يبدو السؤال غريبا بعد كل ما حصل من التنظير الفلسفي و الأدبي و الثقافي , لكن في واقع الأمر كل فرد منا نحن البشر في حاجة لطرح السؤال في مراحل مختلفة من حياته , كلنا في حاجة لمراجعة تصوراتنا عن المعيش و عن ما نمارسه يوميا بشكل روتيني لأننا لا نطرح السؤال حوله و كأنه بديهي أو كأن معرفتنا به من قبيل المسلم ت، وربما يعزى ذلك لكون الظاهرة "الحياة" تحتوينا لذلك تنعدم المسافة بين الموضوع و بين الذات العارفة "الإنسان" , و السؤال عن الحياة يكتسي أهمية قصوى قد لا يدركها المرء , لأن الفرد لا يقدر الأسئلة التي تشغل باله بوعي أو بدون وعي بقدر ما يقدر الأشياء الملموسة و يطرح الأسئلة حول ماهو ملموس فقط ، و يبقى السؤال بذلك مضمرا و مقلقا إلى أن يجده الواحد منا كامنا في تلافيف دماغه , يؤرقه و لا يعرف السبب بل و حتى لا يعرف حلا لأرقه إن لطرح الأسئلة التي قد لا تبدو ذات نفع مادي دورا هاما في تحقيق الراحة النفسية التي تعتبر رأسمال غير مادي هي الأخرى , و قد قال البشر كثيرا عن الحياة , قالوا عنها كل من موقعه و من مرجعياته المعرفية و الحياتية الواقعية و لو أنك تسألهم واحدا واحدا هؤلاء الذين انشغلوا بالسؤال ستدرك التباين الحاصل في إجاباتهم ما يؤكد لك أن الموضوع يستحق التركيز و أن مسألة تصورنا عن الحياة نحن البشر تكتسي أهمية قصوى باعتبارها سؤالا مؤسسا لمنظورنا الكلي للوجود و للذات أيضا التي يتضمنها الوجود أو التي تخلق الوجود وكلا الوجهين ممكنين , و لنفترض جدلا أننا سألنا هؤلاء الذين قالوا عن الحياة و نظروا لها من زوايا مختلفة فما كانت ستكون الإجابات.....
كان المحامي ليقول"الحياة هي الحرية ،هي أن يعيش المرء خارج قضبان السجن، أن ينطلق متى أراد إلى أي مكان شاء لا تكبله قيود و لا تضمه زنزانة و لا سجن , يتمتع بحق التنقل و التصويت و السكن وووو...
كان الفيلسوف ليقول" الحياة هي النفس ، ذلك العنصر غير المشاهد بالعين و المدرك بالحدس ، و تبقى هذه الحياة باستقرار الأنفس بكل مكوناتها، بحيث تكون النفس الغاضبة و النفس الشجاعة و النفس العاقلة في تناغم تام فلا تغلب الواحدة على الأخرى ، و لربما عرفها فيلسوف آخر من فترة متقدمة بأنها "الوجود في ذاته" أو أنها التواجد (وليس الوجود) في الزمان و المكان و الامتداد فيهما جسدا و عقلا ، أو لربما قال آخر بأن الحياة تبدأ عندما يعقل العقل ذاته تعقلا موضوعيا بحيث تكون معرفة العقل لنفسه بداية الحياة المعرفية و حتى الواقعية ... ولكان أكثرهم تطرفا و جنونا ليقول " الحياة هي الحرب ، لا حياة بدون حرب، لا تاريخ بدون موت وصراع، الحياة تنعدم في لحظات السكون و تنشأ عند لحظات الحرب فقط الصراع يكشف عن الحياة حجابها المخملي .....
و لربما قال الصوفي " الحياة هي الله يا بني , حيثما كان الله كانت الحياة و حيثما غاب غابت وأفلت و حل الموت و الخراب , الحياة يا ولدي متجلية في العالم، في دقائق الأمور، كل نسمة ريح حياة، كل قطرة ماء حياة، كل نبتة حياة، كل مخلوق من مخلوقات الحق سبحانه جزء من الحياة الكلية التي هي الله......
