرة تراكم ديون كراء المحل يقول السارد " حدثنا عن المليوني ريال اللذان في دمته لصاحب الحانوت .. وبعد تفكير عميق قرر أن يهاجر إلى إسبانيا " ص37
لقد شكل ميمون شخصية غريبة الأطوار ، يؤمن بأفكاره حد الجنون ، ولا يثنيه أي شيئ في دخوله متاهة المغامرة بكل أهوالها دون مراعاة للعواقب ، وهو ما دفع السارد إلى التساؤل عن ظاهرة الهجرة بحرقة عندما كان يعبر سهل تادلة وما خلفته من آسي في مناطق ظلت مجهولة حتى على خارطة الوطن يقول" مررنا بدواوير لم يكن يذكرها أحد منذ أن وضع بنوهلال رحال تغريبتهم هنا حتى ظهرت قوارب الموت فانتزع لها موتاها حقوقا مضمونة في النشرات الدولية وتحليلات الجرائد " ص161 أما عن موقف من قرار ميمون فقد تساءل حانقا إذ يقول " وللحظات لم أعد أعرف هل كنت إزاء تخاريف مجنون أو إزاء تمرين عصي على الأمل يشحد الأشياء البسيطة المستضعفة لتصنع معجزة خلاص ." ص42 وبالعودة إلى التركيبة النفسية لميمون يتساءل مرة أخرى متأسفا أثناء الحديث عن والدته قائلا " كيف أنشأت إمرأة صخرية ذات مزاج حاد كهذه رجلا حالما وفوضويا كميمون .. أكثر عناد من بغل ، ولايتخلى بتاتا عن شيئ ينازع فيه" ص32 فميمون هو نموذج مصغر لكثير من المأزومين بالمدينة يمزقهم التيه والحلم الخادع بأفكارهم المثالية البسيطة . وهو يتحذث عن بعض أفكار ميمون بعد الوصول إلى الضفة الأخرى ، يقول " يلبس ثيابا زرقاء وبيضاء ...وأن يجرد الدراجة من القضبان وغيرها ..ويدفن الكل في رمال الشاطئ ويسير في الطرقات فأن رآه شرطي قال مواطن يقوم بتدريب رياضي " ص 41 وأفكار ميمون على العموم قوبلت بالرفض من طرف السارد وصديقه الحلبي لكنهما لم يستطيعا إقناعه فتماديا في مجاراته حتى أقصى مراحل جنونه من خلال السفر لتجربتها في بحيرة بنواحي أزيلال فباءت بالفشل . وهو ما أشعرهما براحة نفسية يقول السارد " وكنا رغم كل شيئ سعيدين بدور شانسو بانزا الذي أديناه حتى أخر تفصيل ، ولكن كيف سيخرج من حطام تجربته المؤلمة؟ "ص117 ة
لكن ميمون سرعان انتصب أمامه أمل جديد ، بظهور رجل بأحد الدواوير يدعى " الحاج صالح" " أوهم الجميع برؤاه حول بناء مسجد في دوار مغمور وبتهجير العديد من الأفراد وقد انطبقت حيلته على السكان ورجال السلطة المحلية ، ولم تفت السارد الإشارة إلى الموقف بسخرية عالية يقول " صار الرجل الصالح محل رجاء وتعلق حميم تنطلق بعض زغرودات وأدعية من ناحية الدار المتكتمة لمجيئه أو ذهابه ، وازداد الحليب في ضروع البقر منذ تشريفه ، وراق البئر ، وسمن الدجاج ، صارت الحمير طيعة مسالمة ، وأحس مرضى الدوار بتسحن حالتهم ، وتعلمي الكلاب كيف تصبح أكثر كياسة لإزاء الغرباء ، فتنبح بوقار وحشمة" ص 165
ومن خلال الائحة الخاصة بالمهجرين أورد السارد في صدارتها الفقيه والنساء والفتيات وموظفي الجماعة والمعلمان ... ممما يبرز وطأة فكرة الرحيل ، ورفض أراضيهم التي تتيح لهم فرص العيش الكريمة سعيا وراء السراب . وهو أمر دفع السارد إلى الإندهاش والتساؤل " كيف يتركون هذه المياه وهذه الأرض المعطاء ويتهالكون على بحر غويط ؟ " ص 162 لقد باءت محاولة ميمون للهجرة بالفشل ، ليختفي على الأنظار لمدة طويلة إلى أن عاود الظهور من جديد للعمل كحلاق في حي هامشي ، لكن دون أن تموت فكرته بالهجرة إلى الضفة الأخرى يقول السارد " سحبني من يدي حتى ابتعدنا منه ( الحلبي) فهمس لي تحتاج الدراجة محركا لتسير ، سأشتري بما سادخره ، هنا دراجة اخرى ومحركا ، وسترى هذه المرة" ص205
VI شجيرة الفيكس
لقد شكلت الشجرة الصغيرة التي جاءت بها السيدة الدنماركية في رمزيتها دلالات أظهرت عشوائية التسيير داخل الإدارة من خلال نظرة رئيس الجماعة إليها كشيئ تافه ، ومن جهة أخرى وجها آخر للنضال الصامت والصراع من أجل التكيف وسط مناخ لا تمت إليه بصلة ، وأبرزت المواقف والمواقف المضادة اتجاه حقيقة التفكير في كيفية تدبير المجال واستغلاله . مما عرى الزيف وابرز سلبية النظرة المتخلفة التي لاتعمل سوى على التخريب في مقابل أفكار أخرى لأناس يقدرون المجال الأخضر ويربطون مصير حياتهم به كما هو الخال بالنسبة للمهندس فورجول/ وزوجة روبي " وما يمنحه للحياة من اسرار قوية للبقاء . وما ينعش به الروح من جمال ..ورمزية شجيرة الفيكس بالنسبة للمرأة الدنماركية إشارة إلى مدينة بني ملال التي شكلت انطلاقة جديدة نحو حياة جديدة لسائحين وطآ أرضها ذات يوم واعتنقا السعادة بين ظهرانيها في أزمنة ولت ..لكن عودة الآرملة تزامنت مع أعتى وأعنف لحظات التخريب والإحتضار..
ولعل إدراك رمزيتها من طرف السارد وتحمله مسؤولية رزعها ولو عن طريق الإكراه في البداية ، وكوسيلة من طرف رئيسه المباشر للتخلص من إمراة اتمجهول، جعلته غير قادر على التملصمن وعد قطعه لها لتحقيق رغبةزوجها " بأن تغرس في بني ملال" وقد بدل السارد كل ما أوتي من حيل وجهد لتحقيق تلك الرغبة كنوع من الإلتزام الأخلاقي ، فكان تتبعه لمسارها وبحثه المضني عن توفير ظروف مثالية لحياتها في مغامرة أشبه بالمستحيل .يقول " ما يعذبني بعمق ليس ذبول الشجرة ، وتضاؤلها بل وجودها نفسه ...أراها دائما في دواخلي ذابلة تصارع الموت بصمت ..ينبغي ألا تموت ولو من أجل حزن السيدة ورحلتها الطويلة حتى هنا" ص86 .
لكن عندما نتساءل عن الأسباب الحقيقية التي دفعته إلى ذلك ، ندرك أنها بالنسبة إليه لم "تكن مجرد شجرة، كانت فكرة تكريم وحكاية حب ولهفة ووفاء صارت سيدة من الدنمارك إلى هنا .. إنها تحمل في هشاشتها شيئا متعلقا بي "ص . 70
وتفسير هذا الإحساس نجد صداه في الأشكال والصور التي اتخذتها بكونها صارت جزء منه ، واتخذت حيزا خاصا ومكانة أساسية في صراعه وعزلته " صارت جزء من هدا الحييز الأساسي المشكل من أب وخادمة ودار وعزلة ، وحارة ، وجيران ، وإدارة ، وزملاء ، ومرارات مدينة ولغو" ص70ولعل خوفه من موتها ورهبته أساسا من الموت هو ما جعلها تتخذ سمة القضية يقول " أدركت أن الموت دوما هو شأن وألم الآخرين ، لاقضية لمن ليهال عليهم التراب" ص 72 فأضحى كلما تذكرها يصاب بالذعر وينطلق كالمجنون نحوها " تذكرت الشجرة الصغيرة وهرولت نحو البيت لآ ينبغي أن تموت" ص 93 . ولعل القارئ قد يتساءل معنا عن الهالة التي أتخذتها الشجيرة في مدينة تعج بالإشجار .
لقد كانت الشجرة لحظة هي السارد وأخرى هي أمه وأحاحين أخرى هي المدينة والقضية ، مما جعلها تتلون حسب المواقف التي كانت تواجهه يقول " أي معنى يمكن أن تمنحه لحياتي ولحياة المدينة هذه الشجرة الصغيرة الممتلئة بالإدعاء الفارغ ، أي أمل في تحويل ما قد عجزت فرنسا لخمسين سنة بجيشها وخططها على أن تطول حفنة من رمال القبيلة المتحركة التي امتصت كل شيئ ؟" ص 104 كما تجلت الشجرة في صورة الأم والأمل والرض يقول " ثم اتتني صورتها وأنا متكئ على فخذها في الباحة ..وفوقنا سماء زرقاء يدرعها غمام يسرق من حين لآخر ظلها الذي أستريح فيه ويرحل " ص182 وقد وصل به الأمر أن بدا وقد تملكت عقله وأحاسيسه مما جعلها ترتج بداخله " كنت أهرول باندغاع وقوة وكأني أهرب شيئأ عزيزا من كارثة محققة " ص 104 .
ولن يفت الروائي من توظيف الميتاروارية من خلال إدرج فكرة الكاتب أنطوان روكنتان لما كان جالسا على مقعد في الحديقة العمومية والرؤيا التي اجتاحته والهواجس التي خلفها لديه جذوع الشجرة فعدل عن أفكاره اللامبالية ، يقول السارد أنه بعد إجتياحه " لرؤيا قطعت أنفاسه ... كشف الوجود النقاب عن وجهه فجأة وتخلى عن صيرورته اللامبالية بوصفه صنفا أو نوعا مجردا وأضحى لحمة الأشياء " ص182 وهو ما دفع السارد مرة أخرى إلى التفكير في ضرورة غرس الشجرة لمنحها فرصة للحياة.
كما شكل غرسها بحد ذاته حدثا ونقطة تراجع عن كثير من المواقف ومنها موقفه من قضية والده . كما شكل اليوم الذي تسلمها فيه " الثلاثاء" يوم اقترن بذكرياته السوداء الأكثر إيلاما في حياته " أسوأ الأحداث في حياتي وقعت فيه ..موت أمي ..اعتقال أبي ..تسلمت شجرة الفيكس منالسيدة " ص145 مما جعلها تقترن به الى الحد الذي اعتبرها قائلا " أنا وهي ضحيتا صدفة جعلتنا مؤتمنين على هذيان روبي وهو يحتضر " ص146 مما أبرز العديد من التجليات الداخلية الى حد تملكها له " أغمض عيني وأراها ، أسير في الدروب وأراها ، أجلس في المكتب وأراها ، كأنها تستعجل بأناة من الحياة في الأص وتنمو بداخلي بتبات وعنفوان." ص145 .
لم يكم من اليسير على السارد الوصول إلى تلك القناعات لولا إحساسه العميق وخوفه الكبير من الموت ومن موتها بشكل خاص فقد كان يشعر أحيانا " أنها ستموت مهما ( حاول) لآنها لاتمتلك إرادة البقاء ..ستموت لأنها معقدة ولن ( يفهمها )أبدا.."ص104.
لقد سيطرة فكرة الموت على دهنه بدء من موت أمه وأحلامه داخل المدينة ، وألمه كثيرا كون كل الأشياء الجميلة تموت بسرعة لأنها.. تأتينا من هناك... إن لم نمنحها قناع هشاشتنا وبؤسنا وحزننا القيم" ص182.
ولعل هذه القناعة تم استخلاصها من إجهاض حلم المهندس فورجول الذي رسم مخططا للمدينة وتمنى أن يجعل منها " تقدس الأشجار والماء وتحتفي بها"ص 108 وقد شكل الحديث عن الشجرة مع العاهرة في نهاية الرواية جسرا للمرور إلى مساندة أبيه بعدما أقنعته بكون الموت والحياة بيد الله ، يقول " جلسنا قرب الحوض .قلت لها وأنا اشير إلى الشجرة إنها تموت منذ ثلاثة أشهر ، فردت بسرعة الأعمار بيد الله ..ذهبت إلى المطبخ مزقت قطعة كارطون وسويتها وكتبت فيها قولة أوسكار وايلد ..وغرستها قرب الشجرة ...حتى استريح ..ربما تحررت من أوراقها القديمة لتلد أوراقا أخرى يانعة ومزهرة "ص 221
أن عودة الشجرة إلى الحياة تزامن مع عودة العشيقة التي ستدفعه بكل ما أوتيت من قوة لنصرة قصية والده .لنستخلص أن الشجرة شكلت البداية والنهاية لأحداث رواية اتخدت بعوالمها بعدا كونيا رمزيا متطلعة نحو آفاق أرحب ، نحو الحياة المتجددة باستمرار وإصرارخفي جدا.
V صورة المرأة من خلال كتيبة الخراب .
شكلت المرأة داخل المتن الروائي بمرجعيات متعددة ، صد التيه ( العاهرة ) مصدرا للحب ، والصلابة ، والقوة ( الأم)نموذجا للطيش والمراهقة ( ليلى العميري )، المرأة الكاريزمية ( خديجة النايلي "ابن سيرين" )، ناهيك عن نساء أخريات جاء الحديث عنهن عرضا كما هو الأمر بالنسبة لنساء السوق والحافلة.
