فجأة وجدت نفسي واقفا وسط هذا الحشد الهائل من الناس وأنا امسك بيدي هذه الرمانة اليدوية المنزوعة الأمان التي قد تنفجر الان في اية لحظة بمجرد التراخي البسيط الذي قد يصيب يدي . وأنا اصرخ بين الناس أن يهربوا بعيدا عني ولكن يبدو وكان لااحد يسمعني ولم يهرب من امامي احد لغاية الآن . ربما السبب هو هندامي الانيق وربطة العنق التي لفت حول رقبتي بعناية واهتمام كبيرين , كما تلف المشنقة بإحكام على رقبة مجرم يؤمل ويُنتظر موتُه منذ زمن بعيد , جعلت لا احد يصدق ان هذا الرجل الذي يشبه استاذا جامعيا ولا يثير الريبة بشكله أو تصرفاته أن يكون إرهابيا .
إنني الآن في مأزق حرج أتساءل مع نفسي بخوف شديد ماذا لو انفجرت هذه الرمانة اليدوية بين هذه الجموع البشرية من الناس فما الذي سيجري عند ذلك ؟ سوف تحدث الكارثة . سيموت الجميع وأنا أولهم . وسيلحقني عاران الأول عار ضميري الميت أصلا , وعار اللعنة التي ستلحق لحمي المتعفن .
ـ أيها الناس أنا إرهابي متورط . تعالوا أنقذوني من هذا المأزق الذي أنا فيه . أيها الناس تعالوا انظروا ما بيدي وانظروا للمصيبة الساكنة الآن تحت ثيابي . ولا تقولوا عني اني كاذب .لقد اقتادوني إلى حيث لا ادري وصنعوا مني كي لايراود الشك احد , أنموذجا للإرهابي المثقف الأنيق . ولكي يقتلوا بواسطتي اكبر عدد من الناس وضعوا , تحت ثيابي مفخخة تكفي لقتلكم جميعا .
رغم كل هذا الصراخ لم يسمعني احد ولا يكاد يعبا بي احد . إنهم لا يصدقون ان إرهابيا بيده قنبلة وتحت ثيابه مفخخة صمما للقتل وإراقة الدماء , يصرخ متوسلا , ليستنجد بالناس . والأدهى من ذلك فان الكثير من الناس الذين اعرفهم وأكاد اجزم إنهم يعرفوني , يمرون بي دون ان يهتم احد بما أنا فيه من ورطة , بل ولا احد يرفع يده ليحييني . ربما ذلك يحدث بسبب وضعي المثير للارتياب . لقد انقطع الفضوليون عن المكان كما يبدو لي لسوء حظي العاثر .
انا واقف في وسط سوق شعبي مزدحم , وربما هم بسبب ذلك لايكادون يسمعوني بسبب ضوضاء المكان وازدحام الناس الشديدين . ولذلك علي اللجوء إلى وسيلة أخرى . مثلا أن اذهب إلى الشرطة وأقول لهم ان أنا إلا إرهابي متورط ونادم الآن على كل شيء واني أقدم نفسي فداءا للوطن .
ولكن أي وطن هو هذا الذي سأقدم نفسي فداء له ؟ ومن سيصدق هذه الأكذوبة السمجة ؟ والتي يدعي الجميع إنهم ينتمون للوطن . وهم على استعداد للموت من اجله . حكام العراق أول من يدعي ذلك مع إنهم جميعا من أتباع علي بابا , بل ان كل واحد منهم هو علي بابا نفسه لكثرة ما سرقوا من العراق حتى بدون ان تتعبهم كلمة السر المعروفة افتح ياسمسم ومع ذلك تراهم يتغزلون بالوطن وكانه فاتنة هابطة من السماء البعيدة .
يبدو لي إننا أول شعب في العالم اخترع الشفرة وسرقها من ثم .