و لربما أجابني الموسيقي قائلا" الحياة يا صديقي هي النشوة القصوى في مقطوعة موسيقية، هي انحناءات الوتر و أوجاع الكمان وتشرد النايات بحثا عن معنى للوجود، لربما كان سيصمت و يأخذ كمانه بين يديه ليعزف مقطوعة حزينة –سعيدة مثل مقطوعات الفصول الأربعة لفيفالدي وكأنه يريد أن يقول أن الحياة شتاء، ربيع، صيف ثم خريف ، ربما كان الموسيقي سيرقص على أنغام البيان و دمعة تسري في خده و هو ينظر إلينا و كأنه يريد أن يقول ...انظروا إن الحياة ليست إلا رقصا باكيا على أنغام البيان......
ولو أننا سألنا نحاتا لربما حدثنا قائلا: " الحياة هي ذلك الهدف الهارب الذي أضعت عمري بحثا عنه ، إنها المبتغى مما أفعله، إنني عندما أمسك إزميلا و قطعة رخام أو صخر أحاول و كلي أمل أن أصنع الحياة، أرغب بكل جوارحي أن أخلق تمثالا و عندما أنتهي منه يبتسم لي أو يغمز بعينه ....إن الحياة هي الهدف الأول و الوحيد لما أفعله، إنها المعنى الضائع الذي أفشل كل مرة في إيجاده، لكني لا أكل من المحاولة سأستمر لربما وجدت المعنى و لربما ابتسم لي تمثال يوما ما...
و لنفترض أننا طرحنا السؤال ذاته على عالم نفس لم يكن جوابه ليكون مخالفا للآتي:" الحياة ظاهرة سيكولوجية قبل كل شيء و هذه الظاهرة تتحقق على مستويين : مستوى فردي و آخر جماعي ، أما المستوى الأول فمرتبط بالشعور و اللاشعور الفرديين حيث إن الحياة هي مجموع الإدراكات الواعية و اللاواعية من قبل الفرد، في حين تعتبر الحياة في المستوى الثاني هي التجلي الجمعي للحياة الفردية حيث الوعي الجمعي و اللاوعي الجمعي شكلان لحياة الأفراد و هم مندغمون في دائرة اجتماعية واحدة لها أعرافها وقوانينها ...إلخ.
ولو أني سألت رجل الدين لقال لي: " الحياة يا بني أمانة في عنق الإنسان منحها الله له بنفخة واحدة و سيأخذها بنفخة أخرى في يوم النشور، لذلك يجب على العباد أن يحافظوا عليها لأنها من عند الرب وكل ما يأتي من عند الله مقدس، يجب أن تعمل للحفاظ عليها، يجب أن لا نغضب الله بحفاظنا على جوهر الحياة الذي هو الإيمان ، يجب ...يجب ... يجب.....وكأن الوجود يبدأ بمنح الحياة وسقوط الإنسان للأرض من الفردوس و ينتهي باسترجاع الحياة، ليكون الزمن الفاصل بين العطاء و الاسترجاع اختبارا للإنسانية في مواجهة الشر .
و أنني فعلا سألت كل هؤلاء، ولم أسأل الصحفي أو السياسي لأنهم ما كانوا ليفيدوني في شيء، سألتهم من خلال ما كتبوه وما قالوه، فتعلمت منهم الكثير عن الحياة، مع الطبيب تعلمت كيف أن الجسد وظائف متكاملة لذا" يجدر بي" أن أحافظ على كل عضو من أعضاء جسدي , ألا أتعب قلبي و أن أنام جيدا و أتغذى جيدا ...الخ, و أفعل كل تلك المتطلبات لأحافظ على الحياة بمعناها العضوي الفيزيقي...
و تعلمت مع المحامي أن حريتي هي الحياة نوعا ما، فأن أكون خارج قضبان السجن معناه أن أتحرك كما أريد، أن أسافر من مكان لآخر و أركض إن شئت، أن تنبع سلوكياتي من مشيئتي أنا، أنا وحدي ...لذلك فالحفاظ على هذه الحرية يٌقتضي أن ألتزم بالقوانين المحددة لحريات الأفراد و الجماعات ومسؤوليتهم...
كما لا أنكر أن الفيلسوف أكثر من غيره زودني بوعي عميق عن وجودي و عن بنيات عقلي و علمني عن الحدود الزمكانية للذات و عن النفس و ضرورة توازن مكوناتها توازنا يحفظ النفس(الحياة)، فصرت لا أغضب إلا لضرورة، و صرت أقدس الشجاعة إذا كانت في محلها بل إني أكثر من ذلك صرت أعقلن كل شيء استنادا إلى ما علمني إياه عن النفس العاقلة و عن كونها تحفظ وجود الفرد و توازن بين باقي القوى الأخرى التي تعتمل في كيانه ...
