حذار أن تمدّ يدك مصافحا، سيتخمك الموقف وتردّها خائبة، منكّسة إلى جيبك، بكلمات مقتضبة ستحيّيك، ونظرة سريعة سترمقك، ولأنك كريه أو بدون رائحة.. ستحتفظ بمسافة تليق بشممها.. تصعير الخد والتعالي جزء منها، وعلّتها مذ تسنّمت مقعدا أرجوانيا، جدك ربما هندس أركانه! ادبرها أنت الآخر، واستعد رزانتك ثم انكأ جرحا قديما.. " يحسن بي تفهّمها، ردود أفعال ليست إلا! " هكذا علّل صفاقتها. تمش على الرصيف الندي، دعها تنقره لتقرر أمرا.. قبالة المدخل الزجاجي تسمّر، وتأمل الحياة في المحطة بتلويناتها.. شاب يطارح حبيبته الغرام، تنهّد ملء ذكرياتك، وزُمّ شفتيك ثم همهم معلقا.. وقبل أن تلوي عنقك لتصيّد خربشة أخرى، ينتصب الجسد أمامك، بالكاد ينعكس.. الاكتناز ذاته، والشموخ نفسه.. يستحيل الانوجاد بدونك يا قذرا في عينها! حافظ على هدوئك والتفت، دعها تُبحر في عينيك، تتفرّس، تبحث عن ألق يؤيدها بروح الجلد والصبر، فلن تجد غير خواء يصلبها، يدعوها لحمل خطاياها وإدانة شطحاتها وحبها الوهمي في الجسد، اتركها تبادر بالكلام.. فلست في ورطة، لم تقطع عهدا أو خالفت وعدا، وقبل أن تنخرط في أي عتاب أو حوار، شقّ صدرك، واعصر قلبك، واستعذ بالعقل من الحب الرجيم!
_ أتحية هذه أم إهانة؟
_ فقط أستفزك أيها المسافر الوحيد.. قالتها في غنج.
_ لم كل هذه الصفات وهذه الانشائية؟
_ هكذا كانت حواراتنا بعيدة عن كل تقريرية!
كانت.. و..
( تقاطعه ) وستبقى، ما دمنا ننشق سوية هواء هذه المدينة، وتلفحنا شمسها المنتشرة ، ويسهّد قمرها جفوننا القريحة.
حقيقة ما عدت أفهم شيئا، أكلما شطبت ذكرى، وسلّمت بالنهاية تصرين على البدء؟
أنا لم أقصد خلقا أو بدءا جديدا.. ما بيننا كائن ومُستأنف. اسمع، أنت بدوني تيه وخراب ، جسد نخرته الديدان حتى العظم.. تأمل تقاطيع وجهك.. وترتيب هندامك، المدخل الزجاجي خلفك إن شككت في حكمي..
( يتجاهل تعليقها ) مثلما ألفيتك أول مرة.. مظهرية حتى النخاع!
( في خبث ..) لا تنكر أنك أُخذت به كالمسحور.. أتذكر عزيزي؟
أجل.. ( يعض على شفته ويزفر.. ) كان بريقا.. صورة آخذة لمحتوى أمقته!
لنتجاوز هذه السلبية، ولننادي ذكرياتنا الجميلة.. " رائع أن نبحث عن وجه جميل لقبح محقق!" هذه حكمتك فلتعشها وتمثلها وحررها من قضبان أوراقك!
...............................
تذكّر حبيبي أجندتي.. ترانيمي.. تربتي التي حقّقت من خلالها الانتماء! واذكر حناني ساعة الهجر والعزلة وصدري الذي ساع كبواتك.. أتقذف كل هاته الأشياء من ماضينا في وحل النسيان.. وهدايا أعياد الميلاد حيث البكاء وصرير الأسنان؟
...............................
أتذكر عزيزي لقاءنا على الشاطئ الصخري.. والنوارس شهود، والبحر هادئ كعينيك الحالمتين.. كنت أرقبك من بعيد، تنتظر سمكة تعلق بالصنارة فعلقت أنا، عروس البحر.. ( تكركر )
...................................
