عاد مبكرا ً من مدرسته ذلك اليوم، شعر بوعكة غريبة لم تصادفه أعراضها يوما ما، لم يجد أحدا ً في المنزل، نادى كعادته على أمه كما اعتاد أن يناديها " يا أمه" أو "يا حاجة" وهو يتكأ على سور السلم المتهالك وصوته يكاد يخرج منه بصعوبة، حاول أن يتماسك بكل ما أوتي من قوة إلى أن خار على الأرض كما تخور الجبال صعقاً من غضب إلهي أو كما تبرك الإبل بركاً في مراقدها بعد رحلة شاقة في الصحراء حين تخوى بطونها وتذوب شحومها. نظر بعينيه إلى أعلى فبدت شقوق السقف الخشبي المتهالك والبراطيم تكاد تهوي على رأسه، كان البيت من الطوب اللبن الذي يطلقون عليه "الأخضر أو النيئ" ربما للون الطين الذي يتشكل منها وفيها بعض الاخضرار أو لأنه لم يزل نيئا ً ولم يسو في القمائن التي يٌحرق فيها. كانت أغلب المنازل في البلدة تبنى من هذا الطوب، وبلا أعمدة، فيحمل كل جدار الآخر فتستند على بعضها البعض وتتداخل فيما بينها حتى إذا ما وهن حائط تداعى له الآخر بالمؤازرة والتحمل كأنها في رباط إلى يوم الدين، ويشتد البناء هكذا ليصل إلى في مرات كثيرة إلى ثلاثة طوابق.
كان هذا الطوب يصنع من الطمي الذي يتم جمعه مما يتراكم على جوانب النيل ويمزج مع بعض الماء ويضاف إليه بعض من روث البهائم والرمال والتبن حتى لا يتشقق، ثم يتم "دق الطوب" بأن يوضع المزيج في قوالب خشبية والتي تترك بعد ذلك في الشمس لتجف.
*****
يوكل في الغالب بهذه المهمة إلى أحد الرجال الذين يمتازون بالجلد والصبر، إلى جانب القوة البدنية و يرى الرجل هذا دوما متحفزاً وقد جلس وادخل طرف جلبابه في سرواله الأبيض الذي اكتسى بالطين فما عاد أبيضا. ثم يحرق ذلك الطوب في قمائن ترص كالمصاطب بشكل مستطيل صفوف فوق بعضها البعض، والرص هذا يحتاج إلى خبرة إذ أن للطوب وضعا معينا فوق بعضه البعض وأي اختلال قد يؤدي إلى سقوطه وتلفه. كانت المصاطب بعد أن يكتمل رصها تكسى بطبقة من ملاط الطين، وفي أسفلها يتم عمل فوهات تشبه القبوات يتم حشوها بالأخشاب والفروع وحطب القطن لاستخدامها في حرق الطوب وترش بالمازوت ويتم إشعال النيران فيها من الليل حتى الصباح. ثم يتم إحكام غلق الفوهات بالحجارة حتى لا تخرج النار للخارج فلا تخمد حرارتها ولا تؤذى أحد، فترتفع ألسنة اللهب تتسلل من صف إلى آخر تحرق ما يلمسها فتصهره فيتماسك الطوب ويصبح صلدا، ومن فوق القمائن يتصاعد دخان كثيف يعمى الراكب والقاعد يكتم الأنفاس ويطرد الناموس ويترك الوضع على هذه الحال في نار تستعر كالتي ألقوا فيها أصحاب الأخدود. كان كل يوم في طريق ذهابه وعودته من المدرسة يرى دخان متصاعد أو رجال تحمل فوق أكتافها قوالب الطوب فيتذكر تلك المصاطب التي رآها ذات مرة في الجيزة وسقارة والجيزة ولكنها كانت من أحجار صلدة فيتعجب من الفرق بين الماضي والحاضر وتفاوت البناء،ثم لا يلبث أن يكمل طريقه إلى المدرسة.