تعلمت من الموسيقي أن اللذة قد تكون لا حسية و من ثمة يمكن للحياة أن تتحقق في مستوى آخر بالإضافة إلى المستوى المادي – الفيزيقي، ليس هو المستوى العقلي كما قد تعتقدون، إنه مستوى الروح (أقولها بتحفظ ) بالرغم من أن مفهوم الروح يفهم بشكل خاطئ بعد كل الأوساخ التي علقت به جراء تجواله في ردهات الكنائس و المساجد و المعابد، لقد تعلمت من الموسيقي أن البكاء لا يتعارض مع الرقص و بأن الحزن قد يكون أسمى تجليات الذات الحية، لكنه لن يسمو سمو الفرح و إرادة الحياة، فالفرح يبقى أعمق تعبير عن الحياة و عن الوجود عموما تبقى الابتسامة نجمة راقصة تؤثث الرؤية الكونية للفرد ....
أما رجل الدين فقد علمني كيف أقدس الحياة، ليس لأنه هو يقدسها -لأنه في واقع الأمر يحتقرها- بل لأني تعلمت من استسلامه و من حتميته المثيرة للشفقة أن الإنسان لا يمكن أن يكون خليفة مأجورا و أن الحياة لا يمكن أن تكون وديعة أو منة و عطاء من الله، لأن الحياة كما قال لي الشيخ الصوفي هي الله ذاته متجليا في مخلوقاته كائنا في كل مكان وكل زمان، تعلمت من الصوفي أن الله لا يسكن برجا عاجيا و يعطي و يمنع، كما أنني تعلمت منه أن الحياة شر و خير و بأنهما متلازمان بحيث لا يكون الخير إن لم يكن الشر و العكس صحيح، إنهما يستلزمان بعضهما كما يستلزم الضوء الظلام، غير إن حضور واحد منهما يعني اختفاء الآخر و تواريه لحين كي لا يفقد الوجود توازنه ....
لقد تعلمت من كل هؤلاء أفكارا و ممارسات كثيرة عملت بها أحيانا، بل و أقول أني آمنت بها إيمانا راسخا في مراحل معينة من حياتي القصيرة و اتخذتها ديدنا أقيس به و عليه كل سلوكياتي و أقوالي، و الحق أقول كنت راضيا بحالي تلك و بالحياة التي كنت أمارسها كما فهمتها آنذاك، لكن شكا ما كان يساورني و يمخر تلافيف دماغي عن وعي أو دونه، إنها تلك اليرقة التي تتفجر داخل رأس كل واحد منا لتتغذى على هدوئه و يقينه و تنمو في دماغه رويدا رويدا فينمو معها الشك و الارتياب، و تنمو الأسئلة من جديد أو تعود أسئلة قديمة إلى الواجهة، هل الحياة فعلا كما قال لي هؤلاء، هل الحياة بمعناها الكلي تنطبق على حالتي الخاصة، و لنفترض أني فهمت كل ما قالوه و تعلمت منهم أشياء كثيرة هل كان ضروريا أن أهتدي بأقوالهم بالحرف، أليست أقوالهم ناتجة عن تجاربهم الشخصية؟ أليست نصائحهم و فتاويهم نتاج خالص لرؤيتهم الذاتية للوجود و للحياة و للصحيح والخطأ و الكامل و الناقص و الجيد و السيئ و المفيد و غير المفيد ...؟ هل الحياة فعلا عقل العقل لذاته؟ ألا يمكن أن تكون الحياة فوق العقل أو خارجة عن مداه الإدراكي أو أنها دونه فلا تحتاج أن يدرك ذاته أصلا بل يكفي أن يتعقلها هي فقط.
