للمرة الثالثة الآن يرن جرس المنبه. يكاد يفقده صوابه كل مرة، لكنه لم يسكته هذه المرة، بل اكتفى فقط بالتحديق في سقف الغرفة ممددا على السرير. أراد أن ينفض عنه الغطاء لكن لا تسعفه أطرافه. اكتفى فقط بالتحديق. سكت المنبه لوحده. لم يستسغ صراخ المدير في وجهه ذلك الصباح، بقي صامتا وكأن المدير لا يعنيه بالكلام، بل حدق في عينيه مليا ثم انتقلت عيناه إلى شفتيه اللتان بدتا وكأنهما تغلقان وتفتحان دون إصدار صوت، يا للسان الأفعى هذه! ويا لعيني العقاب! فكر في نفسه. لم يتذكر قط كلمة مما قال. ها هو المنبه اللعين يرن مجددا ويوقظه من غفلته، وهذه المرة انقض عليه بعنف وكأنه يسكت فم المدير بقبضته، ثم انتفض من فراشه واقفا. كاد أن يسقط على الطاولة بجانب السرير من عنف حركة الوقوف تلك، فارتد إلى جانب السرير جالسا ورأسه بين يديه وعيناه مغلقتان. ظن لوهلة أن الغرفة وأن كل شيء من حوله يدور وكأنهم في فلك يسبحون، السرير والطاولة والكرسي والتلفاز والخزانة والنافذة والحائط والباب...
جلس إلى المائدة التي تتوسط المطبخ؛ أخرج سيجارة من جيبه وطفق يبحث عن الولاعة في جيبه دون جدوى؛ أدار رأسه، والسيجارة في فمه، وكأنه يريد أن يطلب من زوجته أن تمد إليه القداحة، لكن يبدو أنها منشغلة.
ـ "ما بال هذه القهوة باردة؟"، قائلا لزوجته بصوت منخفض مبحوح، ودون أن يكلف نفسه عناء النظر إليها. لم ينتظر جوابا فأخذ الفنجان يرتشف منه. أما هي فاكتفت فقط بالنظر إليه محركة رأسها في لا مبالاة دائرية، وهمت بإعداد الفطور. نفث الدخان وسحق السيجارة سحقا بعد أن استنشق منها ثلاثا، وهم بالوقوف حين بادرته زوجته بالسؤال، وكأن ذلك دأبه على الدوام: "ألن تأكل شيئا؟". أشار فقط بحركة من يده، لا بل من أصبع واحد أن لا.
لم يكن اليوم في أحسن حال، لكن أنفته وعناده يمنعانه من أخذ يوم عطلة. بدا الصباح كئيبا مكفهرا في وجهه، لكن لم يعره اهتماما. مضى في طريقه إلى الباب يجر خلفه عناده ويأسه وضجره ككلب عجوز نخر الزمان عظامه. أتنعتني بالعجوز أيها الكلب؟ ما ... ليس هناك أقبح من ... نعم للعجوز كرامة أنى للكلب أن يحوزها، وللكلب وفاء لا يرومه العجوز العاجز. لماذا تتراقص وتنبح كل هذه الكلاب في غيمة يومي؟ كلاب وذئاب ... بصوت مرتفع قليلا "أين مفاتيحي يا هذه؟". "وأنى لي أن أعلم؟ لم تكن معك أي مفاتيح عندما دخلت، أنسيت من فتح لك الباب؟"، أجابت بنبرة الواثق هذه المرة، وكأني بها تعاتبه عتابا. أوليست هذه فرصتها أخيرا للإفراج عما يختلج في صدرها؟ "كفاك ثرثرة وأغلقي الباب، ها أنا ذاهب"، ثم غمغم "لو قدر لمملكة نحل أن تنافسك ما غلب أزيزها هديرك."
"يا ... إلا...هي... أرجوك إن كنت حالما فدع هذا الحلم يطول." تقطعت أنفاسه، أفلت المحفظة من يده، جال بعينيه في المكان كله دون أن يستقر بهما النظر في مكان. تبدى له طيف خفيف عند زاوية المنزل، لكن الشجيرات المحيطة به حالت دون التأكد منه. قفز الأدراج الثلاثة التي تفصل باب المنزل عن باب السياج المحيط به، وخطا خطوات متهورة نحو الطيف المزعوم فلم يجد غير السراب. سراب في سراب. "يا الله! يا له من صباح!" حطت يده اليمنى على جبينه، واليسرى على خصره، وانطلقت سهام الوهم تغزو رأسه الذي ما زال تحت تأثير الخمرة، أو ما قد يكون صاحبها. فالله وحده، أو ربما بعض من ندمائه، يعرف ما الذي ألم به. "مهلا، أين... متى... ومن...؟"، لا تسعفه ذاكرته الثملة. للمرة الأولى، طوال هذه السنوات العجاف، يعجز عن استرجاع شريط الليلة الفارطة! يكاد الوهم يفقده صوابه، وقبل أن يفقد صوابه فعلا يعود إلى الأمانة أمام باب المنزل يتفقدها بحرص وحذر شديدين كمن يحمل سلة مليئة بالبيض يخشى أن يكسر واحدة فتسقط الأخريات تباعا لارتباكه من كسر الأولى وخشيته على الباقي. أما الإحساس بنظرات مختلسة تتعقبه فلا يعلم له تصريفا؛ يكاد شعور الرقابة يحبس أنفاسه. فتح عينيه، اللتان ما فتئتا تطرفان، على شفتين متحركتين بصمت، وعلى عينين ترمشان. ما لبث أن أحس بالبلل يغزو صدره، سائلا من رأسه ووجهه، سالكا عنقه؛ تردد قليلا قبل أن يمد يده ليتحسس ما خطبه مخافة أن يصير البلل دما فيكون آخر مسمار يدق في نعش كابوسه. "لا بأس عليك"، طمأنه صوتها الأنثوي الرقيق الذي افتقده من زمان. ضمته إليها تسأله عن حاله وتمرر يدها على وجهه. لبرهة تخلى عن كبرياءه ورد بصوت طفولي أن لا بأس. أعادت إليه صورة أمه، وأحس بنفسه طفلا مجددا. "هل تستطيع الوقوف؟" أومأ برأسه إيماءة خفيفة، ولما همت بمساعدته أشار لها بيده أن تهتم بالأمانة فقط. ظل يحدق في عيني الفرخ المغلقتين قرابة الساعة التي قضاها في الداخل قبل أن يعود إلى رشده. من يكون منقذه غير نديمه المحامي؟ رفيق المتعة المرة والنسيان؟ "لا عليك، بعد أن تقوم بهذه الإجراءات التي أمليت عليك، سأتكلف أنا بالباقي." نزلت عليه هذه الكلمات كالوحي فهدأت من روعه وزادته أملا وثقة في نفسه. حدق مليا في عيني زوجته، وقد اغرورقتا دمعا، ففتح فاه ولكن خانه لسانه. تنفس عميقا وقال بصرامة "ما أن ننتهي من كل هذا سنزور الأهل وسنرى من العاقر."