في ليل العراق هذا يدعي الجميع إنهم في خدمة هذا الوطن . حتى قتلة النساء . والفئات المختصة بالذبح بالسكاكين والسواطير من أركان المليشيات هم في خدمة العراق . بل حتى أولئك الناعقون بالطائفية وتجزئة الناس هم أيضا في خدمة الوطن . يضاف لهم هؤلاء الذين يحيزون التاريخ كل واحد إلى طائفته العرجاء من كلاب المنابر وضباع الموائد الدسمة .
وحتى أنا في حقيقة الأمر كنت أظن نفسي ساعيا لخدمة الوطن ، عندما جندت من قبل أولئك الناس الذين غسلوا دماغي وألبسوني كل هذا الجنون الكامن الآن تحت ثيابي , من اجل هذه المهمة التي ليس لها آخر , مع هاتين اليدين المتراخيتين اللتين لاتكادان تمسكان بما تحملانه من هم ثقيل , وان يدي التي تمسك بالرمانة موضوعة في جيبي ولا استطيع حتى إخراجها .
اين ساجد الشرطة في هذا الوقت الذي ازدحم فيه الجميع واختلطوا فيه مع بعضهم وعليّ المشي طويلا قبل الوصول لأقرب شرطي وستنفجر القنبلة التي تحملها يدي المرتجفة من هول ما انا فيه من شد عصبي . إن الشرطة ، ورغم كثرتهم فانا أجد من الصعوبة التفاهم مع شرطي في الظروف الاعتيادية لجهلهم وعنجهيتهم الفارغة وفسادهم ، فكيف والحال ، خصوصا لمن هو في وضعي ؟.
أنا أسال نفسي الآن ترى من يستطيع ان يقنع أحدا بما أنا فيه من موقف شاذ لايحسد عليه احد بل ولا احد سيطلع على ما انا فيه من أزمة حتى لو إنها انتهت على خير . وأي خير سيكون عليه إرهابي , ستكثر عليه الأسئلة عن جماعته عددهم وكيفية وصولهم إليه والأحرى كيف وصل هو لهم وكيف اقتنع هو بأفكارهم فارتدى هذا الحزام الناسف ليقتل أناسا لا تربطه بهم أية معرفة من بعيد أو قريب ؟.
لقد أتمنى وأنا في وقفتي تلك احد أمرين لا ادري ان كان هناك أمر ثالث لهما . إما أن تنفجر تلك المفخخة وتقتلني وحدي وتخلصني من هذا الموقف , ا و ان يأتي احد ما لينقذني مما أوقعت نفسي فيه وليمسح على ظهري ويسامحني على الورطة التي أمست نفسي فيها .ان هذين الأمرين كلاهما مستحيل . وأين الصدفة التي ستحوك أمام الغيب أمرا مصيره خارج حدود الإدراك ؟
أنا الآن في مأزق باتت نفسي اثناءه مجهولة من قبلي وجاهلة ما يدور حولها وأتساءل الآن عما يدور في داخلي ، ان كان جبنا أم شرفا متأخرا أم يقظة ؟ وأين كان كل ذلك مما يحدث معي الآن وما الذي يجري لي في هذه الساعة ؟ أنا اسأل نفسي الآن قبل أن يسالني احد , بل وقبل أن يستبيح احد ضربي واهانتي وتعذيب جسدي المرهق ، ليسجل اعترافات وهمية لي , كما يشاء هو لا كما الواقع .
أنا الآن احتقر نفسي فكيف هو الحال مع الناس تجاهي أنا ؟ سوف يتهموني بالجبن كما اتهم نفسي الآن وقد اختلطت الأوراق في راسي فبت لا اعرف ماهية الدوافع التي جاءت بي إلى هنا ؟ ولماذا وقفت هذا الموقف مع ان مهمة أوكلت لي وكان علي انجازها ؟ وبإمكاني الآن تخليص روحي من كل هذا الألم والمشاعر الغريبة دونما تعب يذكر بمجرد ان أرخي يدي وينتهي كل شيء لتنتهي بذلك تلك النزهة الغبية من التناقضات التي لا اعرف المدى لصدق احدها .