*****
مرت لحظات طويلة ولم تظهر أمه فقرر أن يستند إلى حائط البيت حتى يصل لخارج البيت لعلها فى زيارة إلى أحد الجيران. كان بيتهم واحدا من خمسة بيوت لا يفصل بينها شيء سوى حائط كل بيت، يغلق عليها جميعا ً باب ضخم فيما يشبه البوابة. هذا الباب له قصة عجيبة، حيث يحكى أنه أحد غنائم الصراعات مع إحدى القرى المجاورة، ففي إحدى ليالي الشتاء القارصة وفى غفلة من عيون أهالي القرية المجاورة وبعد أن خمدت النيران التي كانوا يستجيرون بها وأشعلوها في خشب السنط، غلب النعاس أغلبهم فانسحبوا من نوبات الحراسة يلتمسون بعض الدفء في داخل الدار، وسحب بعضهم عليه بعض الأغطية الصوفية ليغفو قليلا ً، فالجو شبه هادئ لا يقطعه سوى عواء الذئاب القادم من جهة الجبل الملاصق للأرض الزراعية في البر الغربي من النيل. هجم بعض من عائلته على الأفراد النائمين في العراء في خلسة من الزمن، قيدوهم في فراشهم، شعر من بداخل الدار بضجيج في الخارج وصوت تأوهات كمن لدغته عقرب سوداء، انتبه بعض الأفراد واستل سلاحه الآلي من طرف الدكة التي يتمدد عليها وبدأ في إطلاق الأعيرة النارية بشكل عشوائي. احتمى الأفراد بالخارج بزراعات القصب التي تنتشر في المكان، لكنها لا تستر ولا تقي شر الأعيرة. زحف أحدهم على الأرض ملتفا ً حول البيت وتسلق جدرانه وتسلل من نافذة مشرعة وفى حركة مباغتة شل حركة من يمسك بالسلاح. وقبل أن تفيق القرية كلها كان لابد من العودة، لا يكفى تجريدهم من أسلحتهم ولا تركهم مقيدين في العراء حتى الصباح، قفزت إلى ذهن احدهم فكرة أن يخلع ذلك الباب الضخم المرصع بكرات بارزة صغيرة من الحديد والبرونز كأنه درع، التف حول الباب أربعة، اثنان من خلفه واثنان من أمامه وفى نفس الوقت رفعوه لأعلى فخلوه من مفصلاته المعدنية المثبتة بالأرض. كان ثقيل كأنه دكة من خشب السنط كتلك التي تملأ ساحة مندرة عائلته، قرروا أن يحملوه فوق ظهر أحد الخيول التي سمعوا صهيلها في جوف الليل، فك أحدهم قيد الفرس ووضع جوال من تبن فوق ظهر الفرس ورفع أربعتهم الباب ووسدوه ظهر الفرس وأسرعوا بالذهاب. كان الفجر يوشك أن يبزغ حين وصلوا مشارف بالبلدة، استقبلتهم النساء بالزغاريد كأنهم أعادوا فتح الأندلس. قرروا أن يقيموا هذا الباب في مدخل الممر الذي يحوى بيوت العيلة وظل قائما ً في مكانه حتى الآن شاهداً على تلك الواقعة. في الممر الضيق وقف وصاح مرة أخرى، فلم يجبه غير الصدى، قرر أن يطرق باب البيت المقابل ويسأل، طرق مرة واثنتين ثم فتح الباب على مصراعيه إلا قليلا ً وبادرته بالترحاب سيدة في أواخر السبعين تلتف في ملابسها السوداء كأنها قطعة من الليل المظلم في ليلة غير مقمرة، كانت الحاجة "كحلة" كما تشتهر بين الناس ربما لسمرة بشترها الشديدة أو لأنها لم تر أبداً من غير كحل، مدت يدها تتفحص ملامحه ففزع منها فبادرته بالسؤال:
- إنت محمد صح؟
- لا يا حاجة.
- أومال مين؟
- تعجبت وتمتمت ببعض كلمات غير مفهومة ثم استطردت، سامحني يا ابني ضعف البصر ولا أرى مسافة المترين أمامي.
بينما هى تتكلم، راح بصره يلف ما تكشف من فناء الدار فلم يلمح أمه، فقرر المغادرة.
- طيب يا حاجة السلام عليكم.
كانت الحاجة "كحلة" تقطن بمفردها في ذلك البيت المتهالك الذي يسهل تسلق جدرانه من طفل صغير أو بعض الكلاب الضالة، مات زوجها منذ زمن بعيد فلا نكاد نذكر ملامحه، ولم يرزقها الله بولد فظلت ترعى أولاد أختها الوحيدة التى مات عنها زوجها ثم ما لبثت أن تزوجت من رجل آخر وسافرت معه إلى بلدة صغيرة يقال لها " كفر الماعز" من أعمال الدلتا. كبر الولدان وقرر أحدهما السفر للخليج للعمل، أما الآخر فقد فضل أن يسافر إلى بلدة ساحلية يجرب حظه في أى عمل متوفر.
وبينما هو يمضى هائما على وجهه، ضرب كفا ً على كف وتعجب كيف يغيب ذلك عن باله، فمنذ متى يستهوى أمه الجلوس عند الجيران وحكاويهم، هي بالقطع عند خالته التي تسكن فى آخر الشارع. هروع مسرعا ً كأنه وجد ضالته وكأنه لم يكن متعباً قبل قليل. دخل على الفور فلم يكن الباب موصداً، قفز السلالم كأنها كلها تجمعت في سلمة واحدة،وجد الطابق الأول خاوى فاجتاز منه إلى الثاني ثم وجد نفسه "على السطح". كانت تجلس وأمامها مقطف من خوص النخيل ممتلئ لحافته بالدقيق وقد أمسكت بالمنخل تنخل فيه الدقيق في وعاء آخر من البلاستيك. هوى إليها كصخرة انحدرت من عل، نظرت إليه بحنو وأشارت إليه انتظر حتى أفرغ مما أنا فيه. قامت فصبت على يديها بعض الماء من كوز قريب، ثم احتضنته، وضعت يدها على رأسه فقد أفزعها ذلك الصهد المنبعث من جسده ثم تاه الاثنان في عناق طويل.
******
لم تنته