فالأم ، كانت صورتها تجتاح السارد كلما أحس بالضيق ، أو انتابه الحنين إلى ذكراها يقول " أتتني صورتها وأنا متكئ على فخذها في الباحة ...وفوقنا سماء زرقاء يدرعها غمام يسرق من حين لحين ظلها الذي استريح فيه ويرحل " ص182 كما شكلت مرجعا للحكي وتعزيز كثير من المواقف بحقائق حول قضية الأب يقول " حكت لي أمي بأنه طيلة شهر بدا فيه قلقا ، مغتما ، كان يسير إلى العين ةيحدثها عن الماء الذي يلامسه ، والعشب الذي يدوسه والحجارة التي ينصت إليها ، وبرذاذ الشلالات وهي تهدر " ص 212 . كما بدت صورتها الذابلة والعليلة كوريقات الشجيرة (فيكس) وهو يسترجع ذكراها بحسرة كبيرة قائلا " طيلة شهر لم يعد النوم نوما ، ولا الأكل أكلا ..طيلة شهر ترغمنا في عار العجز المطلق ، وعار الصحة ، وعار الحياة ، وهي أمامنا تذبل وتتوارى" ص118. وكانت أفجع اللحظات لديه على الإطلاق لحظة موتها التي ظلت عالقة بحرقة في ذاكرته يقول" واتتني صورتها وامرأة شاحبة من حجرتها لتعانقني قائلة " البركة في رأسك أوليدي مشات عند مول الحق" ص199 بالإضافة إلى كونها شحذت ذاكرته بالكثير من الصور المشرقة عن ماضي والده النضالي منيرة البؤر المظلمة والحالكة والمجهولة لديه عندما اخبرته بأنه " كان من ابرز وجوه مقاوة الأستعمار بالقبيلة ، وكان خطيبا سياسيا كبيرا يبز الفرنسيين فرنسيتهم" ص 98
كما شكلت الأم صلة الوصل بين السارد ووالده ، بسبب طبيعة العلاقة المتوترة بينهما نتيجة للجفاء والقسوة ، لتلعب دور المساعي الحميدة ، والوساطة المتزنة في العديد من المواقف" كل ما نريده من بعضنا ، يودع عند الأم ، ترعاه تشذب حدته ، تسقي جفاءه بماء رقة حنان، تعيد تشكيله تتناساه أحيانا مراعاة لظروف لانتفهمها أحيانا " ص 68
فالام شكلت واجهة حقيقية ودرعا لكليهما وجسرا تمرر من خلاله مواقف الواحد للآخر " لم نعرف بعضنا حقا وبميثاق لا ينتهك إلا عبر الصورة المرضية التي كانت ترسمها الأم لكلينا لذى الآخر "ص 68
أما ابن سيرين " خديجة النايلي " فقد تمت الإشارة إليها أثناء وصفه لتشكيلة الخراب المتوغلة داخل الإدارة في كونها امرأة كاريزمية " تفرض طقوسا معينة على الفزعين إليها من ليل كوابيسهم كأنهم يدخلون زاوية دينية "ص 53 . وهي نموذج للموظفة القاسية والمعقدة بسبب عنوستها تؤجج حروبها المفتعلة مع الموظفين مستغلة منصبها للضغط عليهم وهي من المحسوبين على الإدارة.
أما نادية لعميري جارة السارد والتي ظهرت فجأة في حياته، وحفها باهتمام مبالغ فيه أحيانا فهي شابة مراهقة كانت تضرب عليها حراسة مشددة من طرف والدتها وأختها سلمى ، وتعتبر المرأة الوحيدة التي رسم ببلاغة ملامحها قائلا" بالتماعة خاطفة لاحظت أنها المرة الأولى التي أراها فيها وقد وضعت باحتشام شديد احمر الشفاه وغطت تورد وجنتيها الأصيل بتورد زائف طلي بفجاجة يد مبتدئة ..كانت المراهقة الفاتنة والمعتزة بنفشها بشكل يكاد يكون مرضيا تخلي مكانها للمراة القادمة " ص37 . وقدجمعته بها صدفة وعلاقة تعاون من اجل إنجاز بحث حول "إعادة تشكيل حياة الأعشى من خلال شعره" ص7 ، وبحكم الإقتراب منها كثير تورط في حبها بشكل غامض وهو امر تجلى بوضوح " عندما قال السارد "حين نقر أحدهم الباب بشكل مؤدب زف قلبي وأنا أخال الطارق ليلى العميري " ص174 ولعل هذا القلق والإهتمام هو ما جعله يرسم ملامحها بكونها كانت ذات عينان جميلتان تتسعان فوق وجنة بارزة وذابلة وتحت رموشها يتمدد هلال أزرق .." ص 81 إن ما أجج تعلق السارد بها هو تمنعها وعنادها وحدرها في علاقتها معه بحيث كانت دوما رفقة أختها الصغيرة سلمى. ونظرا لتوثر علاقتها بالسارد على إثر إيماءاته الجنسية حول سلوك الأعشى ، ورغبته في ممارسة الجنس معها ، فقد رحلت عنه إلى أن التقاها فجأة ذات يوم يقول " في باب المؤسسة إلتقيت بنادية لعميري ، حاولت أن تتجنبني لكني اعترضت طريقها باصرار وغد قائلا " لاينبغي أن ندع الأعشى يفسد علاقتنا" ص193 غير ان موقفها منه كان واضحا ونهائيا وهي ترد عليه " بنبرة نائية وساخرة ، لم تشف بعد ، ليست الحياة لهاتا وراء اللذة ، أنك تبحث في الأعشى عن ذاتك أنت ..تملكك الأعشى " ص 194 .
وفي نظرنا المتواضع فشخصية ليلى العميري هي الوحيدة من بين شخوص الرواية التي أماطت قناع السارد وأدركت حجم معاناته الحقيقية ، فهو والأعشى كانا وجهان لعملة واحدة داخل هذا المتن .
أما العاهرة والتي كان لقاؤها بالسارد بمحض الصدفة ، وافتتن بها كذلك إلى حد كبير ، رغم كونه كان يدرك ماهيتها وعمق المستنقع الآسن الذي تسبح فيه ، يبحث فيها بالإضافة إلى لذة الجسد ، عن ما يتقاسمه وإياها ، كالمعاناة ، والقهر و، والحرمان ، والتحرر ، وتعذيب الذات ، والتيه ..وسط عالم يعج بالمتناقضات يزدري القيم ، ولايحترم القيود على الإطلاق ، يقول" في كل مرة كانت تعطيني إسما جديدا " ص 63 وينتهي اللقاء بمزيد من الوعود والأكاذيب " أعدك بأنني سأكلمك من هناك حين أصل ، وأعطيك وحدك اسمي الحقيقي " ص 62 وهذه المعاملة التي تحاول تمديد عمر تشويقها وحباله نابعة من إثارة الجسد وغنج المرأة ، لأنها كانت مدركة لمآربه، وهو ما شكل لديه هوسا وجنونا وصل حد مطاردتها في كل مكان .فأضحت تخاطبه بلهجة قوية ، ومختلفة " قالت وهي تصرخ تقريبا ، تصر على بهدلة نفسك ، لماذا تتبعني حتى هنا " ص 134 . ورغم الوجه الحربائي لهذه الشخصية فهي الأخرى كانت مكانة السارد بالنسبة لها تشكل استثناء ، مقارنة مع باقي عشاقها وزبنائها ، وهو ما يمكن استنتاجه من المقطع التالي بعدما تغزل فيها ببيت شعري بحيث قالت له" لي دفتر مليئ بالخواطر الأدبية ، سأطلعك عليه في يوم ما ، قبل أن أرحل " ص 135 وفكرة الرحيل بالنسبة لها هي الأخرى كانت تشكل حلما وانعتاقا من بؤرة التطاحن والإستغلال اليومي الذي تعيشه من أجل لقمة عيشها .ولعل صد العاهرة للسارد في مواقف متعددة كونت لديه قناعات متضاربة حولها ، كانت تجتاحه في أعتى اللحظات دمارا ليعذب ذاته ويتلذذ بذلك لما وصفها بالسراب يقول " سراب أحبه لكنه نخلص لسرابيته " ص136 وهي اللحظات التي برزت فيها إنشطاريته وهو يحاور الأعشى الذي استحضره من ذاكرة التراث ، ليدخل معه في حوار حول الحب والنساء والسفر ، لتبرز خفايا الذات المتمزقة يقول السارد "ثمة فواصل من العشق أنتزعها في هذا العطب ومن مناحة الصحراء الكبير وأفياء الرؤى المترقصة " ص 137 وكذلك من خلال تعقيب الأعشى ودفاعه عن نفسه ، والذي لم يكن سوى وجهة نظر الآخر وصراعه مع النفس إذ يقول " إنك لاتعرف حياة النذرة في صحراء سحيقة والحاجة الدائمة لأن تتقاسم مع الناس ما لايمكن تقاسمه " ص 138 وكأنه كان ينظر إلى مرآة نفسه يتوغل بفعل السكر نحو الأعماق كاشفا عن حقائق ذاته وحيرته ومأساته ، وهو يدور في حلقة الإنتظار ." قالت لي ذات مرة أنت لست كالآخرين ، لذلك سأمنحك ماهو أبقى من الحب لذة الإنتظار " ص 171 .
ولعل الإنتظار هو ما تسبب في لهفة لقائه بها فيما بعد وهو في قمة سجونه وبأسه معتبرا إياها " كالرحمة التي تخرج من الخرائب والرماد" ص 215 رغم كونه كان يبحث عن الخلاص في جسدها ، فقد خلصته من هواجسه وتردده وهي تزرع فيه الأمل ، تجدد قواه ، تمنحه القدرة على نبد مواقفه بحثه على عدم خذلان والده ، كما أنها هي التي قامت بالخطوة الأولى التي أعتبرها مسار تحولا كبير في الرواية بتوزيعها " البيان على العابرين" ص 222 في شارع محمد V .
إن الصورة التي رسمت لهذه الشخصية رغم سلبيتها في البداية ، فقد استطاعت بفضل جرأتها وانسجامها مع أفكارها ، وإيمانها بقناعاتها التحول إلى عنصر إيجابي من أجل نصرة قضية عادلة ، مكسرة دائرة التردد ، والصمت اللتان ضربت حولها.
أما أم ميمون الحلاق فقد كانت نموذجا للمرأة الصلدة والقوية في مواجهة الأخرين لكنها كانت تنهار أمام ابنها الذي تعمل جاهدة لإرضائه ومساندته في كل قراراته وحماقاته فهي لم تتردد في إلقاء اللوم أصدقائه يقول السارد" كلما قام ( ميمون) بإحدى حماقاته تهاجم بشرلسة كل معارفه محملة إياهم المسؤولية" ص77 وتعود أسباب تصرفاتها إلى كونها كانت تحاول الحفاظ على كرامة ابنها وإعادة الإعتبار إليه مما جعلها نموذجا للأم التي تغلب العاطفة على العقل ،اعتبارا لأميتها كذلك ولمحدودية أفاق تفكيرها وخصوصية نظرتها للواقع.
VI بني ملال من خلال كتيبة الخراب .
يشير الدكتور محمد عزيز الماضي أن الرواية غدت "هي التجسيد الإبداعي للوعي المديني الصاعد لفئات الطبقة الوسطى كما أصبحت الجنس الأدبي الطالع مع هذه الفئات في نهضتها التي تأسست برؤية منفتحة على العالم " (5) وقد جسدت رواية كتيبة الخراب فضاء بني ملال بامتياز بمسحها لأغلب معالمها وفضاءاتها المختلفة حتى أضحى من الصعب التطرق إليها كلها نظرا لإرتباط بعضعها بقضايا وأحداث جانبية متعددة ومتغيرة ... وأضحى التغيير " مفتاح كل ما يحدث في المدينة التي تتباعد أضدادها أو تتصارع تتداخل حسب شروط التغيير وتحوله(6) وسوف نقتصر على اللافت منها نظرا لتشكيله للحمة لا محيد عنها في بناء الحبكة الروائية والمؤثر منها على مسارها كالإدارة ومحل ميمون الحلاق ، ومقهى الشعراء ، شارع الحنصالي ، وعين أسردون ، وحانتي الطاحونة القديمة ، واللقلاق ، وسويقة لغديرة الحمراء ، والسوق الأسبوعي ...ولعل هذا التعدد هو ما وسم الرواية بكونها رواية المكان الذي اضحى فيها في غالب الأحيان صانعا للحدث مؤثرا فيه من خلال توظيف تأثيت عرى الزيف ، وأبرز حرقة امتزجت بسخرية لاذعة ، وقاتمة جدا حد الهجاء .مما جعلنا نلمس بحث الكاتب " عن عناصر التخلف العميقة ومواجهته لها في مستوياتها المتعددة وتجلياتها المتباينة(7) مبرزا لمواقفه واحتجاجاته من قضايا متعددة كالإستبداد والظلم والإستغلال ، والإستهتار ، والدعارة ، وسوء التدبير والتسيير ، والهجرة ، مما حول مواقفه إلى دعوة صارخة تطمح إلى تكسير قيود التخلف واسبابه من خلال طموحه الجاد للإنفتاح المدينة على آفاق أرحب وأكبر .
