كان الجو باردا و حبّات المطر ترقص على بلّور السيارة في رشاقة وعناد، حين كنت أقف بسيارتي على ناصية أحد شوارع العاصمة تونس ، كنت أنتظر صديقي طارق ..لقد تأخّر هذه المرّة ...كنت في كل مرة أنزل فيها للعاصمة نذهب إلى أحد المطاعم ونحتفل بالحياة فنحتسي السعادة و نتبادل أنخاب الانعتاق و أهازيج الانفلات لاسترجاع وهج الشباب و أكاذيب الطفولة ..لكنه هذه المرة تأخر ، المطر مازال يراقص البلور و أنا جامد في مكاني ...أنتظره .
أطلّ برأسه تسبقه هالة حزن لبستْ محيّاه ، في حين ظلت تلك الحمرة التي تغشى عينيه شفقا أبديًّا لا يفارق وجهه القمحيّ المتناسق ، جلس حذوي داخل السيارة ، عانقتُه :
- كيف حالك ؟
- بخير.
ظللنا نتابع حبات المطر تغسل البلور والبشر :
- جوٌّ رائع ....انظرْ إلى المطر إنه يرقص ...لابد أن نحتفل بالحياة كالعادة ...
فبادرني في حزن :
- بل الجو كئيب و لا يغري بشيء...
سألته في حيرة :
- ما بك ؟
أجابني دون أن ينظر إليّ ، مأخوذا بالمطر :
- لاشيء.
حاولتُ أن أدخل البهجة عليه ، لأني كنت متأكدا أن هناك شيئا يعتمل في داخله و يفتّته مثل قبس الطفولة البعيد، كنت أعرف أن صديقي يحاول إخفاء أمر عني بشكل عبثي ساخر ، فقلتُ:
- تتذكر كيف كنا في سنوات الشباب الأولى يأخذنا الانعتاق والبهجة أيام الصيف الحارقة....فنبدّد القيظ بماء الحياة و نعربد على رمال الشاطئ فنسكر بالشباب و نودّع صباحات الطفولة النزقة ، آه من تلك الأيام حين كنا نمزّق ليالي القرية الساكنة بالأغاني الملتزمة والنكات الخليعة ....كان "المنصف" دائما نجم تلك المغامرات ...
حدجني بنظرة فارغة ثم قال في انزعاج :
- حتى في غياب المنصف كنا أصدقاء رائعين ...
صمت لحظة ثم واصل وقد غاص في المطر واختنق بالكلمات :
- بل إننا في كثير من الأحيان كنا نتعوّد غيابه و غيابه ..ثم ..ثم إن غيابه...
قاطعتُه مستغربا :
- و لكن المنصف كان دائما ضحكتنا المدوية و سخريتنا المريرة و هروبنا المثقل بنحيب الخمرة و جنون البحر ، فكلّما قدم إلى القرية بسيارته الفورد البنية إلا وبعث فينا الحياة و كشف لنا صهيل البرد في صمت ليالي الشتاء...أتذكر حبّه المزمن لصباح فخري والشيخ إمام و عشقه الأبدي للتمرد و المغامرة ...
مسح بيد مرتعشة زجاج النافذة و حدجني بنفس النظرة الفارغة و قال :
- كلنا... كنا نحب المغامرة والتمرد : خالد ، سمير ، نبيل ، توفيق ،....
أحسست أن طارقا ليس على ما يرام ، بدا فريسة للحزن ينهشه ...أنا أعرفه جيدا و أقرأ قاعه الصامت جيدا ..أدرك تماما أنه بئر من الرصانة مالح ، يمقت البوح و يعشق الكتمان ذلك كان دأبه مذ كنا صغارا نطارد العصافير بفخاخ بدائية عند أشجار الرّمان في بساتين القرية البهيّة قطعةً من الفجر....
قلت له في سعادة :
- من كان يتصور أننا سنتزوج جميعا و سننخرط في الحياة والعمل و الأبناء ...حقا أعتبر ذلك نجاحا لنا جميعا ..
أجابني بكلمات تتمطى بمرارة :
-لم ننجح كلنا ...فأحلامنا في السعادة و تطور البلاد ظلت مجرد كذب و افتراء ....سعادتنا؟؟..سعادتنا أكذوبة اختلقناها وصدقناها ....في تونس الأحلام تأكل أصحابها و ترمي عظامهم وراء البحار ...
