استيقظ تحت تأثير الألم يجتاح رأسه كالمعتاد ... تحرك مغمض العينين، وبحذر شديد جلس على حافة السرير، ووضع قرصي الأسبرين الفوار في كوب ماء ... دلق محتوى الكوب في جوفه، وأغمض عينيه في انتظار زوال الألم.
حركة جسد عار بجانبه ... تذكر تلك التي تشكل وجودها في ذهنه ككائن بحجم وحدته
استدارت نحوه باسمه، استجاب لها واحتضن رأسه بتأفف ... طلب منها ارتداء ملابسها لأنه ينوي الخروج.
حشر جسده في ملابسه، السروال، القميص ... أرادت معانقته فدفعها برفق ... لاح فوق وجهها عبوس، فلامس خدها بظهر سبابته ورسم على شفتيه ابتسامة.
سبقته إلى الحمام لإصلاح هندامها وهمت بالخروج، ثم عادت أدراجها متسائلة:
-هل نلتقي السبت القادم؟
أجابها ورأسه منكسة وهو يسوي من وضع قميصه:
نتكلم بالتليفون.
بعد لحظة وجد نفسه في الخارج ... بدا الشارع ساكنا، هادئا وكأنه معلق في الزمن. تمشى قليلا وشخص بناظره إلى السماء، بدت زرقاء صافية، جملية على غير المعتاد ... لم يكن ذلك متناسبا مع الكآبة التي يبثها في النفس فراغ أزقة مدينة يحس دوما بأنه منذ جاءها بقي غريبا، ولم يشعر بأرضها تحت قدميه صلبة على الإطلاق.
داعبت أنفه روائح الخبز والفطائر من المخبزة المجاورة، بجوارها دلف إلى مقهاه المعتاد... أشار إلى النادل بحركة أدرك مقصودها وجلس في أحد الأركان لتناول فطوره، ;; أدى الثمن ثم عاد في اتجاه مسكنه.
بدت سيارته القديمة غريبة في صف السيارات الأنيقة المركونة على طول الشارع، لا يهم! ... فتح بابها وألقى بجسده فوق المقعد الأمامي ... أدار المفتاح فصدر عن المحرك صوت مبحوح وسحابة دخان كثيف ثم توقف المحرك عن الدوران ... نفس المشكلة كل صباح! ... حاول ثانية وثالثة دون جدوى ... تبا! لم يكن الوقت مناسبا لتحمل مصاريف عطب السيارة أيضا.
أغلق بابها بعنف، فشعر بتيار ألم حاد يخترق أصابع يده اليمنى ويسري عبر ذراعه نحو القلب الذي ارتعش بشدة.
سرعان ما بدأ الدم ينزف بقوة ... تلوى من الألم وهو يبصق على السيارة ويلعن الزمن والناس أجمعين، وقصد شقته.
فتح الباب وطفق يبحث عن قماش لتضميد الجرح، تراءى له غطاء السرير الأبيض تتوسطه بقع دم حمراء، حرك رأسه وهم يزم شفتيه بتذمر.
تبدت له وحدته في لحظة أكثر قساوة من منظر الدم، وغزا القلق والشك كيانه لدرجة الهلع. انتابه سخط على نفسه، وعلى التي قضت معه الليلة، اشتد ألم أصابع يده وغطت بقع الدم قطعة القماش التي لفها حولها ... هاله حجمها الذي بدأ يتسع، شعر بالهلع ... ولاحظ أن لون دمه أكثر صفاء من بقعة الدم فوق السرير.
في تلك اللحظة سمع نقرا على الباب، شعر بقدر من الارتياح، قد يكون الطارق مسعفا له في هذه اللحظة العصيبة ... فوجئ برؤيتها حين فتح الباب، تبتسم خجلا وهي تمرق إلى الداخل مسرعة.
انتبهت مندهشة إلى يده الملفوفة في قماش دام، استفسرته عما حصل وسألته عما إذا كان يوجد بالشقة دواء وضمادات، فأجابها بالنفي.
لم تعد مبالية بما برر عودتها إلى الشقة، فقصدت الباب وهي تطمئنه بأنها ستعود بسرعة ..
بعد لحظة عادت وبصحبتها فتاة أخرى تحمل صندوقا طبيا ... رغم شعوره بالنفور من صديقته انتابه شعور بالامتنان نحوها حين غمرته بالعناية والرعاية.
تخيل دمه في لحظة خيط أمل راوده يوما ما حين عرض عليها فكرة الزواج، ... لعله دم الروح هو الذي نزف هذا الصباح، مؤكد أنه دم روح تنزف بصمت، يشي به وجوده، فيبدو واهنا بلا إرادة سوط زحمة الأشياء والناس في مدينة وقع في شركها بلا اختيار، موظفا بالأرشيف بإحدى الشركات، هناك التقيا زميلين بنفس المكتب. رآها تودع صديقتها عند باب الشقة، ثم عادت إليه باسمة، وقالت له بفرنسية سليمة:
-لا تقلق يا صغيري أنا هنا ...
راقبها وهي تصلح حال السرير. وباقي أشياء الشقة، بدت له رشيقة وجميلة، وهي تساعده على النوم فوق السرير ثم راحت لتنظيف الشقة بهمة ونشاط ...
وتساءل حالما؟ ألا توجد في الأحلام والوحدة يد ممدودة وحياة مشتركة؟ وسرعان ما هوى في نوم عميق.
حين استيقظ كان تأثير الألم الذي يجتاح رأسه كالمعتاد، مصحوبا هذه المرة بألم أصابع يده المجروحةراوده شعور بأنه رأى أشياء أثناء النوم، كانت الصور ملتبسة في ذهنه مثل التباس علاقته برفيقته.
أدرك أنه كان دائم الانجذاب إليها بقدر الحاجة إلى الانعطاف عن مسارها وتجنبه قدر الإمكان، يريدها بقدر ما ينفر منها، يختنق كلما انغمر في أسرارها، ويغمره الشوق إليها كلما ابتعدت عنه قليلا، كان يريدها أن تعطي لأحلامه حياة وشكلا ... وسرعان ما عاوده الألم من جديد، فوضع قرصي الأسبرين في كوب الماء .. اقتربت منه تستفسره عن حاله، وطبعت على جبينه قبلة، شرب محتوى الكوب وداعبت أنفه روائح الدم والعرق وطبع بدوره على جبينها الناعم الأسيل قبلة ... ولسبب ما تصور أنه يقبل جبين طفل.