ولعل المواقف التي نستخلصها جاءت في أسلوب حانق جدا ممزوج بالإستهزاء والتشفي أحيانا يقول عن المدينة" مدينة يشيخ فيها الناس يأسا ، قنوطا بعد العشرين ، ويموتون أحيانا بعد اربعين " ص( أنها مدينة النحاس والموت ، مدينة كتيبة الخراب والهدم) والمزابل والحفر الصامدة ، الأشجار الباسقة تسير نحو موت مؤكد ، القذارة والفوضى مزهرة " ص100 وهي حالات كانت تدفع السارد إلى التساؤل بقلق كبير " أي قناع تحمله هذه المدينة إزاء قدر الخراب ؟"ص 87 والإحساس بالتدمر كان يدفعه في نفس الوقت إلى الشعور بالهزيمة فيحاول العودة إلى الصمود " كنت تقول لنفسك ، لاينبغي أن تهزمك المدينة مجددا ، لن تبتلعك الرمال المتحركة للنميمة والإشاعة والحقد القبلي المعمم" ص 51 لتضحى في إحدى اللحظات في نظره كونها تفرج رجليها للغريب كالعاهرة ، لا لن تطول هامة عاهرة ..إنها أحقر وأرخص من عاهرة "ص 63
ولعل هذه النظرة الدونية هي التي دفعته إلى الإنتقام منها ومن نفسه أحيانا كلما أحس يتعميق أزمته النفسية يقول " كلما هزمت المدينة وهزمنا معها في انتخابات أوتعيينات جديدة نضع على رأسها الأسود (نصعد) إلى قصر عين أسردون أو إلى ساحة قنص الحمام حيث تبدو المدينة باضوائها تحت أرجلنا فننزل سراويلنا ونبول عليها وعلى أنفسنا وعلى سراويلنا وعلى المعارضين"ص 168
وقد اتضحت مواقف السارد من المدينة من خلال تحولها العمراني العشوائي كأنها " تهرب من حقيقة ما تتضخم عمرانيا بصمت بما تلفضه أراضي البور في ديمومة الجفاف من مناطق احمر والسراغنة وبني مسكين والشياظمة وتختفي تدريجيا كل مظاهر التمدن " ص56
إن الخراب الذي لحق المدينة من الداخل يمكن ملامسته بالقاء نظرة على واقع بعض معالمها وما آلت إليه ف"' دار الشباب الوحيدة مخنقة وكئيبة ، وأصحاب داري السينما تركوها لخراب مغولي ..(ليحولوها) إلى قيصاريات تجارية أو مطاعم شعبية مزهرة.. مقرات الأحزاب مغلقة والمناضلون يتوخون الحيطة والحدر من اعداء وهميين" ص56 فالمدينة أضحت مستنقعا آسنا فاقدا لكل جمالية هندسية أو معمارية وحضرية " دور زحفت على الأشجار من كل صوب بغيض مكتوم ، أزقة ضيقة قبيحة ملتوية ، إسمنت يتلألأ بشماتة في شمس حزينة"ص 109 وداخل هذا الخراب تطفح" وجوه أطفال يأكلها القدى ما زالت تحمل صهد وهباء وبؤس الدواوير التي كنسها الجفاف ...يد كبيرة تدفع العربات ..غبار نزق يتطاير ..كأن المدينة تغلي تحت مرجل " ص107 وهذه الصور البائسة لم تكن مكتملة فسرعان ما عثرنا على أخرى أكثر قتامة ، يقول " بغال وحمير تدرع بأبهة حواري المدينة ..قطعان ماعز قلق يحتمي ببعضه ..كلاب ضالة.. همم تسير في الشارع الأوحد بلا هدي، مكتئبة صامتة كأنها تشيع جنازة مدينة تقضي نحبا يوميا" ص107.
ولعل فضاء سويقة الغديرة الحمراء قد استأثر بحيز مهم يقول " رأيت العربات الكثيرة التي تجرها بغال هزيلة منهكة ، ونساء يقتعدن الإسفلت ويعرضن البيض ، وتيمجة ، وفليو ..رأيت سمكا تنهكه الشمس والذباب الضاريات ، ومتسولين يشهرون عاهاتهم بامتنان للقدر " ص196 . أما شارع الحنصالي فبه الباعة الذين يفترشون جوانب الطريق يعرضون ماعافته شركات التصدير من ألبسة ، وأواني ، وبعض نفايات أروبا " ص74.
ولم تفت السارد الإشارة إلى الحمقى والمجانين والمتشردين والغرباء الذين تعج بهم المدينة ، يقول " ظهروا فجأة .. أنصاف عرايا يهدون ،يجذبون ، يصارعون أعداء غير مرئيين أو يلوذون بصمت حكيم " ص() . وإلى جانب هؤلاء انتشرت دور البغاء ، والدعارة بالمدينة ، والتي جاء الحديث عنها عرضا في الرواية يقول " وجدت نفسي فوق حصير فظ في دار غريبة بين إمرأتين والحلبي .. وأنا أتملى الوحش الرابض بداخل العاهرتين ، أرصد برودته ونهمه وجرحه القديم الذي يجعله عدوانيا ضد كل رجل تمكن منه " ص 65 .
في حين اعتبر مقهى الشعراء محطة أساسية للسارد وصديقه الحلبي بعد توقيع محضري الدخول والخروج ، لقراءة الجرائد وهو مكان وصف بسخرية عالية يقول السارد " مقهى الشعراء كانت تشبه مقبرة من الرواد وحدها الوجوه الأبدية تناثرت وقد لفها ) البرد على نفسها كسرطانات بحرية خلفها جزر مباغث فوق المقاعد الخشبية الخضراء" ص 31 في حين استأثر السوق الأسبوعي بحييز مهم من خلال التأريخ له بأحداث تعود إلى فترات سحيقة عندما كانت مدينة النحاس معبرا للقوافل الرابطة بين إفريقيا جنوب الصحراء ، والمشرق وأروربا ، كما أنه كان يعقد كل يوم ثلاثاء يقول السارد ص 146كان "يعقد قديما في منطقته الأولى قبل أن يتحول إلى جانب المقبرة القديمة بعد ...أن انفجرت قنبلة مرتجلة في ورشة حدادة أثارت الهلع والعناد لذى الحكام الفرنسين (و) أنزل قليلا ليستقر قرابة نصف قرن في مكانه الحالي ليجلى منه" ص190وقد تمكنا من معرفة مكانه بالضبط من حلال اخباره لوالده أثناء زيارته له في السجن بأن رئيس المجلس " قررر نقل السوق الأسبوعي إلى أحواز المدينة ليبدأ مشروع التأهيل الحضري للمدينة"ص 189. وقد وصف السوق بانه كان سوقا باذخا وأن أجيالا كاملة " تدين لها بالكتب .. والعيوط الملتاعة والكلمات الفاجرة وعروض المحاكاة الساخرة التي سمعتها .. والعمليات الجنسية الفاضحة في رحبة الحمير وروضها العاطر الساحر "ص 190
كما يشير السارد إلى شخص فلوندران في تخليد ماضيه التليد فهو السوق " الغسقي المليئ بالزرابي والجلاليب والخيام البيضاء "ص 190 ولعل الصور التي قدمها عن المدينة لم تكن أحسن حالا من البادية التي وصفها بحيرة ودهشةوحسرة ، نظرا لما تزخر به من خيرات بالمقارنة مع سكانها الذين يعيشون على حافة بؤس مدقع تحت وطأة الهجرة نحو الخارج عبر قوارب الموت يقول " مررنا بسواقي لاتسع الماء الذي يندلق على جانبيها ، وبأرض شاسعة لم يجرفها محراث بعد .. دواوير لم يكن ليذكرها أحد حتى ظهرت قوارب الموت" ص169 .
VII تركيب واستنتاج
استطاع الروائي عبد الكريم جويطي استثمار العديد من الوثائق من خلال وصف متحرك بليغ وتوظيف فضاءات أغلبها واقعية أضحت أمكنة أساسية دون تخليه عن الوظيفة السردية للرواية ، مما جعل حضور الأمكنة تحكي قصصا بواقعية كبيرة في إطار من التناسق والتسلسل هدف من خلاله إشباع توقعات القراء . وما منحنا الإنطباع كون التعامل مع الأمكنة لم يكن انتقائيا لكونها شكلت بصورها القاتمة والمفزعة والغريبة بعضا من قناعات السارد - مجازفة- وأبعاد شخصيته ، فجاءت بني ملال مصورة بشكل سردي اعتمادا على توظيف أنماط من التصوير منها الخارق كما حدث مع الجني في كهف الصينية " والتاريخي بالعودة إلى متون التاريخ وصور فلوندران بحثا عن نموذج واقعي من خلال توحيد وصف تلك الأمكنة إلى مواقف سردية كما حدث عند استشهاده بحكاية فورجول ومخططه للمدينة" للتطلع إلى المساهمة في بناء حبكة الرواية وبناء صور الشخصيات فأضحى ميمون الحلاق ومحله يحكيان قصة الهجرة / ومياه عين أسردون تحكي قصة الأب ، والإدارة قصة السارد والمدينة ، والبيت قصة الشجرة والأم وليلى العميري ، والحانة قصة العاهرة والمقهى قصص موظفي المدينة ، والهيئات النقابية والسياسية والصحافة والشارع حياة المشردين والبؤساء مما أقحم الرواية ضمن الأنماط الجديدة للكتابة حيث البطولة جماعية للشخوص ، انطلاقا منمحاولة تأسيس وعي جمالي جديد من خلال الإعتماد على مخاطبة القارئ والتعليق على بعض الأحاث وأحيانا أخرى إبداء مواقف خاصة ربما هدف من خلالها تحطيم الأيهام بالواقعية وتجنب عمله الروائي من كل الإنحرافات السردية..كلما اراد الإنتقال في تسلل زمني من حدث لآخر أو من شخصية لأخرى. كما لاحظنا أنه لم يكن هناك تمردا على اللغة حتى أثناء تجسيده لأقوى اللحظات سخرية كما حدث أثناء تصنيفه للموظفين داخل الإدارة أو تناوله لبعض الشخوص كمحمد النقابة ، وصالح الدركوكي ، والحاج صالح ومآل الوضع داخل القرية بعد وصوله إليها ..مما جعل أسلوب كتابه رواية كتيبة الخراب يصبح دلالة فنية عميقة الإحتجاج على الواقع من خلال رفضه للفوضى ، وسوء التدبير والضعف والمواقف الهدامة.
ويمكن اعتبار أغلب تلك المواقف محاولة لإثارة أسئلة قلقة الهدف منها هو إحداث صدمة لذى القارء ، وليس دغدغة عواطفه من خلال رصد عالم سعيد بفوضاه العارمة.
يقول الدكتور محمد عزيز الماضي " ليست العبرة أو لنقل التجربة أومراعاة الذوق العام ، وليست فعلا يدفع إلى التحريض أو التبعية بل هي في حد ذاتها غاية لا وسيلة ، أو هي فعل عصيان ورفض أو مكاشفة حارقة" *(8)
ــــــــــــــــ
++ كل الإحالات الموجودة داخل القراءة مأخوذة من رواية كتيبة الخراب لعبد الكريم جويطي /المركز الثقافي العربي الطبعة الأولى 2007
(1) د-خالد مشبال رواية المدينة وأشكال التصوير مجلة مجرة ص العدد11 /2007
(2) فؤاد العزاوي – صورة المكان المستبد في رواية " لعبة النسان / مجلة مجرة العدد11 ص 43
(3) محمد برادة / مداخلة "الرواية العربية وممكنات السرد ص31منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون الكويت.عدد357 / الجزء الول نوفمبر 2008
(4) د شكري عزيز الماضي " أنماط الرواية العربية الجديدة / مجلة عالم المعرفة العدد355 السنة 2008 ص 11
(5) د عزيز الماضي ........ص 144 مدكور سابقا
(6) د عزيز الماضي ........ص 143 مدكور سابقا
(7) د عزيز الماضي .......ص 169 مدكور سابقا
( 8) د عزيز الماضي ......ص 247 مدكور سابقا
يشير الدكتور محمد برادة أن " الروائي هو جزء من القوى الساعية إلى خلق وبلورة دينامية التغيير وبلورتها والإنخراط في الحداثة بقوة ورؤيا" (3) وهذ الموقف هو ما سعى إليه مؤلف كتيبة الخراب في تجسيده الإبداعي بنظرته اليقظة ، والقلقة ومواقفه الواضحة ، والواعية في تصويره لعلاقة الفرد سواء بالإدارة، أو القضاء ، أو المجتمح بشكل عام . وهي نظرة امتزجت بسخرية ونقد لادعين وصل حد توظيفه لأقنعة خاصة كما حدث مع شخصية الأعشى المستحضرة من التراث العربي ، والذي لم يكن في واقع الأمر سوى الكاتب المتواري وراء سارده بامتياز.فألأحكام التي كان يطلقها ، والتعليقات ، والردود التي كان يوظفها من خلال ظهوره في الخطاب ، وكذلك علاقته المعرفية بأغلب شخوصه الروائية التي منحت السرد مصداقية عالية ، بدت دلالاتها وتجليتها وكأنها تؤسس واقعا يفتح مجالا أرحب أمام توقعات القارئ كما تجلى ذلك أيضا من خلال قصدية العنوان ودلالاته اللفظية باعتباره عنوان مباشر ، وفي نظرنا المتواضع يثير احتمالات متعددة .وهو ما يجعل النص يدخل ضمن الأنماط الجديدة للكتابة الروائية العربية . يشير د عزيز ماضي (4) أن "مهمة الرواية الحديثة تتمثل في تجسيد رؤية فنية ، أي تفسير فني للعالم ، والرؤية كشف جديد لعلاقات نفسية ومن خلالها هذا الكشف الجديد تتولد المتعة والتشويق والجاذبية ..فهي تتغلغل إلي جذور الظواهر وتصور العلاقات من الداخل".