هل الحياة نشوة فعلا كما قال الموسيقي أيضا, أين الألم إذا يا صديقي الموسيقي؟ أليس الألم موجودا؟ فكيف اختزلت الحياة في النشوة؟ ألا يمكن أن تكون هناك نشوة للألم أيضا؟ مادا عن كون الحياة بحثا عن الحياة كما يحاول النحات أن يفهمنا أليس جنونا أن يحاول رجل بقطعة من الحديد أن يصنع رجلا يتكلم أو طائرا يطير؟ مادا لو أن الرجل فعلا يتكلم لكن النحات لا يسمعه وأن الطائر يطير لكن النحات لا يراه، مادا لو كان كل شيء حولنا في حركة ونحن نعتقد أنه جامد أو العكس مادا لو كان كل شيء يسبح في هدوء كوني قاتل و نخن من نصبغ الحركة على كل شيء بحيث أن حركة الموجودات لا تحصل إلا داخل أدمغتنا المغلقة بإحكام ؟ , مادا لو كانت حواسنا خدعة كم قال الفيلسوف؟ أو أنها كانت مستقلة عنا استقلالا جزئيا بحيث تظهر لنا ما تريد و تخفي ما تريد هي أو ما يريده شيء آخر يتحكم بها و نحن لا ندركه، مادا لو أن الله ليس هنا كما يعتقد الصوفي أو أنه ليس الحياة كما توهم ، مادا سيكون الله ساعتها وما الذي ستكونه الحياة إذا فصلنا بينهما ، هل ستكون الوضعية كما تصورها رجل الدين؟ الحياة منحة و الله في برج عال يخطط للإيقاع بالعباد ليعذبهم بعدما رسم لهم مصيرهم في اللوح ...أستبعد ذلك كثيرا.
ثم أيها الطبيب كيف اختزلت الحياة في الجانب الفيزيائي ما أدراك بالحياة أنت؟ و إلا أجبني في أي واحد من هذه الأعضاء تكمن إذا؟ أفي القلب أم الدماغ أم في الرئة...طبعا أنت لا تعرف لأن عملك يختصر في تشريح الأعضاء وفي العمل على المحافظة على الجسد فقط و على وظائفه الحيوية لا غير...
و أنت أيها المحامي المسكين، يا رجل القانون المخدوع، دعني أسألك فقط ما إن كان كل إنسان خارج القضبان حرا؟ إني كنت أعتبرك معلما لكنك خربت معنى الحرية و لقنتني أسوء مفهوم عن الحرية و الحياة لقد خدعتني ... لأنني التقيت فيما بعد أناسا خارج القضبان لكنهم أسوء سجناء رأيتهم، بعضهم سجين الغد و آخر سجين البارحة، آخرون سجينوا الحاضر، و أسوأهم سجين فكرة أو معتقد، لقد جعلتني أنا ذاتي أعتقد أنني حر مادمت أركض متى شئت أو أنام و أستفيق متى شئت، أفكر كما شئت، و لأنني كنت أصدقك خسرت كل الناس لأكون حرا و أفعل ما أشاء متى أشاء، لقد منعتني من أن أفهم الحرية كما كان يمكن أن أفهمها من خلال تجاربي لأن الحرية قد تكون نسبية يا صديقي ....
أما أنت يا صاحب اللاشعور فإنك اخترعت أسوأ كذبة صدقها الناس، اللاشعور ليس سوى واحد من أكاذيبك الجميلة، وقد تكون محقا فعلا لكني لا أريد أن أصدقك مادامت الحقيقة نسبية و"وهما نسينا أنه كذلك"، فالحياة وفقا للاوعيك ولاشعورك قد تكون لا مسؤولة في لحظات كثيرة و قد يستغل المرضى و المشوهون فكريا لاشعورك هذا ليدينوا الحياة أو ليبرروا جرائمهم الشنيعة في حق الشعور و العاطفة و الحس و الحب والحرب و الحياة ذاتها .....
لقد تعلمت من هؤلاء جميعا لا أنكر، لكني انتهيت إلى مفترق طرق بحيث لم أعد أعرف طريق أي واحد منهم سأتبع، ساعتها كانت اليرقة التي تنغل داخل رأسي قد وصلت إلى طور الفراشة فكان لزاما علي أن أشق طريقي في الحياة لوحدي بمفاهيمي الذاتية عن الحياة و عن الحرية و الأمانة و الصواب و الخطأ... كان من البديهي ساعتها أن أفهم الحياة وفقا لطور الفراشة و لمرحلة الأجنحة، فاعتذرت لكل أولئك الذين علموني مفاهيمهم الذاتية و قلت : وإن لي حياة لأعيشها و سأعيشها بإرادة، إرادة الحياة ستكون ديدني الوحيد و سأؤجل الحكم على الحياة كمفهوم إلى أن تشارف هذه الحياة على نهايتها
...ساعتها سأكون ربما حسمت مع مفهوم الحياة و معناها و سأموت بهدوء، لأموت الموت كما عشت الحياة، و أحاول فهمه هو الآخر حين تكتمل تجربتي فيه و أصل من الموت قدرا أستطيع به أن أقيمه كما يجب لأمر إلى مرحلة أخرى ربما .
البوعيادي محمد