كل مولود يولد في قريتنا تتأكد مع قدومه تفاصيل اللعنة التي سكبها علينا أحد الشيوخ الذين مروا يوما عبر بيوتنا، لم يكن مرور ذلك الشيخ عاديا و لا كان اِستثنائيا، كان مرورا بهيجا، مربكا، مخيفا، مفرحا، داوى أثناء مروره المرضى و أطعم الجوعى و أطفأ ظمأ الأجساد المتعطشة لنفحاته بتعاويذه، لكن المريب المحير أن لا أحد شفي و لا أحد شبع و لا خمدت ألسنة اللهب المتصاعدة من الأجساد المحترقة، لامست راحة يمناه كل الأجسام بلا استثناء، تحسس التفاصيل المخبأة تحت الأثواب و اختلى بالأطفال يريد تعميدهم، و رافق بعض النساء إلى أماكن كان يختارها و في مواعيد كان يضبطها حسب مزاجه أو استجابة لأوامر جنياته اللواتي لم نكن نراهن و لا نحس بوجودهن و لا نسمع هسيسهن، لكنه كان يحادثهن و يأمرهن و يطعنه.
دخل كل البيوت بلا استئذان، و بلا تردد أدلج في الظلام الحالك، دخل المغارات المظلمة المحيطة بالقرية و نام داخلها وحيدا في العراء و البرد، صلى برجالنا في المسجد و أزاح الإمام عنوة، و ذبح أضاحينا بيديه، و حرم آباءنا من إراقة الدماء، تلقى الصدقات و طاف في الحقول خلال الصباحات الندية و خلال الأماسي المنعشة، كان يمشي مدققا النظر في الأرض كمن يتبع آثارا أو يفتش في ثقب قد يقوده إلى كنز أو يلج عبره باطن الأرض.
ذات صباح استيقظت القرية على عويل متواصل من الرابية الجنوبية لها، كان ذلك الشيخ يحثو التراب على رأسه، ثم يملأ كفيه بالتراب و يرمي به في اتجاه قريتنا، و يتكلم بلغة أشبه بالغمغمات التي لم يقدر الناس على فك رموزها. و حين ارتفعت الشمس كان الشيخ ينزل الوهدة ميمما وجهه نحو الخلاء و مضى دون أن يلتفت إلى الرجال الذين حاولوا اللحاق به، ثم عاد بعد ان رجعوا إلى منازلهم و وقف في أعلى الربوة يحدق في ما يحدث. الذي حدث للشيخ في الليلة السابقة لا يعلمه أحد إلا إثنان، هو و زوجة الإمام، أما هو فقد حمل سره و مضى، و أما هي فقد أحجمت عن الكلام إلى أن تناسى الناس ما حدث و انغمسوا في مشاغلهم اليومية، فما أكثر ما ينسى البشر، لكن صومعة المسجد ستشهد عليهما حين ينطقها الله...
تستبشر كل القرى بالمواليد الجدد، و تعالج العقيمات من نسائها أنفسهن من أجل الإنجاب، أما في قريتنا فقد كان قدوم المولود الجديد كابوسا مرعبا، ما من مولود يولد في قريتنا إلا و تحل معه فاجعة تتربص به أو تصيبه، فكم من مولود ولد أعمى أو بعين واحدة، و كم من مولود ولد بلا أطراف أو بلا أصابع، و كم من مولود ولد و فمه مليء بالأسنان، و حكي مولود دفعته رحم إحدى النساء قبل موتها بيوم، كان على غاية من البشاعة، بعين واحدة تتوسط جبينه، قيل إنه كان شريرا قاسيا، جرى بعد ولادته بأيام قلائل، و تكلم بعدها بشهر واحد، و حين نطق لعن القرية و أهلها و والدته.
و بعد ستة أشهر عثر عليه أحد السكارى ملقى في إحدى الخرابات، فتناقل الناس النبأ، و ظنوا أن والده تخلص منه، و تنفست القرية الصعداء و استراحت من ذلك الحمل الذي ناءت تحت كلكله حينا من الدهر، لكن استقامة ظهرها لم تدم طويلا، إذ بعد سبعة أشهر أنجبت أخته مسخا آخر يحمل نفس الصفات، لكن والده لم يمهله كي يجري أو يلعن القرية و ساكنيها، فحمله ذات صباح إلى المقبرة المجاورة يتبعه كلبه، و عندما عادا كان الكلب يلعق بقايا دم عالق في فمه.
رعب رجال قريتنا من إنجاب مثل أولئك المواليد الأغراب، جعلهم يهجرون زوجاتهم و يفرون من المضاجع، أما النسوة فقد أحكمن شد أنطقة سراويلهن و تفنن في قتل الدودة الناغلة في أجسادهن، فوجد رجال قريتنا في نساء المدن ملاذات يلجأن إليها لسكب المياه المتعفنة من الأجسام التي هدها الخوف و القلق.