فكيف صور عبد الكريم جويطي عالم بني ملال ، وماهي أهم الظواهر التي رصدها من خلال كتيبة الخراب؟
لعل أهم القصايا المحورية التي شكلت اللحمة الأساسية للرواية يمكن تناولها من خلال المحاور التالية :
I الإدارة نموذج صارخ لسوء التدبير والتسيير. قراءة في ملامح بعض الشخوص
II قضية الأب وماء عين أسردون
III ميمون الرجل الذي يريد تطويع البحر
IV شجرة الفيكس
V صورة المرأة في رواية الخراب
VI صورة بني ملال
VII تركيب واستنتاج
I الإدراة نموذج صارخ لسوء التدبير في المدينة قراءة في ملامح بعض الشخوص
قام الروائي عبد الكريم جويطي بتشريح عميق لمؤسسات الدولة من خلال انكبابه على ابراز عيوب الإدارة المغربية بدء من الرئيس المباشر في العمل إلى آخر موظف بسيط ( العون) مقدما عقليات متخلفة لشخوص مثلت قطاعات حيوية كالهيآت النقابية، والسياسية ، والصحافة "صالح الدركوكي مدير جريدة البشائر المحلية " من خلال الحفر العميق في واقع مدينة تعج بالمتناقضات ، وتعيش رتابة قاتلة ، بمكوناتها البشرية المتناحرة ، وغير االمتجانسة في نفس الوقت . مبرزا إياها وكأنها داخل مستنقع آسن يفرض تعايشا حذرا على الدوام ، بالإضافة إلى توظيف أخرى متخيلة كالأعشى التي مثلت قناع الكاتب ومن خلالها تم تمرير مواقف بدت وكأنها توجه السارد لحظة تيهانه أو إحباطه ، دون أن ننسى توظيفه لشخوص أخرى استلهمها من أعمال مبدعين آخرين تقاطعت إلى حد بعيد مع افكاره وتصوراته ، كالمهندس فروجل ، وأنطوان روكنتان ، وبيومي بطل رواية نجيب محفوظ * ، وشخوص من رواية جيرمنال " عمال المناجم ، وصور فلوندران مصور الحملة الإستعمارية . كما تمت العودة إلى متون التاريخ كمرجعية وإطار لحصر أو توجيه بعض الأحداث ، أو لتأكيد واقعيتها كما هو الأمر عند استشهاده بداوود بن عائشة ، والإدريسي ، وابن حوقل ، والحميري ، ناهيك عن توظيف عدد هائل من الشخوص بهدف ترك الإنطباع الخاص لدى القارئ من خلال بناء كثير من الأحداث الجانبية ، كما أنها شكلت أحيانا عمقا سينوغرافيا لتأثيت بعض الفضاءات الخاصة ، وهو ما جعل الشخوص الرئيسية تبدو كأنها حفرت بدقة متناهية وبيد مبدع مدرك لعمق النفسيات والتطلعات ، سابرا للأغوار ، والأسرار ، مما نفح الرواية صفة الواقعية بامتياز.
وسوف نركز من خلال قراءتنا للرواية كمبحث أول على بنية الإدارة من خلال تشريح مكوناتها والمتمثلة في موظفيها بشكل خاص اعتماد على تركيبة كتيبة الخرام.
لعل أول إشارة نستشفها جاءت في ص 11 أثناء حديث السارد عن السيد المدير الذي وصفه قائلا " وهو داخل مكتبه يحكي ...بحماس زائد عن إحدى مغامراته ، وسط غلالة من الضحك والدخان ..رمقني بنظرة من صنف تلك النظرات المهيبة ..صعدني من تحت لفوق " وهي صورة تبرز بوضوح نموذجا بسريا مستهزءا ، يقضي سحابة يومه في الثرثرة عن بطولاته الخرافية . وكذلك من خلال موقفه من السيدة الدنماركية التي جاءت لقابلتهووصفها بكونها " مجنونة ..تخلصوا منهت في الولاية وألصقوها بي ، وقيل بأنها تريد أن تهدي سكان المدينة شيئا تافها" ص11
فالفقرة تبرز بعمق التبريرات الواهية التي يعطيها الرئيس لكل القضايا التي تهم المدينة ، ويعتبرها غير ذات جدوى ، وربما يعود سبب استهتاره إلى كونه شخصية مزاجية تعاني من تمركز حول الذات والأنا وهو مايتسبب في نفور الموظف نفسه من العمل داخل المؤسسة ، وجوها المشحون . وفي هذا الصدد يقول السارد " تراءت لي المؤسسة فاحسست بانقباض داخلي ، دخلنا ووقعنا محضر الدخول وخرجنا ص 31 وهي صورة جعلت من مفهوم العمل وأداء الواجب خاليا من كل حب أو ارتباط أخلاقي ، وفارغ من كل معاني التحفيز ، ويتكرر نفس الموقف عند الخروج " عدنا إلى مقهى الشعراء قرأنا الجرائد ، وحين اقتربت الثانية عشرة دهبنا للمؤسسة وقعنا محضر الخروج وسار كل واحد منا إلى داره " ص43
وعند تساؤلنا عن أسباب النفور ، لايتوانى السارد في فتح الباب على مصراعيه لنلقي نظرة في العمق ، داخل عالم يعج بالفوضى ، وهو يتحدث عن الدكتور " الكروازي" بائع شبكات الكلمات المتقاطعة يقول " في تمام التاسعة حين يصل .. يبدأ الطواف على المكاتب يحل ما أشكل من شبكات أمس المتقاطعة باستعجال ، يوزع نسخا من شبكات اليوم ...يأخذ منهم درهما باستحياء أويسجله دينا حتى يتجمع آخر الشهر ، تم يهرع إلى دراجته ليواصل الطواف بالإدارات قبل أن يتفرغ لرجال التعليم في المقاهي."53
وهناك شخصية أخرى جسدت حضورا مهما داخل المتن ، والمتمثلة في شخص "الأخ عبد الصمد" الذي يلقبه السارد " بالوقور" يقول عنه " في تامام الساعة العاشرة والنصف وبعد أن يؤدي صلاة الضحى يخرج .. الوقور ليأخذ حمامه الشمسي الصباحي يخرج معه كرسيه ، وسبحة ، ويسبل عينيه كأنه نائم وهو يحمدل ويحوقل ، ثم يخرج عود الأرك ..ويستاك ..يلبس على الطريقة الأفغانية ، يتكلم بازدراء وعدوانية .."ص54
لم تكتف هذه الشخصية حسب السارد في تبديد زمن عملها بممارسة طقوسها الخاصة فحسب ، بل جعلت من الإدارة مقرا حزبيا ونقابيا ففي ص 157 يقول " قبل أيام علق عبد الصمد ..فوق مكتبه شعارات مكتوبة بخط رديئ من قبيل " الإسلام هو الحل " ولو كره الكارهون... الإسلام قادم أين المفر . وكذلك تحويله لمكتبه إلى مركز للتوجيه والإرشاد يقول" دخل عبد الصمد مع احد المريدين الذين يتدبرهم من أمام ثانوية ابن سينا القريبة ...يتصرفون بثقل ووقار الشيوخ .. حيانا بتحية افسلام ، وبدأ يشرح له فضائل الإقتصاد الإسلامي"ص72
أما الموظفة المكلف بتوقيع محاضر الدخول والخروج " خديجة النايلي " الملقبة "بابن سيرين فهي " تحمل محضر الدخول والخروج ، تسير في خيلاء وعظمة ، كأنها تحمل قربانا عظيما " ص52 وهي سيدة تنازع الوقور في " الزعامة الروحية للمؤسسة " ص53 ونجحت في " تكوين حلقة من الدراويش حولها ، تتعقب البشائر في الليل ، وتجحد بقوة استواء الحياة على أسباب ومسببات." ص53
في حين رسم شخصية الشاويش بوعزة بوقار معتبرا إياه "عايش كل رؤساء المؤسسة، .. الجميع يقترب ويسترضيه ، إنه يستطيع أن يعلي شأنك أو يخسف بك الأرض "192
يبرز مما تقدم أن كل واحد من هذه الشخوص كون له عالما خاصا به داخل الإدارة وهو ما منح السارد انطباعات خاصة دفعته إلى اتخاد المواقف اللازمة إزاءها يقول مخاطبا نفسه " كنت في الشهور الأولى تدفن رأسك في كتاب طيلة الساعات التي تقضيها هناك لامباليا ..وما أن توقع محضرالخروج حتى تهرول كأن غيلانا تطاردك ..فتنتهي هاربا من مؤسسة إلى مؤسسة أفضع يحملونها بداخلهم"ص52 ولعل المعاينة المستدامة هي التي دفعت السارد في نهاية المطاف إلى اتخاذ موقف صريح وواضح يقول " كانت السنوات القليلة التي قضيتها بالمؤسسة كافية لأعرف بأن فضيلة الفضائل هي اللمبالاة الصلدة والحياد التام " ص 59 ولم يتوصل إلى تلك القناعة إلا بعد مكابدات كثيرة ومريرة يقول " اكتشفت بغير قليل من الدهشة شيئا فشيأ ، خفة عباد الله الموظفين الدين حشروا مثلك في المؤسسة ثم هم متحررون من عذابات تبكيت الضمير يوقعون محضر الدخول ويروحون ليتدبروا شؤونهم او ينتشرون في المقاهي ثم يعودون قبيل الخروج لتوقيع محضره"ص50
لم يكتف سارد كتيبة الخراب برصد قتامة الواقع داخل الإدارة بل دفعته التجربة إلى تكوين قناعات أكبر ، وقراءة للواقع المغربي بشكل عام محملا المسؤولية للدولة نفسها " محلات الدولة العشوائية ورغبة وزارة الداخلية قد رهنت " الدولة " بين أيديها أن تبدو أما حنونا وحضنا متفهما لكل مشاكل الوطن " ص51 وتبدو الإشارة واضحة إلى الحملة التي قامت بها الدولة للتوظيف المباشر " الشباب والمستقبل" والتي تم استغلالها بشكل بشع من طرف" رؤساء المؤسسة المتعاقبين في خدمة اقاربهم وأبنائهم " 51 وهو ما نتج عنه التكدس ، وبروز ظاهرة الموطفين الأشباح " الكراسي لاتفي ، ويتردد المواطن في الدخول إلى مكتب لأنه يخال المر يتعلق باجتماع غداري أو أن مواطنين سبقوه لقضاء مصالحهم "51.
لقد أفرزت هذه الوضعية نماذج بشرية مسطحة الفكر ، مغتالة بفعل الروتين ، ولا مبالية بشكل مطلق ، لا تهتم إلا بمشاكلها الخاصة ، وهو يصفهم بسخرية لاذعة يقول " يتلهون فقط بالتعمق في تفاصيل الأمراض العديدة التي غنموها من مكاتبهم "ص128 مما دفعه إلى وضع تصنيف لهم ، فهناك البيوميون " نسبة إلى بيومي بطل رواية نجيب محفوظ ، والمتسلطون في الآن نفسه " ص129 والأكاكيفتشيون نسبة إلى موظف غوغول أكاكي في رواية المعطف وهم " الذين يقنعون بالوضع الذي جعلتم فيه الصدفة الإدارية " ص170 ثم صنف آخر ينتمي إليه وهو الذي سماه " قطيع المؤسسة الصامت والوديع الذي لاتتجاوز ( أحلامهم مشاكلهم وهمومهم ) الفردية البسيطة " ص 149 .
لقد استطاعت كتيبة الخراب رصد أشخاص أخرين من خارج الإدارة كالصحافة المحلية في شخص صالح الدركوكي مدير جريدة البشائر المحلية كما جاء على لسان صديق السارد الحلبي واصفا الرجل بكونه " ليس أستاذا ولاهم يحزنون ، بل ماكينة إشاعات ونميمة،وحقد يجب اتقاء شرها ، فهو لا يستطيع كتابة كلمة واحدة في جريدته ، وشك كثيرون في كونه حصل على شهادة مدرسية واحدة" ص 121 وهي إشارة الى ترامي الأميين على مجالات خطيرة وحساسة كالصحافة واستغلالها في غير وجهتها الصحيحة ، لتظل مواقفها تشكل الوجه المعكوس للحقيقة من خلال نشرها للمواقف الرسمية بتحايل ، ولمواراتها لكل الحقائق كما حدث مع حادث سقوط الجدار على العمال والذي اعتبرته قضاء وقدر ، بالإضافة الى المشاريع الخيالية التي تستنزف ميزانية الجماعة الحضرية وتغرق المدينة في ديون ثقيلة .
