لم أكن أحسب أنني على موعدٍ باذخٍ مع كل هذا النقاءْ , وهذه الأصالة التعبيرية التي ذكرتني بالشعراء العذريين العرب أو بأقرانهم الأبطال العشّاق في القرون الوسيطة , ولكن .... أن تجد شاعراً حقيقياً بكلِّ ما تنطوي عليه الكلمة من مغزى ودلالة , ومتواضعاً ونبيلاً كطيران الفراشِ الأنيق إلى سدَّةِ الحلمِ , في هذا الوقت بالذات , فهذه نادرةٌ قلمَّا يجودُ الزمن البخيلُ بمثلها .
حتى أنني عندما أهداني الشاعر ديوانيهِ الأخيرين الصادرين عن مؤسسة الأسوار بطبعةٍ أنيقةٍ مخمليَّةِ الطراز, وهما " تضيقُ الخيمةُ يتسِّعُ القلب" و" الكتابان :ويبدأ بالأوَّل وينتهي بالثاني" تيَّقنتُ أنني أقفُ على كلمةِ الشاعر وبيت قصيدهِ , ولم أتفاجأ أبدا من حجم الطاقة النورانية والزخم الشعوري المنفلت منهما .
الديوانان عبارةً عن سجلَّين للندى, والأزهار, والتراب المعشوق, والضبابِ الطفوليِّ الناعسِ في ظلال أشجارِ اللوزِ والزيتونِ والسنديانِ , وعن سمفونيَّة عشقٍ لا تحاول المآلفة بين فوضى حواسها ومشاعرها , بينَ الحسيِّ والمجرَّد .
لم أكدْ ألمسهما حتى انبثقت من أصابعي الأنهارْ , وخفَّت في القلبِ المذبوحِ بسيفِ اشتهاءٍ شتاءٍ بعيدٍ , كلُّ العصافير المُلوَّنة بألوان الفرح الخفيِّ والغناء, والنجوم الخريفيَّة المبتلَّة بدموع كيلوباترا وليلى وجولييت والزا وفاطمة ومي .
كيفَ لا وأنا على موعدٍ مع كُلِّ هذا الإحتفاء بالجمال والأنثى والحبقِ النسائيّْ؟
كيفَ لا ...... وأنا على موعدٍ مع مملكة النقاء الأبجديّْ؟
ما أن بدأتُ بالقراء المتأنيَّة التي ينبغي أن يُقرأ بها شعرٌ في مثل هكذا حجم , حتى انزاحت الحُجب والستائر عن ذاكرتي المثقلة بعشبِ الصحراء, وعن الديوانين, وتأكدَّ رهاني من جديدٍ على صاحبهما, رهاني الذي بدأتهُ منذُ سنين عديدة وأخذَ ينمو رويداً رويداً حتى اكتملَ اليومَ بدراً مبينَ النورِ والهالةِ في سماءِ شعرنا العربي الفلسطيني , وأظنُّ أن الناقدة والشاعرة الأمريكيَّة "إميلي ديكنسون كانت محقَّةً عندما قالت أنَّ أجمل الشعر في نظرها ذلكَ الذي تقرأهُ فتحسُّ أنَّ قمة رأسكَ قد أُنتزعتْ من مكانها , أظنها لم تكن تعني الاَّ شعراً كشعر حسين مهنا , ذلكَ أنَّ شعر حسين مهنا ينتزعُ قمة رأسك وقلبكَ وأحاسيسكَ معاً وفي لحظةٍ ضوئيةٍ واحدة, أو هو كالمغناطيس الهائل الذي يجذبكَ الى ذاتك الجميلة الأخرى, أو أشبه بغناءِ الأمازونيات في الأوديسة, ذلك الذي لا يختلفُ كثيراً عن النغمةِ الشجيِّة المتدافعة بحرارة من أقصى قلبِ شاعرنا وكأنها بركانٌ احتبسَ طويلاً , وها هو يتكأُ اليومَ على قريحةٍ سيَّالةٍ تجددُّ أشياءها باستمرار وبهجة . وتشحذُ ذاكرتها الايروسية وذائقتها الرفيعة المتجددَّة بالبلوَّر النسائيِّ الناصع الرهافة والحساسيَّة والصوتْ .