لعنة الشيخ حلت في القرية، و النكبة كانت فظيعة، دمرت النسل و أحرقت المحاصيل قبل بلوغ أوان قطافها.
جربت إحدى نساء القرية ان تسقي تربتها بماء عابر، و بعد تسع ألقى رحمها توأما كفلقتي القمر، لم ينكرهما زوجها لكنه لم يعترف بأبوته لهما، و ظلا يعيشان في كنفه إلى أن عاد ذلك العابر و اصطحبهما و أمهما دون أن يدرك أحد ما حدث سوى الزوج الذي أعرض عن الزواج من أخرى و أمضى بقية حياته يجوب الآفاق بحثا عن مستقر له. و حذت حذوها نساء عديدات منهن من قتلهن أزواجهن و منهن من ظللن يعملن في بيوتهن كالإماء لا رأي لهن و لا مشورة، و منهن من طال عذابها فأضرمت النار في جسدها و ذُرّ رمادها بين الأودية.
كل الذين مروا من قريتنا أصيبوا بلعنتها، نقلوها إلى قرى قصية، لكنهم لم يدركوا أن ما أصابهم كان بسبب دنوهم من ديارنا و استنشاقهم روائح قريتنا. عدوى اللعنة سرت من مكان إلى مكان، لم توقفها تمائم العرافين و لا التعويذات التي تليت و لا البخور الذي أحرق في الزوايا و في أضرحة الأولياء، فحتى العجل الأسود الذي أمر الناس بذبحه لم يق القرية مما حل بها.
تشهد على لعنة القرية حقولها المتيبسة و أنعامها العجفاء و الخصومات التي لا تنتهي بين الناس، تشهد عليها الحرائق التي تستعر في كل حين بلا أعواد ثقاب، يشهد عليها نضوب عين الماء المجاورة للقرية و انحباس المطر...و هكذا صارت قريتنا نذير شؤم لكل من دنا منها أو عبرها من التجار و المسافرين، فما إن يدنو منها الواحد منهم حتى يدير وجهه إلى الجهة الثانية، أو يرفع بصره إلى السماء و يسير على غير هدي غير آبه بنباح الكلاب التي لا تقوى على النهوض من مراقدها بسبب هزالها الشديد.
لا أحد من أبناء القرية يجيبك حين تسأله عم حلّ بقريتنا، بل يتركك بين حيرة و حيرة و يمضي مجلجلا سابا اليوم الذي ولد فيه بين هذه الخرابات.
نجوم الليل و نسائم المساءات الداكنة تروي تفاصيل الحكاية، كان ذلك المساء موحشا كفلاة و جارحا كحد السيف في نهايات فصل الخريف، يومها كان الشيخ يعبر القرية متلحفا ببقية أسمال، يرمي حبات من الملح على جدران منازلها، فتصطدم بها محدثة أصواتا كفرقعات البارود، فما من جدار أصابته حبة ملح إلا و تصدع، و ما من باب نظر إليه الشيخ أو وقف أمامه إلا و انكسرت ضلفتاه، و ما من دابة وقع عليها بصره إلا و انفجر الدم من عينيها و منخرها ثم سرعان ما تخر متخبطة فيفوق التراب و تفارق الحياة في الحال.
حين اشتد بالقوم الكرب، اختلفوا في ما سيفعلون، فمنهم من جرى نحو الشيخ و جثا على ركبتيه أمامه متوسلا، و منهم من أوصد أبواب بيته بعد أن أوى إليه هو و أبناؤه و زوجته، و منهم من دفع صبية القرية إلى رمي الشيخ بالحجارة و طرده و إيذائه، فأطلقوا الكلاب من مرابطها و تناثرت فوق رأس الشيخ الحجارة، فاحتمى بقبر نبشه أحد العابثين بحثا عن خلخال قيل إنه دُفِن مع صاحبته، فظل ذلك القبر مفتوحا و لم يجرؤ أحد على الاقتراب منه، أدخل فيه الشيخ رأسه و ترك بقية جسده عرضة لزخات الحجارة، فسال الدم من كل شبر منه.
لم يرتفع صوت الآذان خلال ذلك اليوم، و ظلت أبواب المسجد الذي يتوسط القرية موصدة،و الصومعة مطفأة الأنوار رغم حلول صلاة المغرب. في ذلك المساء الرهيب تلبدت السحب و انهمر المطر كما لم ينهمر من قبل، ففاضت باحات المنازل، و ارتفع منسوب الماء في الوادي المجاور للقرية، و ابتهل الناس و تضرعوا خوفا و تلاوموا، دمرت الصواعق منزلين، و جرفت المياه زرائب الحيوانات بما فيها، و اقتلعت الرياح العاتية الأشجار، و صارت القرية خرابا.
عند انتصاف الليل سمعت المئذنة الشيخ يصرخ بأعلى صوته " ما من مولود يولد في هذه القرية إلا و يكون لعنة عليها "، ثم أشعل النيران في المسجد و رحل مع العاصفة...و ظلت القرية حبيسة تلك اللعنة إلى الأبد.