على رفوف الذاكرة، بين الأيام البالية طيف الطفولة يغازل الأحلام و في ثنايا الذاكرة أوراق الصبا تتبعثر و يضيع الحلم بين الاوهام،على رفوف الذاكرة ألسنة اللهيب تهدد أحلام الصبا ، تتوهج الاحاسيس و يغزو الأسى عالم البراءة .على اوراق الزمن الغابر حبر العذاب يداعب التذكار و تسيل دموع بلون الدم و آهات تمزق سكون الليل الصامت
ليل طويل زال كطيف إحترق بنور الشمس و دمرته أشعة وجنتيها. لا أدري لماذا خاصم النوم جفوني هذه الليلة مع أنني كنت متعبا بعد أسبوع من العمل الشاق في هذه المؤسسة التي تكتم انفاسي و تقتل الإنسان بداخلي لتحل محله آلة صقلها الروتين و النمطية القاتلة.
أيامي فقدت حرارتها و قدسيتها و أصبحت تتعاقب كوحدات السبحة في يد عجوز، بطيئة، خاضعة لنظام في التعاقب يجهز على كل أمل في بزوغ بصيص مفاجأة أو جديد.
ربما خاصمني النوم و صاحبني السهاد هذه الليلة لأنني في حاجة إلى كل ثانية تأخدني على بوارق الذكريات أدشن و أكتشف عوالم و مواطن طوتها رفوف الذاكرة و زرعتها في كل أحجار و اغوار هذه القرية - المنفى - المنبوذة في رحم النسيان.
و ها أنذا أعود لوحدي مع بريق أمل يتآكل و مسحة حزن رسمت على ملامحي أشجار العنف و الموت. عدت إلى هذه القرية - اللعنة - لأزور قبر أحمد و ادفن إلى جواره كل ما يربطني بهذه الشخصية من ذكريات و أحلام. رخام قبره تاه وسط حشائش أسدلت عليه رداء أخضر مرصعا ببياض الزهور اليانعة، عجيب أن يكون هذا المكان جنائزيا - مكانا يسكنه الموت مخضرا و فيه حياة مع أن القرية كلها موت، ضياع و صمت.
عجيب هذا الإحساس الذي يجتاحني، أشعر بأنني حر طليق وسط هذا البستان الحجري الرخامي، هذا المكان الذي إحتوت أرضه أقدارا، احلاما و قصصا غريبة.
لقد تاه قدر احمد وسط زحام اللامبالاة و ضجيج المدن التي تهضم في أحشائها آمال البدوي الذي عجن من طينة شبعت برحيق الشعر و ارتوت بطقوس و بخور و خرافات ليس لها في المدينة محل.
عجيب كذلك أن تبقى هذه البقعة كما تركتها و كان الزمن عجز على رسم و إضافة محطات جديدة في عمرها.
يخيل إليك أنها خارج البعد الزمني و أنها تنتمي إلى فضاءات لها نظامها و طقوسها ، ربما لهذا السبب لها مسحة جلال و عظمة صوفية تشدك إليها و تحول كل من إنساب وراء سحرها إلى مرابط. جوها طاغ، ثقيل، فيه رائحة معباة بحبات رمل تداعب شفاه خاصمتها الإبتسامة و أهذابا إستسلمت لتنويم مغناطيسي فكأنما هي صرعى. طرقات القرية أخاديد تراكمت على ضفافها أحجار ممزوجة بطين يقال لها منازل او بيوت.
إنسلخت من هذه القرية كما يسلخ الجلد من الشاة. تركتها و رحلت مع أحمد إلى العاصمة. كنا يومها نحلم بحياة أفضل و كان همنا الوحيد ان نتخلص من سرابيل الجهل و الفقر لنتقمص نورانية العلم و التمدن. لذا كانت وجهتنا العاصمة ملتقى الأقدار المبهمة و المغامرات الثقافية. لكن احمد المسكين لم يكن يدري أنه إقتطع تذكرة إلى آخر محطة يكون فيها حتفه، اعدمت أحلامه على مرأى منه.
تساقطت أوراق قصره الخرافي امامه دون ان يحرك ساكنا و ما عساني ان افعل فنهر الاقدار الجارف لا نستطيع مقاومته و الوقوف ضد تياره.
حاز احمد على الشهادة و الوجاهة و اصبح من رواد النوادي الثقافية و الادبية، حيث تناقش هموم الثقافة و الوطن. كان يتكلم بحماس، كلماته تتهاطل من فيه شظايا تطرب الاسماع بعد إحراق وقرها.حاز على القبول في هذه الاوساط المنغلقة على نفسها و تعرف في إحدى هذه المحطات على حتفه.تعرف المسكين على طالبة من معهد الآداب تتعاطى الشعر و السجائر، تسخر من قدسية الحب و تمجد الإباحية و اللاقيود تردد دائما " من حقي أن اعيش من دون قيود و ان أستثمر كل ثانية من عمري أفجر فيها مكبوتاتي و أدشن في ذاتي مواطن جديدة تزهر فيها حاجات من حقي ان أشبعها."
وقع في مخالب التائهة، احب القضية لانه داخل هذه الشخصية الممسوخة و المضطربة تنام فتاة ساحرة، ذكية لها موهبة و قدرة على سحر القلوب و اسرها.
أراد احمد ان ينفض الغبار عن الكائن المنزوي وراء الرفض و العبثية، هكذا كان يقول : " سكينة، يا صديقي، كائن منزوي وراء أفكار مخذرة و يجب إنقاذها من نفسها، زد إلى ذلك انه ليس مهما أن نفهم المرأة، لكن المهم أن نعرف كيف نحبها. حسبي اني ارتاح إلى ضعفها و أشعر انها لا ترفض الحب و لكنها تخشاه."
أراد العاشق ان يقتفي آثارها و ينهج نهجا ليبين لها فوضى الافكار و هشاشة هذه الفلسفة العقيمة. و لكن الوقت لم يسعفه و كان التيار ضده و في صبيحة و بعد سهرة في محطة من المحطات إياها عثر فيه رجال الدرك على جثة احمد.قال الاطباء في تقرير التشريح أن احمد توفي نتيجة سكتة قلبية جاءت على إثر تناول جرعات زائدة من الكحول و المخدرات... اراد ان يلج عالما شيطانيا ليسكب عليه شيئا من الرهبانية ففاضت انفاسه في مكان لعين. مات احمد و مات معه مشروعه، اراد أن يبحث عن قصيدة عجز عن نظمها و كتابتها. سكينة قصيدة قاتلة، حلم حمل احمد إلى حتفه.
نزل خبر موته كالصاعقة على اهل القرية الصرعى. أخرجهم هذا النبا من غيبوباتهم للحظات، ثم عادوا إلى سباتهم، بعد الاربعينية، كثر القيل و القال و الهرج و المرج و سمعت شيخ المسجد يقول في حلقة ذكر:" كل ما حصل لاحمد نتيجة رحيله عن جذوره. المدينة تعبث بالناس مثلما تفعل الريح بالأوراق الشاردة عن الشجرة الام"
ربما كان الشيخ محقا في كلامه و لكن إن من الاشجار ما هو سجن للاوراق التي تبحث عن موطن آخر و أرض أخرى تنغمس فيها لتزيد خصوبتها أو تكون بذرة لشجرة اخرى.
احمد ترك القرية - المقبرة - باحثا عن شعلة حب تأجج بركانه الخامد و لكنه مات، أما انا فلست أدري أللأحياء أنتمي ام للاموات.