{sidebar id=1} في هذينِ الديوانين الصغيرين حجماً, الكبيرين تأثيراً وقيمة جمالية, يحاولُ شاعرنا كما في أعمالهِ الشعرية السابقة تجديدَ العلاقة الشعرية والمجازية مع مسميَّات الحبِّ والجمال والأنوثةِ , التي يرتكزُ عليها شعرهُ الرقيق المخمليِّ بالأساسْ , والمراوحُ بينَ الخطابِ الذاتي الوجداني المكاشفِ للنفسِ ولواعجها وحريَّةِ الدفق الشعوريِّ العذب في فضاءٍ مُلوَّن بأناشيدِ الحُبِّ , وفي عناقٍ واضحٍ وجليٍّ لمناخات يستحضرها الخيال المرهف ويستعذبها القلب , لخلق رؤى مزهراتٍ واستدعاء طقوس غنائيَّة سيالَّةٍ بالوجد الصافي , يصعدُ منها بخورُ الأنوثةِ العبق جنباً الى جنبٍ ورذاذَ لغةِ البوح , والكشف , حتى لتظنَّ في وهلةٍ أنَّ ما يريدُ أن يفرغهُ الشاعر قد اختمرَ في روحهِ دهراً طويلاً , ربمَّا يرجعُ الى حنايا الطفولةِ , قبلَ أن تتبلوَّر تجربتهُ أخيراً وتخرجُ لاهثةً على الورق ونابضةً في النصِّ .
وكما عهدناهُ دائماً, صلباً, حُرَّاً ,مترفِّعا, أبيَّاً,ً يقفُ الشاعرُ في قصيدةِ " تضيقُ الخيمةُ يتسِّعُ القلب" طوداً شامخا في أرضيِّةِ التمرِّد على أشكال القهر والظلمِ التاريخي ويعلنُ موعداً له في انتظارِ الحياة , يقول:
لي موعدٌ في انتظارِ الحياةِ / كأني أراكم / كما قد رأتكم دمائي / على بابِ عايَ
تشدونَ خيلاً وتعدونَ خلفي / ويومَ صرختم ببابِ أريحا / تموتُ .... تموتُ / وراحابُ تحيا / حملتُ الحياةَ على راحتيَّ / وسرتُ على مهلٍ / أنثرُ الحبَّ والشعرَ / سرتُ ... وسرتُ .... وسرتُ / أنا أستزيدُ الحياةَ حياةً / وأنتم تشدُّونَ خيلاً وتبغونَ حتفي/ .
نجدُ استلهام الرموز التوراتية في هذا النص يتحدُّ اتّحاداً فذَّاً مع المشهدِ الشعري, نراهُ يرتفع ويذوبُ ذوباناً رائعاً في تركيبِ اللغة , وينصهرُ طواعية في النغمةِ الحزينة المتحدِّية , المستمدَّة كلَّ شموخها وصفائها وجلاءِ اللحظةِ الشعرية المتوَّترة المتجذرَّةِ في لهبِ القلبِ المُحبّْ وعنفوانهِ .
الشاعر لا ينحني الاَّ للجمال ولا يدين الاَّ بدينهِ حتى لو وقفَ أمامَ ربَّاتهِ الكثيرات , وحتى لو ذرفَ سخيَّ دمعهِ على أطلال علاقاتهِ فإنهُ يعلنُ أنهُ لن ينكسرَ أمام أحد , وسوفَ يساجلُ عدوَّهُ وتاريخه الدامي معاً , كما نقرأ في هذا المقطع .
عناةُ يا عناةُ ...../ ها أنا أدقُّ بابَ قصركِ المنيفِ / نازفاً قطعتُ دربيَ الطويلَ /
حاملاً على يديَّ بعضَ جثَّتي / وخالعاً أمامَ ناظريكِ ثوبَ خيبتي / فباركي إن شئتِ موتيَ الكبيرَ / أو باركي قيامتي ....../ وعلمِّيني كيفَ أستطيعُ أن أساجلَ الطغاةَ / طعنةً بطعنةٍ / وطلقةً بطلقةٍ / فقد سئمتُ رقصةَ المذبوحِ في محافلِ السلام .