كنت سابقا قبل ان تحصل هذه المعمعة التي تشبه اللعنة , في العراق , التي تغير فيها كل شيء عن سابق عهده , قبل حصول هذا الاصطفاف الطائفي السياسي البغيض , كنت قد قرأت كتبا قليلة دون ان افكر يوما في السياسة أو الدين أو في أن اتجه لأي صوب منهما . ولذلك فما الجدوى الآن من قتل هذا الكم الهائل من الناس ؟ وتلطيخ سمعة عائلتي , وإيذاء كل من له علاقة تربطني به ؟ خصوصا واني واقف في مكان يعرفني فيه الكثير ممن مروا بي وتجاهلوني ربما .
ان الذين سوف لن تطالهم رمانتي ومفخختي , أولئك المتسيسون الجالسون بلا عمل مفيد للناس والذين يملاون العراق , سوف يفلسفون كل ما يجري لصالحهم وصالح كياناتهم ولذلك سوف ينعكس الأمر وسيصور بغير ما يطمح له من جندني ومن فخخني .
إن الذين جندوني لهذه المهمة الرديئة لا بد إنهم يتابعوني الآن كما قيل لي , وأكاد افترض جازما , إن لديهم وسائلهم لتفجيري وياليتهم يفعلونها الآن ، ليتخلصوا ويخلصوني من المشكلة التي أوقعوني بها , والتي أوقعتهم بها انا الآن . فهم في كل مرة سوى هذه , يأتون بأناس يفجروا أنفسهم , وكفى .
وهنا وفجأة وإنا واقف وقفتي تلك أخذت الصدفة مجراها الطبيعي حين مر بي احد معارفي وكان قد وجدني في موقف مضطرب وغير طبيعي فسألني :
_ مابك يا فلان ؟ لا يبدوا انك بخير؟
كان فمي متيبسا فحاولت أن اخبره عن وضعي دون جدوى .
أعاد السؤال علي مرة أخرى . قال لي :
_ يافلان هل أنت بخير ؟ قل هل أنت بحاجة إلى مساعدة ؟
قلت له بصعوبة بالغة بعد ابتلاع ريقي مرات عديدة :
_ يا صديقي أنا إرهابي متورط . وارغب بمن يخلصني من مشكلتي .
لم يصدق للوهلة الأولى فراح يضحك مني ولكني استطعت أن أقنعه بوضعي الشاذ واريه المصيبة التي تكمن تحت ثيابي . عندئذ , بدا يرتعش خوفا قبل ان يبدا الركض بعيدا عني , ويصرخ بأعلى صوته بالناس , الابتعاد , فدب الهرج والمرج بين الناس وراحوا يتساقطون من شدة التدافع وهم يهربون مني وكأني مصاب بالجرب . وأين الجرب وكل الأمراض الحديثة الفتاكة من شخص يرتدي مفخخة ؟
عندئذ هرع الشرطة لي وخلصوني من ماساتي . لا كتشف بعد ذلك ان صوتي الذي كان مختفيا أثناء الصراخ هو السبب أن أحدا لم يكن ليسمعني .
الآن وأنا في كامل وعيي وأنا في سجني الصغير , أكاد اكتشف أن القتل حرفة لايكاد يتقنها سوى أناس درّبوا على ذلك لزمن طويل فسلموا له أنفسهم ربما عن قناعة ساذجة أو ربما تحت تأثير التخدير العنيف أو الجنون.
واكتشف كذلك إن كل مافعلته القاعدة عدوة الحياة , من انتهاكات كان يصيب أناسا لاناقة لهم ولا جمل بما يجري وهو يعطي جرعات قوية لأعداء الإنسان , أولا ولأفكار الظلام ثانيا , ولصعود حرامية المال والفساد ثالثا الذين جعلوا العراق رأسا فاسدا بلا أقدام يسير عليها والذي سيظل مقعدا لحين الانتهاء من أكلتهم الشهية بباقي أجزاء جسده المنهار .