ويمكن من خلال بعض المقتطفات تعزيز بعض الأفكار بحيث جاء في احداها أن " رئيس المجلس البلدي ..وجد حلولا عاجلة لكل مشاكل المدينة ..التي ستنجز باقتراض مزيد من الديون " ص20 أما في مقتطف آخر ندرك مدى السخرية التي أبرزها الكاتب من خلال تعليقه على خبر اعتبر بمثابة رد من طرف الجريدة على المتشككين في حادث مقتل العمال جاء فيه " أما عاد فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية ..إن بطش ربك شديد" ص74 ويدعم هذه السخرية كون الكاتب على لسان سارده قد أورد مقتطفا من بيان شكك في الحادث جاء فيه " كيف سقط جدار إثر عاصفة صمدت فيها براريك الصفيح " ص74 كيف يؤتمن من عجز على بناء حائط غير آيل للسقوط على بناء مستقبل مدينة" ص73
لقد وصف السارد صالح الدركوكي " بكونه من صنع المخزن.. فهو من فئة اللصوص ليس له ما يخسره ( ونتيجة ) لسياسة مقصودة تريد أن تحطم تشكل ( أية )نخبة محلية واعية ونزيهة"ص170
في حين مثلت شخصية " الأخ محمد النقابة " قمة الإنتهازية ، وكان أول ظهور فعلي له في الرواية اثناء مواساته للسارد في محنة أبيه ، يقول السارد " انتهرني محمد النقابة قائلا : هم دائما هكذا يعجزون عن مواجهة الشرفاء فيضربونهم من الخلف" ص47 . وتتوضح معالم هذه الشخصية أكثر حين يصفها السارد قائلا " تفسخ زمنه ، وعلاه الصدأ بكلماته الأقرب إلى الشخير التي ذبل بداخلها كل بريق وما زالت تستعذب خرائبها . انتهى محمد النقابة إلى حمل رهاب النظام الذي حاربه من المزاحمة بداخله.." ص 148 ولعل هذا النقد الاذع كان نتيجة لقراءة أحد مكونات الكتيبة والمتمثل في الواجهة النقابية التي حادت عن مسارها الصحيح وتنكرت للمبادئ والحقوق ، ويعزز هذا الطرح استمراره في الزعامة واستماتته في البقاء والدفاع عن كرسيه رغم تجاوز المرحلة له ، يقول السارد ببلاغة عميقة " ينتزع ما لايمكن لغيره انتزاعه من حقوق ، ويتنازل على ما لايمكن لغيره التنازل عليه" ص148
كما يقدم السارد نفس الصورة القاتمة وهو يصف تشكيلة كتيبة الخراب الرسمية من خلال عرضه لمشهد ساخر لمستشاري المجلس البلدي يقول " بعد أن صوتوا مع الأغلبية بالإجماع على تخصيص أربعة مليارات أخرى لإتمام بناء مقر الجهة ..احتجوا على استئثار الرئيس ومن معه في المنصة بقنينات مياه معدنية ، بينما ملئت قنينات باقي الأعضاء بمياه الصهريج .مما دفع المعارضة للإنسحاب" ص180
يقدم السارد صديقه الحلبي على امتداد فصول الرواية كصورة طبق الأصل له من حيث الميول ، باستثناء تميزه بالإستهتار المطلق والمغامرة الجامحة ، وبردود أفعاله السريعة وشجاعته المطلقة وحدة المزاج . فهو كان يقيم صراعات وخصومات مع أصدقائه في العمل ، كعبد الصمد ، ويشارك السارد في كل القضايا والمحن التي تمر به ، واقترن الحديث عنه بضمير النحن. في إحدى المقاطع يصف الحلبي الوقور" بكونه الأخرق الذي يقتفي الظل المتبخر " ص55 ومن خلال مواقفه السطحية أحيانا كما كان الأمر بالنسبة للشجرة عندما تساءل السارد قائلا " لم يفهم كيف أفعل ذلك من أجل شجيرة هزيلة ، تافهة ، لاترقى ‘لى ظل شجرة حقيقية" ص183 ويتجلى حضور الحلبي كذلك رفقة السارد في بار الطاحونة القديمة " شربنا بعض البيرات العاصفة " ص48 ومن خلال مساندته له في قضية الوالد " حدثني (الحلبي ) عن القيام بما يفعله الناس " ص47 وكذلك في قضية ميمون الحلاق " حذثنا عن المليوني ريال اللذان في ذمته لصاحب الحانوت"ص36 وفي قضية صالح النصاب ووسيطه بوزكري " اكتشفنا بسرعة أن الرجل مشوش الدهن واستغربنا كيف يكل لرجل عملية معقدة .. لايتمكن من اجراء عملية حسابية بسيطة "ص163 . وحتى في اللحظات الأكثر حرجا وتدمرا " كلما همزت المدينة وهزمنا معها ..ننزل سراويلنا على المعارضين الجدرين الذين يملأون المقاهي " ص 168 وكذلك أثناء تصنيفه لموظفي الإدارة " نحن قضيع المؤسسة الوديع الصامت"ص 144
ولعل بلاغة هذه الشخصية المستهترة تجلت من خلال موقفه العميق من كل المشاكل التي كان يعيشها السارد وقد لخصها بقوله ساخرا " نعيش في مارستان عظيم مليئ بالكائنات التراجيدية ، ولا نحس بذلك ، واحد يريد أن يسترد الماء لقبيلة تبخرت في التاريخ والأهواء ، وحب الذات ، وضاعت أشجارها ، وآخر يريد أن يطوع البحر بدراجة ، وأؤلئك الذين انتذبوا أنفسهم لحراسة " قلعة النضال والتي أزهر فيها أشد الإنتهازين فتكا ، وأكثر حكايات النهب غرابة" س48 لنستخلص وكأن الحلبي كان بمثابة الصوت الآخر للسارد متواريا وراء شخصية أخرى متحركة وفاعلة داخل الرواية.
II قصية الأب وماء عين أسردون
يعتبر النضال من أجل استرجاع ماء عين أسردون من أهم القضايا المحورية التي استأثرت بها رواية كتيبة الخراب ، وقد بدأت معالمها تتجلى منذ الصفحات الأولى للروايةعندما كان أب السارد يقلب محتويات صندوقه الخشبي السميك الذي يحتوي " على ركام من الأسرار والحجج والأشياء الصغيرة والتفاهات ..ظهائر توقير ..رسائل شكوى ..عقود ملكية توكيل .."ص 26
وإن كان الوضع يبدو للقارئ عاديا ، فإن التلميحات التي كان يدسها الروائي من خلال سارده من حين لآخر كقرائن على عدم اهتمامه وتجاهله لقضية والده باصرار خفي يقول " وحده يملك سر الترابط بين الخليط العجيب ، والأهمية القصوى لكل وثيقة فيه "ص26 بالإضافة إلى وصفه لملابسه وخصوصياتها ودلالاتها التي أبزت طباع الأب " البلغة الصفراء ( وارتدائه ) الجلباب الأبيض والسلهام السود والرزة ، وظهير التوقير للشيوخ ..(و) خنجره الفضي "ص27 منحنا إحساسا ووضعنا أمام تساؤلات غامضة حول اسباب وحيثيات حرب الوالد ونفور السارد منها، لنصل إلى قناعة مفادها البحث عن سر القضية من جذورها وبداياتها الأولى وكيف تشكلت معالمها وتبلوت في ذهن أب السارد ..
تقودنا أحداث الرواية إلى الفترة التي عثر فيها اب السارد ضمن محتويات أخيه لما تم اعتقاله من طرف جيش الإحتلال الفرنسي على عقد كان " وسط مراسلات شخصية ..(و) بموجبه اقتسم الملاليون الماء فيما بينهم ..وضعه في جيبه ولم ينتبه للشياطين الغافية فيه بعد ذلك ..لم تولد الفكرة الحمقاء في رأسه إلا سنة بعد ذلك "ص207
واعتمادا على تقنيات الإسترجاع وبتوظيف سلس للتاريخ يتوغل السارد الروائي عبد الكريم جويطي في مرحلة أبعد مشيرا أن تاريخ كتابة العقد ترجع إلى سنوات غارقة في النسيان بعدما اشتد الصراع بين فخذتي أولا سعيد وأولاد سالم ، وهو صراع كان " ينتهي بالقتل ودفع فدية بخسة ، بعد تدخل المخزن ، وفرض ( صلح مطعون) في عدالته لم يصمد إلا الوقت الذي مسحت فيه مواسير البنادق وتم حشوها من جديد " ص140 . وهو صراع لم يكن ينتهي بشكل مطلق بحيث سرعان ما تعود المواجة حول الماء إلى الواجهة ف"التبست سواقي المياه بمجاري الدم ، ورائحة الأرض برائحة البارود وغلات الجنان بحصاد الرؤوس"ص 141 مما أدى إلى تدخل الشرفاء لفرض الصلح وكتابة عقود لإقتسام المياه بحضور كل القبائل المتنازعة .
لقد شكل العقد بالنسبة لقبيلة " أيت القيال " التي يتنمي إليها أب السارد أهمية كبرى في كون أجداده هم من أشرفوا على عملية توزيع ماء العين وحقن الدماء انطلاقا من الجد الأكبر يقول السارد " يمتلك هذا العقد الذي اختفى وعاود الظهور مرات عديدة في حياة أل القيال الطويلة روحا تمليكية قوية تجعله يرهن كل من وجده منهم لمشيئته ، يتجاهل نفسه ، وينقاد لداع نبوئي يوهمه بأنه مؤتمن على مصير القبيلة"ص 99 لكن نسخ العقد حسب السارد أصيبت بالتلف "لم يتبق منها سوى تلك التي منحت لصالح بن حدو القيال استثباب الصلح . افتقد لسنوات طويلة في رأس عين أسردون ( قرب ) مفصل السواقي " ص 141 ثم انتقل بعد موته إلى بوزكري جده بعد اقتسام البيت، وتركه في بيت العقارب داخل شكارته ، إلى أن يصل إلى عم السارد، وبالتالي إلى والده.
ولعل تلك اللعنة ، والروح التملكية هي التي أصابت أب السارد ودفعته إلى اعتبار القضية ، قضية حياته كلها " منذ أن صنع طواحينه حارب وحده ، كتب الشكايات والتقى بالمسؤولين ورفع القضية إلى المحاكم وسافر إلى الرباط ..وانتظر التشرف بمقابلة ...قام وحده وقعد وحده " ص44 .وأثناء انتظاره للقاء المسؤول وقع حادث تسبب في نزاعه مع قوات الحرس البلدي وهو امر تسبب في حبسه بعد الحكم عليه بالتجمهر بدون ترخيص والتهديد بالسلاح الأبيض.
لقد اتخدت القضية تأويلات متعددة ، فالسارد لم يكن مقتنعا بها أصلا ، واعتبرها " الخبر المهزلة " ص46 وأصدقاؤه في العمل والمقهى كانت لهم مواقف خاصة ، فعبد الصمد اعتبرها " ،محنة" ص 46 ، ومنهم من تمنى له " سراحا عاجلا" ص 47 والحلبي حثه على ضرورة القيام بما يفعله الناس " ص 47 وهناك من حولها من قضية المطالبة بحق تاريخي إلى قضية احتجاج " على غلاء فاتورة الماء "ص 36 والأخ محمد النقابة اعتبرها شططا سلطويا " هم هكذا يعجزون عن مواجهة الشرفاء ، فيضربونهم من الخلف " ص47 والبعض الآخر إلى قضية أخلاقية " ربما فقيه ضبط يعبث بمؤخرة صبي من صبيان كتابه" ص 59 .
ولم يفت السارد استحضار مواقف أمه من القضية عبر استرجاعه لذكرياته قائلا " كم حاولت امي أن تضرب في صخرهوسه ، لكن بدون جدوى ..كم بكت ، وتوسلت ، وغضبت ، وراقبت بمرارة ما يصرفه في طلوعه وهبوطه على قضية فارغة" ص96
في حين كان لصاحب القضية وجهة نظر أخرى وموقف مغاير تماما ، وكان واعيا كل الوعي بعدالة قضيته . جاء على لسان السارد " سنوات وهو يجاهد لرفع هذه المظلمة عن القبيلة ، فماء عين أسردون ملك لأهلها حارب من أجله أجدادهم قرونا ، قدموا ألاف القتلى حتى جاء المكتب الوطني للماء الصالح للشرب ووكالة التوزيع المحلية، يمدون الأنانبيب ، ويضعون العدادات يحتسبون من البقر الأموال الطائلة بغير الحق " ص 45
في حين كانت مواقف السارد ومنذ البداية متذبذبة ومتقلبة إلى رافضة احيانا ، بحيث يقول " لماذا لا أجد نفسي في معركة أبي من أجل الماء ؟ ولماذا أحس بأنه يحارب من أجل شيئ عبثي ..لايثير في مسعاه إلا الشفقة والأسى ؟ " 91 وهذه الحيرة كان يواجه بها والده أحيانا " قلت له مرة .. أن الدولة لن تخرج العفريت أبدا من القمقم ، ولن تقبل أبدا بأن تعيد معكم قسمة الأيام الأولى للإستقلال " ص 97
ورغم نفوره من القضية فوالده كان يحاول دوما إقحامه ودفعه لمساندته باعتباره وحيده وسليل " آل القيال " عندما حاول جره للحديث حول الموضوع يقول " كم حاول أن يجرني للحديث في موضوع قضيته ..لكني وبإصرار شاذ كنت أعرض عنه .. كنت أقابل حربه بنفور زصمت مهين وعدائي.. ولايبدي امتعاضا ولا تعبر وجهه حتى مسحة حزن أو تضايق " ص 96وهو ما كان يتسبب له في قلق دائم وتيه مطلق ، فلبس قناع الأعشى لحظة ليقارن بين والده ، وأب الأعشى متسائلا " هل كان مثلا قدريا إزاء نكبة أبيه أم عاش تمزقا عنيفا بين نقمته وعجزه عن الفعل كحالي تماما ، حين أطبقت صخرة المخزن على أبي ؟ ..حين أفكر في جفاء وقلق وبعد أبي وأب الأعشى أتبين كم سرق منا التاريخ معا أباءنا" ص89 .
ويمكن إرجاع هذا الأخد والرد لطبيعة علاقة السارد بوالده سواء في حياة أمه أو بعد مماتها ، فمجرد الجديث بينهما كان قليلا ومقتضبا " كلا منا المقتضب في ماقيت الأكل وحول الطقس ، وبعض أخبار الجيران ص 66 وهو ما منحه الإنطباع بكونهما أسبه ...".بغريبان جمعتهما صدفة طريق طويل ومرهق يتواطئان على مقاومته بالثرثرة " ص67
وقد شكلت الأم على الدوام صلة الوصل بينهما " لم نعرف بعضنا حقا وبميثاق لاينتهك ، إلا عبر الصورة المرضية التي كانت ترسمها الأم لكلينا لذى الآخر " ص68
ولعل رواسب هذا الجفاء ترجع إلى زمن الطفولة ، وإلى الصورة التي كونها عن والده الذي أحسه دوما غريبا عنه يقول بحسرة كبيرة وكأنه يحاسبه " ما لاعبني ، وما هدهدني ما سهر الليالي فوق رأسي ، ما حماني حيث كنت أتهجى فضاعات العالم ... ما أظهر فرحا بي وأنا أتحامل وحدي وأصعد سلم التعلم الصعب " ص 212 .