- ولكن تونس بخير ؟؟
- تونس أصبحت تبيع أبناءها....
- تقصد الذين هاجروا ..تقصد سامي والمنصف ؟!
-نعم..و غيرهم كثير : الحارقين لإيطاليا طلبا للحياة و المجاهدين في العراق و سوريا طلبًا للموت!!
قال كلمته و هو يزمّ على شفتيه و كأنه يمنع كلاما من الخروج أو يخفي عني شيئا ، فحدّقتُ فيه جيدا ، كانت عيناه قد زاغت تيهًا في زخّات المطر حين قال لي في توسّل وهو يهرب بنظراته إلى الخواء :
- أرجوك خذني إلى أي مكان إلا البيت !
طوّف ذهني بعيدا ، قلت في نفسي ربما له مشاكل مع زوجته و لكني أبعدت الظنون عن خاطري ...انتبهت إلى أنّ الحديث قد أنسانا الوقت و أن السيارة متوقفة فأدرت المحرّك و سألتُه :
- ألن نحتفل ؟؟
- لا أتصور ذلك ...فأنا لست على ما يرام .
- لماذا لم تقل لي ذلك في الهاتف لقد خابرتُك منذ يومين و شجعتني على القدوم إلى تونس ...؟
- حتى و إن جدّ جديد أو طرأ أمرمّا ..كيف يمكن أن أخبرك لقد كنتُ تائها و ما كنت أدرك ماذا أفعل ....لا أدري ماذا أقول ولكني لستُ على ما يرام .
حاولت أن أرفّه عنه :
- أنت حزين لأن الجماعة تفرّقت ؟؟ و لكن تلك سنّة الحياة يا صديقي ...أما بالنسبة للذين هاجروا فسامي كلما عاد من باريس إلا وأجّر سيارة من المطار و جاءنا لنحتفل في القرية ، يفعل ذلك حتى قبل أن يذهب إلى بعضٍ من أهله ، إنه والمنصف يحبان تونس ومن يحب تونس لا يمكن أن يشفى من عينيها ، وبالنسبة للمنصف فحسب ما قلت لي لم يمرّ عام على هجرته إلى هولندة ، أنا متأكد أنه سيزورنا هذا الصيف ..
السيارة مازالت واقفة والمطر ينهال كالقدر وفي لحظة خاطفة أحسست أن رصانته تترنح... تلك الرصانة المزمنة والصمت القاتل الذي لم تستطع أعتى أشربة الغرب أن تزحزحه ....في لحظة خاطفة امتلأت نظرته الفارغة بلمعان أعرفه منذ ثلاثين سنة ...لمعان خنق كلماته المرتعشة ..كان يضع يده على مقبض باب السيارة حين قال بكلمات حادة كالقدر :
- الحقيقة ...الحقيقة أن ... المنصف ابن عمي لن يعود ...لن يعود..
- و لكن لماذا ؟؟
- لأنه...لأنه مات بسكتة قلبية في شقته بأمستردام ..وجنازته كانت في الزلاج هذا الصباح ! يوم أمس أخذت ابنته الصغيرة من أمها لأنها كانت في حالة انهيار ...الصغيرة تلهو الآن مع ابنتي في البيت و أنا لا أريد أن أراها و لا أريد أن أعود إلى البيت ....
انخرط في البكاء ..... أخذ جسمه ينتفض و قد خانته الحروف و انهار جبل الرصانة في بحر من النشيج ....
شعرتُ بدوار يسحقني و بجفاف في حلقي ، تراخت يداي على المقود ، لم أعد أسمع شيئا سوى صوت الرعد يدكّ الأرض كاليباب و ينهشنا كالحريق ....
لم أدرِ كم ظللنا في السيارة يبتلعنا انهمار المطر...
في ذلك اليوم لم نحتفل بالحياة ، فقد كانت السماء تبكي صديقا أنهكته الأرض و نهشته الغربة فمات وحيدا مثخنا بالذكريات ...
صديقا كان ينفق الليالي في صخب .....
و يرتشف النساء في رحيق ...صديقا احتضنته الأرض و بكتْه السماء....