وممَّا يلفتُ نظري في قصائد حسين مهّنا أنها تتقاسمُ البهاء اللفظي والرعشة الموسيقية مع باقي المنثورات والشعر العمودي , في جدَّةٍ لا ينقصُ شيءٌ من ضيائها وأصالتها المعهودة , وفي تكثيف دافق للأحاسيسِ , يشدنُّي بما يحتضنُ من خيالات, وأوصاف بكر , ومناخات, وقوَّة لهفةٍ الى المطلقْ , والتغنِّي بما يتركُ سحرهُ – المطلق- في الروحِ والقلبِ من فراشاتٍ وكائناتٍ جميلة .
والرائع أنَّ الطبيعةَ أيضاً تمتزجُ امتزاجاً وثيقاً بروحِ شاعرنا وتنعجنُ بموادهِ الأوَّلية وأفكارهِ , وأصواتهِ القرمزيَّة , فحيناً نرى السنونو تمرحُ في فضاءِ قلبهِ كما تبتغي فتغمرُ دربَ حياتهِ الجديبَ بوردٍ كثيرٍ وشوكٍ أقلّْ , وحيناً آخر نراهُ على بابِ عناة نازفاً , مطالباً ايَّاها أن تعلمُّه مساجلة الطغاة, وحيناً في غمرة الغوايةِ لتسميَّةِ حبيبتهِ الاسم الذي يليق بحبِّهِ لها وبجمالها, وحيناً مسائلاً معذَّباً , يقول:
لماذا جعلتِ الفؤادَ يودُّكِ هذا الودادْ ؟/ وكيفَ دخلتِ حياتي على غيرِ وعدٍ ؟/
وهل يا تُرى أصدقُ الحبِّ / ذاكَ الذي يطرقُ البابَ / _ من أنتَ....... ؟؟/
ما أنتَ ....؟ / من أينَ ....؟/ ...... ما تبتغي ؟؟!/
مطرقٌ لا يردُّ / كأني على رقعةٍ الحبِّ بعضُ مداد .
مع هذا النبض الشعري الدافئ الغنيِّ تحوَّلنا نحنُ أيضاً إلى مدادٍ غامضٍ بلا لونٍ وطعمٍ ورائحةٍ , فوقَ الصفحاتِ البيضاءْ المحترقةِ بجمرِ الحُبْ .
وكأني بحسين مهنا الشاعر يراوغُ قصيدته ويستلُّها من لهيبِ العنقاء ومن رمادها الأخضر الطريِّ بطريقةٍ غايةً في الأناقة التعبيريَّة والتصويريَّة والإيحاءِ المعنويِّ والدلالي , وفي كثافة شعورية وصُوَرية وزخم موسيقي هادئ الجرس يذكرُّني بموسيقى الغُرَف الهادئة , الباعثة على الاسترخاء الشعوري والراحة والسكينة .
كما في هذه القصيدة :
لكِ اللهُ / ما تفعلينَ بقلبٍ أحبَّكِ / حُبَّ الرسولِ لأهلِ الكتاب
ذبحتِ مُحبَّاً ..../ فماذا عساكِ تقولينَ / في حضرةِ اللهِ يومَ الحسابْ ؟
تجسيد البعد النوستالجي هنا وتوظيفهُ بهذا الشكل الرقيق والبالغ النعومة يفتحُ أفقاً مموسَقاً من الغنائيَّة المتردّدة العذبة , والمرهفة النَفَس , واستخدام لغة المخاطبة يشكلُّ دلالة معرفية نورانية , إشراقية كما في الأدب الصوفي, على الولع الظاهرِ والملموس حتى في الخفيِّ من أنَّاتِ ووجعِ قصيدة حسين مهنَّا ونصهِ .
ها هو يقولُ في مزجٍ بالغِ العذوبةِ والشاعرية بينَ النبرةِ العالية وحساسيَّةِ الوجدانِ العميقة , في مقطعٍ من قصيدةٍ شفيفةٍ شفافةَ الضوء .