لكن هل يتنكر الفرع للأصل ؟ فسرعان ما ستعرف علاقتهما ، وكذلك موافقه من القضية تحولات اخرى ، وكأنه كان فقط في حاجة إلى من يقنعه بوجاهة موقف والده ، ويزرع الثقة في نفسه . وهو ما حدث عندما كان يتجاذب اطراف الحديث مع العاهرة وهما قرب شجيرة الفيكس المغروسة في باحة المنزل ، خصوصا بعد إخباره لها بقضية والده ، فاقنعته بضرورة مساندته معاتبة إياه قائلة " لا يستحق هذا العالم أن تخذل أباك من أجله ..تبدو الفكرة ..دائما جنونا حين لا تجد من يؤمن بها "ص 222 لتعرف مواقفه من قضية والده تحولا مطلقا وقد تم تبنيها من طرف آخرين .
III ميمون الرجل الذي يريد تطويع البحر
شكل مشكل الهجرة السرية إلى جانب مشكل الماء ، وسوء التسيير والتدبير بالمدينةمن أهم القضايا التي استأثرت بها الرواية في شخص رجل حالم جدا " ميمون الحلاق " والذي صوره الروائي عبد الكريم جويطي كدونكيشوط مغربي ، لما يؤمن به من أفكار غريبة جدا من أجل العبور نحو الضفة الأخرى بواسطة دراجة عائمة . وتبدو علاقة السارد بميمون جد وطيدة امتدت إلى زمن المراهقة ، ابتدأت بمباريات كرة القدم ، وهوس ميمون بها حد الجنون ، فهو ص" لم يكن يتنازل عن الرقم عشرة كعظماء كرة القدم ، وعن شارة العميد ، وقذف كل الكرات التابتة القريبة من المرمى " ص35 وشكل حانوته القريب من المحطة الطرقية ملاذا للسارد ولصديقه الحلبي ولاعبي كرة القدم ، وهو يصف المحل وفوضاه العارمة يقول السارد " زين بشكل يبرز مزاج صاحبه ، مجلات تحتل بصمود الطاولة الصغيرة ، وتقاوم عرق الأيدي وعبثها " ص33 " علب بالموليف الفارغة المؤتمنة بثقوب عديدة وغريبة ... لطلاء الأزرق الذي كتب على الجدران كنوع من العقاب "ص 34 و لإ براز جانبا من شخصيته وتصرفه العدواني اتجاه معارضيه كان " يعمل موسى الحلاقة بفضاعة في وجه من تحنق عليه حتى يثقب الصورة وللشماتة يترك الجسد سالما ويعرض الصورة فوق علب بالموليف بمباهاة " ص36
ولم تفت السارد الإتشارة إلى تجاربه العاطفية الفاشلة للتأكيد على اقتران لعنة الفشل بصاحبها الذي صار سجلا حافلا للإنكسارات والفواجع . ومن بين الأسباب التي دفعت ميمون للهجرة تراكم ديون كراء المحل يقول السارد " حدثنا عن المليوني ريال اللذان في دمته لصاحب الحانوت .. وبعد تفكير عميق قرر أن يهاجر إلى إسبانيا " ص37
لقد شكل ميمون شخصية غريبة الأطوار ، يؤمن بأفكاره حد الجنون ، ولا يثنيه أي شيئ في دخوله متاهة المغامرة بكل أهوالها دون مراعاة للعواقب ، وهو ما دفع السارد إلى التساؤل عن ظاهرة الهجرة بحرقة عندما كان يعبر سهل تادلة وما خلفته من آسي في مناطق ظلت مجهولة حتى على خارطة الوطن يقول" مررنا بدواوير لم يكن يذكرها أحد منذ أن وضع بنوهلال رحال تغريبتهم هنا حتى ظهرت قوارب الموت فانتزع لها موتاها حقوقا مضمونة في النشرات الدولية وتحليلات الجرائد " ص161 أما عن موقف من قرار ميمون فقد تساءل حانقا إذ يقول " وللحظات لم أعد أعرف هل كنت إزاء تخاريف مجنون أو إزاء تمرين عصي على الأمل يشحد الأشياء البسيطة المستضعفة لتصنع معجزة خلاص ." ص42 وبالعودة إلى التركيبة النفسية لميمون يتساءل مرة أخرى متأسفا أثناء الحديث عن والدته قائلا " كيف أنشأت إمرأة صخرية ذات مزاج حاد كهذه رجلا حالما وفوضويا كميمون .. أكثر عناد من بغل ، ولايتخلى بتاتا عن شيئ ينازع فيه" ص32 فميمون هو نموذج مصغر لكثير من المأزومين بالمدينة يمزقهم التيه والحلم الخادع بأفكارهم المثالية البسيطة . وهو يتحذث عن بعض أفكار ميمون بعد الوصول إلى الضفة الأخرى ، يقول " يلبس ثيابا زرقاء وبيضاء ...وأن يجرد الدراجة من القضبان وغيرها ..ويدفن الكل في رمال الشاطئ ويسير في الطرقات فأن رآه شرطي قال مواطن يقوم بتدريب رياضي " ص 41 وأفكار ميمون على العموم قوبلت بالرفض من طرف السارد وصديقه الحلبي لكنهما لم يستطيعا إقناعه فتماديا في مجاراته حتى أقصى مراحل جنونه من خلال السفر لتجربتها في بحيرة بنواحي أزيلال فباءت بالفشل . وهو ما أشعرهما براحة نفسية يقول السارد " وكنا رغم كل شيئ سعيدين بدور شانسو بانزا الذي أديناه حتى أخر تفصيل ، ولكن كيف سيخرج من حطام تجربته المؤلمة؟ "ص117 ة
لكن ميمون سرعان انتصب أمامه أمل جديد ، بظهور رجل بأحد الدواوير يدعى " الحاج صالح" " أوهم الجميع برؤاه حول بناء مسجد في دوار مغمور وبتهجير العديد من الأفراد وقد انطبقت حيلته على السكان ورجال السلطة المحلية ، ولم تفت السارد الإشارة إلى الموقف بسخرية عالية يقول " صار الرجل الصالح محل رجاء وتعلق حميم تنطلق بعض زغرودات وأدعية من ناحية الدار المتكتمة لمجيئه أو ذهابه ، وازداد الحليب في ضروع البقر منذ تشريفه ، وراق البئر ، وسمن الدجاج ، صارت الحمير طيعة مسالمة ، وأحس مرضى الدوار بتسحن حالتهم ، وتعلمي الكلاب كيف تصبح أكثر كياسة لإزاء الغرباء ، فتنبح بوقار وحشمة" ص 165
ومن خلال الائحة الخاصة بالمهجرين أورد السارد في صدارتها الفقيه والنساء والفتيات وموظفي الجماعة والمعلمان ... ممما يبرز وطأة فكرة الرحيل ، ورفض أراضيهم التي تتيح لهم فرص العيش الكريمة سعيا وراء السراب . وهو أمر دفع السارد إلى الإندهاش والتساؤل " كيف يتركون هذه المياه وهذه الأرض المعطاء ويتهالكون على بحر غويط ؟ " ص 162 لقد باءت محاولة ميمون للهجرة بالفشل ، ليختفي على الأنظار لمدة طويلة إلى أن عاود الظهور من جديد للعمل كحلاق في حي هامشي ، لكن دون أن تموت فكرته بالهجرة إلى الضفة الأخرى يقول السارد " سحبني من يدي حتى ابتعدنا منه ( الحلبي) فهمس لي تحتاج الدراجة محركا لتسير ، سأشتري بما سادخره ، هنا دراجة اخرى ومحركا ، وسترى هذه المرة" ص205
VI شجيرة الفيكس
لقد شكلت الشجرة الصغيرة التي جاءت بها السيدة الدنماركية في رمزيتها دلالات أظهرت عشوائية التسيير داخل الإدارة من خلال نظرة رئيس الجماعة إليها كشيئ تافه ، ومن جهة أخرى وجها آخر للنضال الصامت والصراع من أجل التكيف وسط مناخ لا تمت إليه بصلة ، وأبرزت المواقف والمواقف المضادة اتجاه حقيقة التفكير في كيفية تدبير المجال واستغلاله . مما عرى الزيف وابرز سلبية النظرة المتخلفة التي لاتعمل سوى على التخريب في مقابل أفكار أخرى لأناس يقدرون المجال الأخضر ويربطون مصير حياتهم به كما هو الخال بالنسبة للمهندس فورجول/ وزوجة روبي " وما يمنحه للحياة من اسرار قوية للبقاء . وما ينعش به الروح من جمال ..ورمزية شجيرة الفيكس بالنسبة للمرأة الدنماركية إشارة إلى مدينة بني ملال التي شكلت انطلاقة جديدة نحو حياة جديدة لسائحين وطآ أرضها ذات يوم واعتنقا السعادة بين ظهرانيها في أزمنة ولت ..لكن عودة الآرملة تزامنت مع أعتى وأعنف لحظات التخريب والإحتضار..
ولعل إدراك رمزيتها من طرف السارد وتحمله مسؤولية رزعها ولو عن طريق الإكراه في البداية ، وكوسيلة من طرف رئيسه المباشر للتخلص من إمراة اتمجهول، جعلته غير قادر على التملصمن وعد قطعه لها لتحقيق رغبةزوجها " بأن تغرس في بني ملال" وقد بدل السارد كل ما أوتي من حيل وجهد لتحقيق تلك الرغبة كنوع من الإلتزام الأخلاقي ، فكان تتبعه لمسارها وبحثه المضني عن توفير ظروف مثالية لحياتها في مغامرة أشبه بالمستحيل .يقول " ما يعذبني بعمق ليس ذبول الشجرة ، وتضاؤلها بل وجودها نفسه ...أراها دائما في دواخلي ذابلة تصارع الموت بصمت ..ينبغي ألا تموت ولو من أجل حزن السيدة ورحلتها الطويلة حتى هنا" ص86 .
لكن عندما نتساءل عن الأسباب الحقيقية التي دفعته إلى ذلك ، ندرك أنها بالنسبة إليه لم "تكن مجرد شجرة، كانت فكرة تكريم وحكاية حب ولهفة ووفاء صارت سيدة من الدنمارك إلى هنا .. إنها تحمل في هشاشتها شيئا متعلقا بي "ص . 70
وتفسير هذا الإحساس نجد صداه في الأشكال والصور التي اتخذتها بكونها صارت جزء منه ، واتخذت حيزا خاصا ومكانة أساسية في صراعه وعزلته " صارت جزء من هدا الحييز الأساسي المشكل من أب وخادمة ودار وعزلة ، وحارة ، وجيران ، وإدارة ، وزملاء ، ومرارات مدينة ولغو" ص70ولعل خوفه من موتها ورهبته أساسا من الموت هو ما جعلها تتخذ سمة القضية يقول " أدركت أن الموت دوما هو شأن وألم الآخرين ، لاقضية لمن ليهال عليهم التراب" ص 72 فأضحى كلما تذكرها يصاب بالذعر وينطلق كالمجنون نحوها " تذكرت الشجرة الصغيرة وهرولت نحو البيت لآ ينبغي أن تموت" ص 93 . ولعل القارئ قد يتساءل معنا عن الهالة التي أتخذتها الشجيرة في مدينة تعج بالإشجار .
لقد كانت الشجرة لحظة هي السارد وأخرى هي أمه وأحاحين أخرى هي المدينة والقضية ، مما جعلها تتلون حسب المواقف التي كانت تواجهه يقول " أي معنى يمكن أن تمنحه لحياتي ولحياة المدينة هذه الشجرة الصغيرة الممتلئة بالإدعاء الفارغ ، أي أمل في تحويل ما قد عجزت فرنسا لخمسين سنة بجيشها وخططها على أن تطول حفنة من رمال القبيلة المتحركة التي امتصت كل شيئ ؟" ص 104 كما تجلت الشجرة في صورة الأم والأمل والرض يقول " ثم اتتني صورتها وأنا متكئ على فخذها في الباحة ..وفوقنا سماء زرقاء يدرعها غمام يسرق من حين لآخر ظلها الذي أستريح فيه ويرحل " ص182 وقد وصل به الأمر أن بدا وقد تملكت عقله وأحاسيسه مما جعلها ترتج بداخله " كنت أهرول باندغاع وقوة وكأني أهرب شيئأ عزيزا من كارثة محققة " ص 104 .
ولن يفت الروائي من توظيف الميتاروارية من خلال إدرج فكرة الكاتب أنطوان روكنتان لما كان جالسا على مقعد في الحديقة العمومية والرؤيا التي اجتاحته والهواجس التي خلفها لديه جذوع الشجرة فعدل عن أفكاره اللامبالية ، يقول السارد أنه بعد إجتياحه " لرؤيا قطعت أنفاسه ... كشف الوجود النقاب عن وجهه فجأة وتخلى عن صيرورته اللامبالية بوصفه صنفا أو نوعا مجردا وأضحى لحمة الأشياء " ص182 وهو ما دفع السارد مرة أخرى إلى التفكير في ضرورة غرس الشجرة لمنحها فرصة للحياة.
كما شكل غرسها بحد ذاته حدثا ونقطة تراجع عن كثير من المواقف ومنها موقفه من قضية والده . كما شكل اليوم الذي تسلمها فيه " الثلاثاء" يوم اقترن بذكرياته السوداء الأكثر إيلاما في حياته " أسوأ الأحداث في حياتي وقعت فيه ..موت أمي ..اعتقال أبي ..تسلمت شجرة الفيكس منالسيدة " ص145 مما جعلها تقترن به الى الحد الذي اعتبرها قائلا " أنا وهي ضحيتا صدفة جعلتنا مؤتمنين على هذيان روبي وهو يحتضر " ص146 مما أبرز العديد من التجليات الداخلية الى حد تملكها له " أغمض عيني وأراها ، أسير في الدروب وأراها ، أجلس في المكتب وأراها ، كأنها تستعجل بأناة من الحياة في الأص وتنمو بداخلي بتبات وعنفوان." ص145 .
