وضعت يدي الصغيرة على عيني تلافيا للطقوس الجنائزية التي تحيط بي من كل جانب،وانخرطت في بكاء مرير.ما حولي كله يزرع الخوف والحزن بسخاء. أجساد مترهلة ملفعة في ثياب بيضاء ،،،عيون محمرة من فرط البكاء،،،وصدور تصدر عنها آهات مكسورة.
محاولات أمي لثنيي عن البكاء باءت بالفشل.ربما أربكها سلوكي أمام ربة البيت فجاء سلوكها معي متشنجا،تعنفني طورا وتغريني آخر.نشيجي يتطاول بطريقة منغمة...حرنت ،لا أحد يستطيع إيقافي عن البكاء...بكائي يزداد قوة بفعل سحائب بخور العود المنبعث من مبخرات فضية وضعت بعناية في زوايا متفرقة من الدار الفسيحة. كانت الحركة قليلة ،على غير العادة،نساء يتنقلن بين الغرف أو باتجاه ’’الروا’’حيث تعد كؤوس الشاي والقهوة للحاضرات.
أطل من وراء فرجات أصابعي لأتابع مايجري .لم يكن بإمكاني فهم كل مايقع،لكني تيقنت أن الحزن ، المفتعل أحيانا،هو سيد الموقف...يطفح من عيون النساء ويطفو على وجوههن وهن يتحركن بخطى محسوبة ويتبادلن نظرات لها أكثر من معنى...
ألفت كلماحضرت مع أمي إلى هذه الدار الفسيحة ،حين تستدعيها ربة البيت أن أتلذذ ببعض أطايب الطعام وقطع الحلوى وأقضي معظم الوقت مع الأطفال الذين تعج بهم الدار.نلهو في "الروا" أو ندخل العرصة نتسلق أشجار التين والبرتقال والرمان.وإذا حدث ومرقنا إلى باحة الدار كانت ربة البيت البدينة تنهرنا ولاتتوانى عن ضربنا على القفى أوقرص آذاننا...ربما كان الأطفال أيضا ينادونها في سرهم "الطبوزة"انتقاما كما كنت أفعل أنا.
داهمني ضيق شديد ، وتعالى بكائي.ألححت،من وراء دموعي ، على أمي أن نغادر المكان دون إبطاء لكنها رفضت ،،، انفلت من بين يديها لأتيه في ردهات الدار الفسيحة.في أثناء ذلك هبت على المكان ريح خفيفة حركت أشجار البرتقال في الأحواض الأربعة في باحة الدارفأحدثت حفيفا كسررتابة الصمت المطبق.وتزامن ذلك مع خروج رجل بلحية بيضاء كثة من غرفة في أقصى البهو وترك بابها مواربا وهرول بجلبابه الأبيض وعلامات الجد بادية على محياه.
قادتني خطواتي إلى الغرفة الموارب بابها فدلفت في غفلة من الجميع.وجدت نفسي في مكان شبه مظلم ،في أقصاه شمعة خافتة الضوء تحجبها سحائب من دخان البخور وتعبق في جنباتها روائح شتى تطغى عليها رائحة طيب العود.اعترتني قشعريرة وانتابني شعور بالفزع.توقفت عن النشيج،تسمرت في مكاني أجيل بصري في العالم الغريب الذي لفني في إهابه. شعرت بعيون كثيرة مفتوحة تحملق في من كل زوايا الغرفة وتسلط أنوارا أرجوانية على جسد مسجى فوق خشبة مائل لونها الى الصفرة ،جزؤه الأعلى عار .بفرست في وجه الرجل مليا ...كان يسدر في نوم هادئ،،،عيناه مسبلتان ،شفتاه منقبضتان قليلا،فمه مفغور يعبر عن دهشة وجسده متهدل لاتند عنه أدنى حركة.حضرتني صورته وهو جالس، في وقار ،أمام باب داره بلباسه الفاخر يتابع المارة بنظرات باردة مهم يسلمون عليه على استحياء أو يلوح بعكازه في وجه الأطفال إن هم مروا بجانبه .
أحسست بألفة غريبة تتدفق من وجه الرجل رغم الشحوب الشفيف.تحركت شفتاه ودبت فيهما الحياة فابتسم في وجهي ابتسامة بددت الخوف الذي كان بداخلي كدت أتحرك نحو ذراعيه المفتوحتين لاحتضاني لولا قرصة في أذني أفاقتني .التفت لأجد الرجل ذا اللحية البيضاء الكثة يمطرني بكلمات لم أفهمها .دفعني نحو الباب الوارب ونسحبت باكيا إلى حضن أمي .صفعتني وأجهشت هي الأخرى باكية.
في الليل، عندما عدنا الى غرفتنا الصغيرة ،حاصرت أمي بأسئلتي .لم تكن تجيب على كثير منها ،اكتفت بالنظر إلى وجهي كأنها تبحث وراء ملامحي عن شخص عزيز ثم انهمكت في أعداد العشاء من بعض الطعام الذي أحضرته من دار العزاء .سمعت صياح ديك آت من بعيد .كانت جدتي تقول تلك علامة على أن روحا طاهرة فاضت إلى بارئها.
في غضون تناونا للعشاء ألححت في السؤال عن الرجل النائم وما أصابه ،فجاء جواب أمي وهي تتظاهر باللامبالاة:
-مات !!!!.............. ... ..مات!!!
-مثل أبي ؟،هل احمرت اعينكم من البكاء ؟هل أشعلتم بخور طيب العود حين مات أبي؟؟؟
طال صمتها ،وجاء صوتها كأنه يطلع من غيابات جب :
-أبوك مات في غرفة باردة وحيدا دون أن يعلم به أحد!!!ربما أطعموا جسده كلابهم المسعورة !!!!
أطفأت أمي مصباح الغاز أيذانا منها بإنهاء الحديث .لحظتها سمعت نشيجها.
أسدلت اللحاف على وجهي فانفتحت في الغرفة عيون كثيرة وأنارتها بألوان زاهية وتراءى لي وجه رجل، هو أبي،ابتسم لي وزكمت أنفي رائحة طيب العود...ونمت قرير العين.