سألتكِ موتاً جميلاً
اذا كنتِ حوَّاءَ / من يا تُرى قد أكون؟
سأحملُ عريكِ في مقلتيَّ / وأمشي على جمراتِ الظنونْ
ودربيَ دربُ الشقاءِ المقيمِ / وتدرينَ أني طريدُ النعيمِ
غداةَ لبسنا العراءَ وشاحاً......./ سألتكِ أن تستظلِّي / بما قد يقيكِ
من النظراتِ المريبةِ / بئسَ الزنى في العيون .
لا أعرف بماذا أصفُ روعة هذا الكلام , وخصوصاً الشطر الأخير, إنهُ ولا شكَّ أعلى بكثيرٍ من السحرِ, وأغلى من غار النصر .
وفي فسحةٍ أخرى, ومن أريجِ العبارة وعطرها الأنثويِّ , ومن تجليَّات قيس بن الملوَّح في عشيَّاتِ ليلى العامرية, يطلُّ شاعرنا في قصيدةٍ عذراء فتدهشني مزاميرهُ إذ أسمعهُ يقول
أجمِّعُ حُبَّ النساءِ / بحبِّ أسميهِ ...../ ماذا أسمِّيهِ..... ؟ / قيسٌ يسمِّيهِ ليلى / إذن / أسميهِ باسمكِ / - لا لن أبوحْ : وعدتكِ الاَّ أبوحَ / فحبكِ سرِّي الجميلُ
وبعضُ الغرامْ / إذا كانَ بالسرِ أحلى .
التساؤل في هذه القصيدة يبلغُ قمة الذكاء الشعري في انسيابيةٍ تحملُ الكثير من الخفةِ والرقة والشفافية واللوعة والحنين , أكادُ هنا أن المسَ بجدارة بعض الوهج النابع من المهارة الفردية والحذق الشعري العالي الذكاءْ, والرؤى الصادقات , أكادُ في هذه القصيدة كما في قصائد كثيرة غيرها أن ألمسَ الدموع العاشقة الحقيقية التي لا تفيض الاَّ من أحداقِ العشَّاق , وأشعرَ بصدى هذا الكلام يتوِّجُ في نفسي حلماً غائباً , حلما ما , بالظفرِ ربمَّا أو بالخسارةِ , بالحزنِ على فقدانِ شيءٍ ما , وبالفرحِ الذي يعدُّ باستردادهِ مرةً أخرى , ويمنحُ لذةَ الشعورِ بالعثورِ على نجومهِ الضائعة .
أعترفُ أنني نادراً ما يشدُّني شعرٌ لقراءتهِ , حتى لو كانَ للكبارْ , نادراً ما أقرأُ شعراً بكلِّ هذا الحنوِّ والحدبِ والتفاعل الخيميائي العجيب , وبكلِّ هذا التأثرِّ العاطفي الإنساني والوجداني , ولا أذكرُ الاَّ دواوين تعدُّ على أصابعِ اليدين , مثل "خذ وردة الثلجِ, خذ القيروانية " لسعدي يوسف أو "كأني غريبكِ بينَ النساء" لشوقي بزيع أو " سرير الغريبة " و"لماذا تركت الحصانَ وحيداً" لمحمود درويش أو "ضجر الذئب " ليوسف أبو لوز , أو "أوَّل الجسد آخر البحر " لأدونيس ,أو " طعم قديم للحلم " لوليد منير, أو " انَّ بي رغبةً للبكاءْ " لأحمد العوَّاضي , مرجعيَّات شعرية نمتْ تحت جلدي ونامت, منذُ نعومةِ الأظفارِ في الأشعار, لا زلتُ أعتبرها نقاط تحوُّل, أو كواكبَ تسكنني, أو مخلوقات غامضة تركت شيئاً غريباً فيَّ, أنحني أمامها بخشوعِ راهبٍ وبرهبةِ عاشقٍ للأبجدية, وأضمُّ إليها اليوم ديوانيْْ حسين مهنّا الصادرينِ مؤخراً , وبكثير من الإعتزاز والفخر, وبدفقٍ هائلٍ من الحُبْ النقيْ .