لم يكم من اليسير على السارد الوصول إلى تلك القناعات لولا إحساسه العميق وخوفه الكبير من الموت ومن موتها بشكل خاص فقد كان يشعر أحيانا " أنها ستموت مهما ( حاول) لآنها لاتمتلك إرادة البقاء ..ستموت لأنها معقدة ولن ( يفهمها )أبدا.."ص104.
لقد سيطرة فكرة الموت على دهنه بدء من موت أمه وأحلامه داخل المدينة ، وألمه كثيرا كون كل الأشياء الجميلة تموت بسرعة لأنها.. تأتينا من هناك... إن لم نمنحها قناع هشاشتنا وبؤسنا وحزننا القيم" ص182.
ولعل هذه القناعة تم استخلاصها من إجهاض حلم المهندس فورجول الذي رسم مخططا للمدينة وتمنى أن يجعل منها " تقدس الأشجار والماء وتحتفي بها"ص 108 وقد شكل الحديث عن الشجرة مع العاهرة في نهاية الرواية جسرا للمرور إلى مساندة أبيه بعدما أقنعته بكون الموت والحياة بيد الله ، يقول " جلسنا قرب الحوض .قلت لها وأنا اشير إلى الشجرة إنها تموت منذ ثلاثة أشهر ، فردت بسرعة الأعمار بيد الله ..ذهبت إلى المطبخ مزقت قطعة كارطون وسويتها وكتبت فيها قولة أوسكار وايلد ..وغرستها قرب الشجرة ...حتى استريح ..ربما تحررت من أوراقها القديمة لتلد أوراقا أخرى يانعة ومزهرة "ص 221
أن عودة الشجرة إلى الحياة تزامن مع عودة العشيقة التي ستدفعه بكل ما أوتيت من قوة لنصرة قصية والده .لنستخلص أن الشجرة شكلت البداية والنهاية لأحداث رواية اتخدت بعوالمها بعدا كونيا رمزيا متطلعة نحو آفاق أرحب ، نحو الحياة المتجددة باستمرار وإصرارخفي جدا.
V صورة المرأة من خلال كتيبة الخراب .
شكلت المرأة داخل المتن الروائي بمرجعيات متعددة ، صد التيه ( العاهرة ) مصدرا للحب ، والصلابة ، والقوة ( الأم)نموذجا للطيش والمراهقة ( ليلى العميري )، المرأة الكاريزمية ( خديجة النايلي "ابن سيرين" )، ناهيك عن نساء أخريات جاء الحديث عنهن عرضا كما هو الأمر بالنسبة لنساء السوق والحافلة.
فالأم ، كانت صورتها تجتاح السارد كلما أحس بالضيق ، أو انتابه الحنين إلى ذكراها يقول " أتتني صورتها وأنا متكئ على فخذها في الباحة ...وفوقنا سماء زرقاء يدرعها غمام يسرق من حين لحين ظلها الذي استريح فيه ويرحل " ص182 كما شكلت مرجعا للحكي وتعزيز كثير من المواقف بحقائق حول قضية الأب يقول " حكت لي أمي بأنه طيلة شهر بدا فيه قلقا ، مغتما ، كان يسير إلى العين ةيحدثها عن الماء الذي يلامسه ، والعشب الذي يدوسه والحجارة التي ينصت إليها ، وبرذاذ الشلالات وهي تهدر " ص 212 . كما بدت صورتها الذابلة والعليلة كوريقات الشجيرة (فيكس) وهو يسترجع ذكراها بحسرة كبيرة قائلا " طيلة شهر لم يعد النوم نوما ، ولا الأكل أكلا ..طيلة شهر ترغمنا في عار العجز المطلق ، وعار الصحة ، وعار الحياة ، وهي أمامنا تذبل وتتوارى" ص118. وكانت أفجع اللحظات لديه على الإطلاق لحظة موتها التي ظلت عالقة بحرقة في ذاكرته يقول" واتتني صورتها وامرأة شاحبة من حجرتها لتعانقني قائلة " البركة في رأسك أوليدي مشات عند مول الحق" ص199 بالإضافة إلى كونها شحذت ذاكرته بالكثير من الصور المشرقة عن ماضي والده النضالي منيرة البؤر المظلمة والحالكة والمجهولة لديه عندما اخبرته بأنه " كان من ابرز وجوه مقاوة الأستعمار بالقبيلة ، وكان خطيبا سياسيا كبيرا يبز الفرنسيين فرنسيتهم" ص 98
كما شكلت الأم صلة الوصل بين السارد ووالده ، بسبب طبيعة العلاقة المتوترة بينهما نتيجة للجفاء والقسوة ، لتلعب دور المساعي الحميدة ، والوساطة المتزنة في العديد من المواقف" كل ما نريده من بعضنا ، يودع عند الأم ، ترعاه تشذب حدته ، تسقي جفاءه بماء رقة حنان، تعيد تشكيله تتناساه أحيانا مراعاة لظروف لانتفهمها أحيانا " ص 68
فالام شكلت واجهة حقيقية ودرعا لكليهما وجسرا تمرر من خلاله مواقف الواحد للآخر " لم نعرف بعضنا حقا وبميثاق لا ينتهك إلا عبر الصورة المرضية التي كانت ترسمها الأم لكلينا لذى الآخر "ص 68
أما ابن سيرين " خديجة النايلي " فقد تمت الإشارة إليها أثناء وصفه لتشكيلة الخراب المتوغلة داخل الإدارة في كونها امرأة كاريزمية " تفرض طقوسا معينة على الفزعين إليها من ليل كوابيسهم كأنهم يدخلون زاوية دينية "ص 53 . وهي نموذج للموظفة القاسية والمعقدة بسبب عنوستها تؤجج حروبها المفتعلة مع الموظفين مستغلة منصبها للضغط عليهم وهي من المحسوبين على الإدارة.
أما نادية لعميري جارة السارد والتي ظهرت فجأة في حياته، وحفها باهتمام مبالغ فيه أحيانا فهي شابة مراهقة كانت تضرب عليها حراسة مشددة من طرف والدتها وأختها سلمى ، وتعتبر المرأة الوحيدة التي رسم ببلاغة ملامحها قائلا" بالتماعة خاطفة لاحظت أنها المرة الأولى التي أراها فيها وقد وضعت باحتشام شديد احمر الشفاه وغطت تورد وجنتيها الأصيل بتورد زائف طلي بفجاجة يد مبتدئة ..كانت المراهقة الفاتنة والمعتزة بنفشها بشكل يكاد يكون مرضيا تخلي مكانها للمراة القادمة " ص37 . وقدجمعته بها صدفة وعلاقة تعاون من اجل إنجاز بحث حول "إعادة تشكيل حياة الأعشى من خلال شعره" ص7 ، وبحكم الإقتراب منها كثير تورط في حبها بشكل غامض وهو امر تجلى بوضوح " عندما قال السارد "حين نقر أحدهم الباب بشكل مؤدب زف قلبي وأنا أخال الطارق ليلى العميري " ص174 ولعل هذا القلق والإهتمام هو ما جعله يرسم ملامحها بكونها كانت ذات عينان جميلتان تتسعان فوق وجنة بارزة وذابلة وتحت رموشها يتمدد هلال أزرق .." ص 81 إن ما أجج تعلق السارد بها هو تمنعها وعنادها وحدرها في علاقتها معه بحيث كانت دوما رفقة أختها الصغيرة سلمى. ونظرا لتوثر علاقتها بالسارد على إثر إيماءاته الجنسية حول سلوك الأعشى ، ورغبته في ممارسة الجنس معها ، فقد رحلت عنه إلى أن التقاها فجأة ذات يوم يقول " في باب المؤسسة إلتقيت بنادية لعميري ، حاولت أن تتجنبني لكني اعترضت طريقها باصرار وغد قائلا " لاينبغي أن ندع الأعشى يفسد علاقتنا" ص193 غير ان موقفها منه كان واضحا ونهائيا وهي ترد عليه " بنبرة نائية وساخرة ، لم تشف بعد ، ليست الحياة لهاتا وراء اللذة ، أنك تبحث في الأعشى عن ذاتك أنت ..تملكك الأعشى " ص 194 .
وفي نظرنا المتواضع فشخصية ليلى العميري هي الوحيدة من بين شخوص الرواية التي أماطت قناع السارد وأدركت حجم معاناته الحقيقية ، فهو والأعشى كانا وجهان لعملة واحدة داخل هذا المتن .
أما العاهرة والتي كان لقاؤها بالسارد بمحض الصدفة ، وافتتن بها كذلك إلى حد كبير ، رغم كونه كان يدرك ماهيتها وعمق المستنقع الآسن الذي تسبح فيه ، يبحث فيها بالإضافة إلى لذة الجسد ، عن ما يتقاسمه وإياها ، كالمعاناة ، والقهر و، والحرمان ، والتحرر ، وتعذيب الذات ، والتيه ..وسط عالم يعج بالمتناقضات يزدري القيم ، ولايحترم القيود على الإطلاق ، يقول" في كل مرة كانت تعطيني إسما جديدا " ص 63 وينتهي اللقاء بمزيد من الوعود والأكاذيب " أعدك بأنني سأكلمك من هناك حين أصل ، وأعطيك وحدك اسمي الحقيقي " ص 62 وهذه المعاملة التي تحاول تمديد عمر تشويقها وحباله نابعة من إثارة الجسد وغنج المرأة ، لأنها كانت مدركة لمآربه، وهو ما شكل لديه هوسا وجنونا وصل حد مطاردتها في كل مكان .فأضحت تخاطبه بلهجة قوية ، ومختلفة " قالت وهي تصرخ تقريبا ، تصر على بهدلة نفسك ، لماذا تتبعني حتى هنا " ص 134 . ورغم الوجه الحربائي لهذه الشخصية فهي الأخرى كانت مكانة السارد بالنسبة لها تشكل استثناء ، مقارنة مع باقي عشاقها وزبنائها ، وهو ما يمكن استنتاجه من المقطع التالي بعدما تغزل فيها ببيت شعري بحيث قالت له" لي دفتر مليئ بالخواطر الأدبية ، سأطلعك عليه في يوم ما ، قبل أن أرحل " ص 135 وفكرة الرحيل بالنسبة لها هي الأخرى كانت تشكل حلما وانعتاقا من بؤرة التطاحن والإستغلال اليومي الذي تعيشه من أجل لقمة عيشها .ولعل صد العاهرة للسارد في مواقف متعددة كونت لديه قناعات متضاربة حولها ، كانت تجتاحه في أعتى اللحظات دمارا ليعذب ذاته ويتلذذ بذلك لما وصفها بالسراب يقول " سراب أحبه لكنه نخلص لسرابيته " ص136 وهي اللحظات التي برزت فيها إنشطاريته وهو يحاور الأعشى الذي استحضره من ذاكرة التراث ، ليدخل معه في حوار حول الحب والنساء والسفر ، لتبرز خفايا الذات المتمزقة يقول السارد "ثمة فواصل من العشق أنتزعها في هذا العطب ومن مناحة الصحراء الكبير وأفياء الرؤى المترقصة " ص 137 وكذلك من خلال تعقيب الأعشى ودفاعه عن نفسه ، والذي لم يكن سوى وجهة نظر الآخر وصراعه مع النفس إذ يقول " إنك لاتعرف حياة النذرة في صحراء سحيقة والحاجة الدائمة لأن تتقاسم مع الناس ما لايمكن تقاسمه " ص 138 وكأنه كان ينظر إلى مرآة نفسه يتوغل بفعل السكر نحو الأعماق كاشفا عن حقائق ذاته وحيرته ومأساته ، وهو يدور في حلقة الإنتظار ." قالت لي ذات مرة أنت لست كالآخرين ، لذلك سأمنحك ماهو أبقى من الحب لذة الإنتظار " ص 171 .
ولعل الإنتظار هو ما تسبب في لهفة لقائه بها فيما بعد وهو في قمة سجونه وبأسه معتبرا إياها " كالرحمة التي تخرج من الخرائب والرماد" ص 215 رغم كونه كان يبحث عن الخلاص في جسدها ، فقد خلصته من هواجسه وتردده وهي تزرع فيه الأمل ، تجدد قواه ، تمنحه القدرة على نبد مواقفه بحثه على عدم خذلان والده ، كما أنها هي التي قامت بالخطوة الأولى التي أعتبرها مسار تحولا كبير في الرواية بتوزيعها " البيان على العابرين" ص 222 في شارع محمد V .
إن الصورة التي رسمت لهذه الشخصية رغم سلبيتها في البداية ، فقد استطاعت بفضل جرأتها وانسجامها مع أفكارها ، وإيمانها بقناعاتها التحول إلى عنصر إيجابي من أجل نصرة قضية عادلة ، مكسرة دائرة التردد ، والصمت اللتان ضربت حولها.
أما أم ميمون الحلاق فقد كانت نموذجا للمرأة الصلدة والقوية في مواجهة الأخرين لكنها كانت تنهار أمام ابنها الذي تعمل جاهدة لإرضائه ومساندته في كل قراراته وحماقاته فهي لم تتردد في إلقاء اللوم أصدقائه يقول السارد" كلما قام ( ميمون) بإحدى حماقاته تهاجم بشرلسة كل معارفه محملة إياهم المسؤولية" ص77 وتعود أسباب تصرفاتها إلى كونها كانت تحاول الحفاظ على كرامة ابنها وإعادة الإعتبار إليه مما جعلها نموذجا للأم التي تغلب العاطفة على العقل ،اعتبارا لأميتها كذلك ولمحدودية أفاق تفكيرها وخصوصية نظرتها للواقع.
VI بني ملال من خلال كتيبة الخراب .
