الوقت الذي استغرقه في رحلته عبر الأمكنة الحزينة - التي لم يدعه فيها ذلك الصمت المهيب - الذي جعل منه منارة للأحزان ، واقتطع من وقته زمنا ، ليركن إلى فيء أشجار الصنوبر والسنديان، ليبدع سمفونية خارج زمن السلالم الموسيقية .
قرر أن يمثّل للصمت حالته التي تفرض العجز ، وتوحي بالأنين الذي يسدل ظلماته على قلة من الناس،ثم ارتأى أن يرصد ما يلازم تلك السحابة ،التي ينسكب منها الماء على غير الشاكلة التي اعتادها في نزول المطر .
فكر في التعبير عن تلك السحابة ، ليعلن للعالم الود الذي يجمع البشر بباقي مكونات الحياة ،من شمس وقمر وكواكب ونجوم ، وعشب وماء ،وحيوان ... ويوضح لهم سرَّ الإنسجام الذي يملأ هذا الكون ، ... أمسك عقرب ساعته ، حاول منعه من الحركة في الاتجاه الذي تبغيه عقارب الساعة في عادتها المألوفة .
ربما ...
كل اليقين ...
وغالب الظن...
هو ابتعاد عن شيء ما !!
لعله يحارب التجاعيد، التي تتلوها حركة الرقاص الدائبة على محياه ،لتكتمل سمفونيته التي يجب أن تكون فوق الحسبان.
غير بعيد عن ذات المكان، قرأ تعريفات عدة للزمن ،وما خرج بفكرة واضحة تضع الناس وجها لوجه أمام منبر الحقيقة،ذلك المنبر الذي يخشى تناول الحديث عن هذا الموضوع ، فالزمن والكون والحركة ، وضبط السرعة عند كل كائن ،أشياء جعلت هذا الرجل مطأطأ الرأس ،لا يعنيه شيء مما يدور في هذا الكون ، تلا آيات من الذكر الحكيم ، ثم غنى للأيام أغنية الحيرة، التي ترثي حال الإنسان في عالم مجهول الهوية ، فتح عينيه ،نظر إلى المرآة ، تعجب من ملامح وجهه وقد عبثت بها التجاعيد ،ثم نظر إلى شعيرات رأسه وقد علاها البياض ، تراجع قليلا إلى الوراء ، استعاذ بالله مما حدث له ، نظر إلى الساعة مرة أخرى ،اقترب منها ، أمسك بعقاربها ، غيّر حركة دورانها ، ورجع بالزمان إلى حيث زمن الصبا ، تذكر معاناته في صباه ، ثم نهض مسرعا ليعيد العقارب إلى سيرتها الأولى ، أمسك بها جميعها ، استعصى عليه الأمر ، ثم حاول ثانية فلم يفلح ، استعان بأداة لفعل ما يريد ،تفاجأ بالعقارب تتساقط واحدا واحدا على الأرض ، أخذ أحدها ، واتكأ عليه بعدما أحس بالعياء والإجهاد ، كان شعره قد اشتعل شيبا ، و ظهره قد آلمته انحناءته العابثة بقامته التي كانت منتصبة ذات يوم .
هو ذا ذلك الزمن الذي كان يخشاه ، إنه المشيب ،إنه بداية لفترة جديدة، يعلو عالمها الإجهاد والعياء ، إنه ذلك الزمن الغادر الذي عبث به على حين غفلة منه ، إنه زمن تساقُطِ عقارب الساعة التائهة في مسار الزمن الأزلي المتبدد،لقد تساقطَت كما يتساقط التين اليابس لينفصل عن أمه .
..................
ماذا لو تأتي تلك التي عانيتُ من أجلها حتى أتى المشيب ؟
هي ذي قادمة من ذلك الجبل الأشم ، تتكئ على عصا ،هي الأخرى ترسم على الثرى أثرا لكائن يمشي على ثلاثة أقدام ، قدمان متشابهتان ،وأخرى مختلفة عنهما .
أناس مروا من هنا للبحث عنها داخل زمن سقطت عقاربه ، وتاه العالم في عوالم خفية ، كانوا يبحثون عن فتاة في مقتبل العمر ، فلم يعثروا إلا على أثر كائن واحد كان يدِبُّ على ثلاثة أقدام ، وكان ذكرا .
رجعوا بعدما لم يجدوا غير ذلك الرجل ، لقد رجعوا بخفي حنين ،يحدثون العالم عن سرِّ الإختفاء المحير الذي طال زمان تلك العذراء ، ولم يأبهوا لحال هذا الذي يسبح في عالم غير العالم الذي كان يريد أن يطول مكوثه فيه .
الآن ، البياض كالسراب يخفي صورهما عن الوجود وهما جنبا إلى جنب .
صاح بأعلى صوته:لقد اكتملت السمفونية يا عالَم !!
صمت قليلا ثم قال بصوت خافت : لكنها خارج زمن السلالم الموسيقية.