يشير الدكتور محمد عزيز الماضي أن الرواية غدت "هي التجسيد الإبداعي للوعي المديني الصاعد لفئات الطبقة الوسطى كما أصبحت الجنس الأدبي الطالع مع هذه الفئات في نهضتها التي تأسست برؤية منفتحة على العالم " (5) وقد جسدت رواية كتيبة الخراب فضاء بني ملال بامتياز بمسحها لأغلب معالمها وفضاءاتها المختلفة حتى أضحى من الصعب التطرق إليها كلها نظرا لإرتباط بعضعها بقضايا وأحداث جانبية متعددة ومتغيرة ... وأضحى التغيير " مفتاح كل ما يحدث في المدينة التي تتباعد أضدادها أو تتصارع تتداخل حسب شروط التغيير وتحوله(6) وسوف نقتصر على اللافت منها نظرا لتشكيله للحمة لا محيد عنها في بناء الحبكة الروائية والمؤثر منها على مسارها كالإدارة ومحل ميمون الحلاق ، ومقهى الشعراء ، شارع الحنصالي ، وعين أسردون ، وحانتي الطاحونة القديمة ، واللقلاق ، وسويقة لغديرة الحمراء ، والسوق الأسبوعي ...ولعل هذا التعدد هو ما وسم الرواية بكونها رواية المكان الذي اضحى فيها في غالب الأحيان صانعا للحدث مؤثرا فيه من خلال توظيف تأثيت عرى الزيف ، وأبرز حرقة امتزجت بسخرية لاذعة ، وقاتمة جدا حد الهجاء .مما جعلنا نلمس بحث الكاتب " عن عناصر التخلف العميقة ومواجهته لها في مستوياتها المتعددة وتجلياتها المتباينة(7) مبرزا لمواقفه واحتجاجاته من قضايا متعددة كالإستبداد والظلم والإستغلال ، والإستهتار ، والدعارة ، وسوء التدبير والتسيير ، والهجرة ، مما حول مواقفه إلى دعوة صارخة تطمح إلى تكسير قيود التخلف واسبابه من خلال طموحه الجاد للإنفتاح المدينة على آفاق أرحب وأكبر .
ولعل المواقف التي نستخلصها جاءت في أسلوب حانق جدا ممزوج بالإستهزاء والتشفي أحيانا يقول عن المدينة" مدينة يشيخ فيها الناس يأسا ، قنوطا بعد العشرين ، ويموتون أحيانا بعد اربعين " ص( أنها مدينة النحاس والموت ، مدينة كتيبة الخراب والهدم) والمزابل والحفر الصامدة ، الأشجار الباسقة تسير نحو موت مؤكد ، القذارة والفوضى مزهرة " ص100 وهي حالات كانت تدفع السارد إلى التساؤل بقلق كبير " أي قناع تحمله هذه المدينة إزاء قدر الخراب ؟"ص 87 والإحساس بالتدمر كان يدفعه في نفس الوقت إلى الشعور بالهزيمة فيحاول العودة إلى الصمود " كنت تقول لنفسك ، لاينبغي أن تهزمك المدينة مجددا ، لن تبتلعك الرمال المتحركة للنميمة والإشاعة والحقد القبلي المعمم" ص 51 لتضحى في إحدى اللحظات في نظره كونها تفرج رجليها للغريب كالعاهرة ، لا لن تطول هامة عاهرة ..إنها أحقر وأرخص من عاهرة "ص 63
ولعل هذه النظرة الدونية هي التي دفعته إلى الإنتقام منها ومن نفسه أحيانا كلما أحس يتعميق أزمته النفسية يقول " كلما هزمت المدينة وهزمنا معها في انتخابات أوتعيينات جديدة نضع على رأسها الأسود (نصعد) إلى قصر عين أسردون أو إلى ساحة قنص الحمام حيث تبدو المدينة باضوائها تحت أرجلنا فننزل سراويلنا ونبول عليها وعلى أنفسنا وعلى سراويلنا وعلى المعارضين"ص 168
وقد اتضحت مواقف السارد من المدينة من خلال تحولها العمراني العشوائي كأنها " تهرب من حقيقة ما تتضخم عمرانيا بصمت بما تلفضه أراضي البور في ديمومة الجفاف من مناطق احمر والسراغنة وبني مسكين والشياظمة وتختفي تدريجيا كل مظاهر التمدن " ص56
إن الخراب الذي لحق المدينة من الداخل يمكن ملامسته بالقاء نظرة على واقع بعض معالمها وما آلت إليه ف"' دار الشباب الوحيدة مخنقة وكئيبة ، وأصحاب داري السينما تركوها لخراب مغولي ..(ليحولوها) إلى قيصاريات تجارية أو مطاعم شعبية مزهرة.. مقرات الأحزاب مغلقة والمناضلون يتوخون الحيطة والحدر من اعداء وهميين" ص56 فالمدينة أضحت مستنقعا آسنا فاقدا لكل جمالية هندسية أو معمارية وحضرية " دور زحفت على الأشجار من كل صوب بغيض مكتوم ، أزقة ضيقة قبيحة ملتوية ، إسمنت يتلألأ بشماتة في شمس حزينة"ص 109 وداخل هذا الخراب تطفح" وجوه أطفال يأكلها القدى ما زالت تحمل صهد وهباء وبؤس الدواوير التي كنسها الجفاف ...يد كبيرة تدفع العربات ..غبار نزق يتطاير ..كأن المدينة تغلي تحت مرجل " ص107 وهذه الصور البائسة لم تكن مكتملة فسرعان ما عثرنا على أخرى أكثر قتامة ، يقول " بغال وحمير تدرع بأبهة حواري المدينة ..قطعان ماعز قلق يحتمي ببعضه ..كلاب ضالة.. همم تسير في الشارع الأوحد بلا هدي، مكتئبة صامتة كأنها تشيع جنازة مدينة تقضي نحبا يوميا" ص107.
ولعل فضاء سويقة الغديرة الحمراء قد استأثر بحيز مهم يقول " رأيت العربات الكثيرة التي تجرها بغال هزيلة منهكة ، ونساء يقتعدن الإسفلت ويعرضن البيض ، وتيمجة ، وفليو ..رأيت سمكا تنهكه الشمس والذباب الضاريات ، ومتسولين يشهرون عاهاتهم بامتنان للقدر " ص196 . أما شارع الحنصالي فبه الباعة الذين يفترشون جوانب الطريق يعرضون ماعافته شركات التصدير من ألبسة ، وأواني ، وبعض نفايات أروبا " ص74.
ولم تفت السارد الإشارة إلى الحمقى والمجانين والمتشردين والغرباء الذين تعج بهم المدينة ، يقول " ظهروا فجأة .. أنصاف عرايا يهدون ،يجذبون ، يصارعون أعداء غير مرئيين أو يلوذون بصمت حكيم " ص() . وإلى جانب هؤلاء انتشرت دور البغاء ، والدعارة بالمدينة ، والتي جاء الحديث عنها عرضا في الرواية يقول " وجدت نفسي فوق حصير فظ في دار غريبة بين إمرأتين والحلبي .. وأنا أتملى الوحش الرابض بداخل العاهرتين ، أرصد برودته ونهمه وجرحه القديم الذي يجعله عدوانيا ضد كل رجل تمكن منه " ص 65 .
في حين اعتبر مقهى الشعراء محطة أساسية للسارد وصديقه الحلبي بعد توقيع محضري الدخول والخروج ، لقراءة الجرائد وهو مكان وصف بسخرية عالية يقول السارد " مقهى الشعراء كانت تشبه مقبرة من الرواد وحدها الوجوه الأبدية تناثرت وقد لفها ) البرد على نفسها كسرطانات بحرية خلفها جزر مباغث فوق المقاعد الخشبية الخضراء" ص 31 في حين استأثر السوق الأسبوعي بحييز مهم من خلال التأريخ له بأحداث تعود إلى فترات سحيقة عندما كانت مدينة النحاس معبرا للقوافل الرابطة بين إفريقيا جنوب الصحراء ، والمشرق وأروربا ، كما أنه كان يعقد كل يوم ثلاثاء يقول السارد ص 146كان "يعقد قديما في منطقته الأولى قبل أن يتحول إلى جانب المقبرة القديمة بعد ...أن انفجرت قنبلة مرتجلة في ورشة حدادة أثارت الهلع والعناد لذى الحكام الفرنسين (و) أنزل قليلا ليستقر قرابة نصف قرن في مكانه الحالي ليجلى منه" ص190وقد تمكنا من معرفة مكانه بالضبط من حلال اخباره لوالده أثناء زيارته له في السجن بأن رئيس المجلس " قررر نقل السوق الأسبوعي إلى أحواز المدينة ليبدأ مشروع التأهيل الحضري للمدينة"ص 189. وقد وصف السوق بانه كان سوقا باذخا وأن أجيالا كاملة " تدين لها بالكتب .. والعيوط الملتاعة والكلمات الفاجرة وعروض المحاكاة الساخرة التي سمعتها .. والعمليات الجنسية الفاضحة في رحبة الحمير وروضها العاطر الساحر "ص 190
كما يشير السارد إلى شخص فلوندران في تخليد ماضيه التليد فهو السوق " الغسقي المليئ بالزرابي والجلاليب والخيام البيضاء "ص 190 ولعل الصور التي قدمها عن المدينة لم تكن أحسن حالا من البادية التي وصفها بحيرة ودهشةوحسرة ، نظرا لما تزخر به من خيرات بالمقارنة مع سكانها الذين يعيشون على حافة بؤس مدقع تحت وطأة الهجرة نحو الخارج عبر قوارب الموت يقول " مررنا بسواقي لاتسع الماء الذي يندلق على جانبيها ، وبأرض شاسعة لم يجرفها محراث بعد .. دواوير لم يكن ليذكرها أحد حتى ظهرت قوارب الموت" ص169 .
VII تركيب واستنتاج
استطاع الروائي عبد الكريم جويطي استثمار العديد من الوثائق من خلال وصف متحرك بليغ وتوظيف فضاءات أغلبها واقعية أضحت أمكنة أساسية دون تخليه عن الوظيفة السردية للرواية ، مما جعل حضور الأمكنة تحكي قصصا بواقعية كبيرة في إطار من التناسق والتسلسل هدف من خلاله إشباع توقعات القراء . وما منحنا الإنطباع كون التعامل مع الأمكنة لم يكن انتقائيا لكونها شكلت بصورها القاتمة والمفزعة والغريبة بعضا من قناعات السارد - مجازفة- وأبعاد شخصيته ، فجاءت بني ملال مصورة بشكل سردي اعتمادا على توظيف أنماط من التصوير منها الخارق كما حدث مع الجني في كهف الصينية " والتاريخي بالعودة إلى متون التاريخ وصور فلوندران بحثا عن نموذج واقعي من خلال توحيد وصف تلك الأمكنة إلى مواقف سردية كما حدث عند استشهاده بحكاية فورجول ومخططه للمدينة" للتطلع إلى المساهمة في بناء حبكة الرواية وبناء صور الشخصيات فأضحى ميمون الحلاق ومحله يحكيان قصة الهجرة / ومياه عين أسردون تحكي قصة الأب ، والإدارة قصة السارد والمدينة ، والبيت قصة الشجرة والأم وليلى العميري ، والحانة قصة العاهرة والمقهى قصص موظفي المدينة ، والهيئات النقابية والسياسية والصحافة والشارع حياة المشردين والبؤساء مما أقحم الرواية ضمن الأنماط الجديدة للكتابة حيث البطولة جماعية للشخوص ، انطلاقا منمحاولة تأسيس وعي جمالي جديد من خلال الإعتماد على مخاطبة القارئ والتعليق على بعض الأحاث وأحيانا أخرى إبداء مواقف خاصة ربما هدف من خلالها تحطيم الأيهام بالواقعية وتجنب عمله الروائي من كل الإنحرافات السردية..كلما اراد الإنتقال في تسلل زمني من حدث لآخر أو من شخصية لأخرى. كما لاحظنا أنه لم يكن هناك تمردا على اللغة حتى أثناء تجسيده لأقوى اللحظات سخرية كما حدث أثناء تصنيفه للموظفين داخل الإدارة أو تناوله لبعض الشخوص كمحمد النقابة ، وصالح الدركوكي ، والحاج صالح ومآل الوضع داخل القرية بعد وصوله إليها ..مما جعل أسلوب كتابه رواية كتيبة الخراب يصبح دلالة فنية عميقة الإحتجاج على الواقع من خلال رفضه للفوضى ، وسوء التدبير والضعف والمواقف الهدامة.
ويمكن اعتبار أغلب تلك المواقف محاولة لإثارة أسئلة قلقة الهدف منها هو إحداث صدمة لذى القارء ، وليس دغدغة عواطفه من خلال رصد عالم سعيد بفوضاه العارمة.
يقول الدكتور محمد عزيز الماضي " ليست العبرة أو لنقل التجربة أومراعاة الذوق العام ، وليست فعلا يدفع إلى التحريض أو التبعية بل هي في حد ذاتها غاية لا وسيلة ، أو هي فعل عصيان ورفض أو مكاشفة حارقة" *(8)
ــــــــــــــــ
++ كل الإحالات الموجودة داخل القراءة مأخوذة من رواية كتيبة الخراب لعبد الكريم جويطي /المركز الثقافي العربي الطبعة الأولى 2007
(1) د-خالد مشبال رواية المدينة وأشكال التصوير مجلة مجرة ص العدد11 /2007
(2) فؤاد العزاوي – صورة المكان المستبد في رواية " لعبة النسان / مجلة مجرة العدد11 ص 43
(3) محمد برادة / مداخلة "الرواية العربية وممكنات السرد ص31منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون الكويت.عدد357 / الجزء الول نوفمبر 2008
(4) د شكري عزيز الماضي " أنماط الرواية العربية الجديدة / مجلة عالم المعرفة العدد355 السنة 2008 ص 11
(5) د عزيز الماضي ........ص 144 مدكور سابقا
(6) د عزيز الماضي ........ص 143 مدكور سابقا
(7) د عزيز الماضي .......ص 169 مدكور سابقا
( 8) د عزيز الماضي ......ص 247 مدكور سابقا