لم لا تجاري حنينيتي واستذكاراتي؟ ماذا عليّ صنعه لمصالحة روحينا .. طمرتُ أنوثتي وتنازلت.. بل تذللت لخاطر حبنا الكبير.. فلم تُقم لي وزنا أو أدنى احترام.. أنسيت من أكون؟ لا تبق متخشبا، ساكنا، قل شيئا.. تكلم! !
استعذ بالعقل من الحب الرجيم، استعذ به واتركها ترفس.. دقيقة جلد وينزاح الهمّ، خير من صفح يغرقك في الغمّ.. البطل قرارات ومواقف، واختيار للصعب حتى الموت.. يا صاحبي، انزح بئر ذكرياتك، واكشف محتوى الصورة الآخذة، المخدرة، الزائفة.. ابق متخشبا، ساكنا، صامتا.. فأقوالنا خطيئة وأفعالنا خبط تثير الغبار بدل التمزيق! لا قدرة لك على المكاشفة والمواجهة؟ قلها ولا تخجل، واترك لي مهمة الفضح والمغامرة.. لا مناص من ذلك ولا فكاك! سأُذكي انفعالك، وأبعث ذكرياتك.. بعد موت، أنشرها، أحييها.. وليكن في الختام قرارك!
عروس البحر كانت هناك.. عارية إلا من الأمواج، ترقص مرسلة الشعر، وتبتسم عن أسنان مرجانية.. فأي قدر ساقك إلى هناك؟ أذيع الخبر، ونشر في الصحف والمجلات، عروس البحر عاقرت ربان السفن، تعرّت، رقصت حتى خبّ اليم، وكشّر عن أمواجه.. فتلفّحت بالشراع، واعتمدت الدّقل، وضاعت كل السفن العرجاء! قرأت الخبر.. شككت.. فأهملت الجريدة.. أأغوتك التجربة أم سلافة الأسنان؟
على الشاطئ الصخري كان اللقاء، وكان المساء وجها حزينا يداعبه الغبش، في البداية تشاءمت، نكّست رأسك ونظرت بأسف إلى قدميك.. فجأة شدّتك النتوءات، استبشرت خيرا، وختمت بما يشبه الهمس: حبنا مؤسس على الصخر! عروس البحر أدمنت الصياد البسيط وقفته القصبية، كبلتها تجاعيده البارزة وأحلامه المُغيبة، ربما كانت تتنفس مجدها من خلاله، أو فقط تعاند كبرياءه، وتلك العملة النادرة التي ماانفك يتبجح بها ساعة كل دردشة، الكرامة والمبادئ! ذات مساء والقمر مكتمل سألها: من أين لك هاذي اللآلئ وهذا الجسد الممتلئ، والضفائر الموصلة بالذهب؟ انتفضت بين ذراعيه، فكّت ساعديه، وبحركة عصبية أبعدته عنها واختفت، علّل نرفزتها دلال أنثى، فاختار التوسل والاعتذار.. ابتاع هدية لكن طمرتها عند الاجتماع.. حاصرها..
_ جئتك متوسلا، قبّلت يديك، ولو كانت لك قدمان لفعلت ذلك، فأنت تربتي التي أحقق من خلالها الانتماء.. فما سبب هذا التمنّع؟
_ أسئلتك المتكررة تنوشني..
_ أليس لي حق في السؤال؟ أنا إنسان أفكر، أبحث، أتواصل، أستفهم!
_ أنت تهمة، جريمة في عرفنا..
_ إذن كيف يكون اتحادنا ونحن بهذا الاختلاف؟
_ التنازل حبيبي مفتاح اجتماعنا!
_ التنازل؟!
إيه.. تبدّلت اللهجة، ونُفيت الهدايا، الأحلام والأماني، ما بقي عهد ولا ثبات في المشاعر دائم، حان وقت الجدّ ولا بد من التنازل، وأي تنازل؟ عروس البحر تقبلك إن رضيت بشرط المبادلة.. دماغك، قفتك القصبية، قوانينك وعاداتك الأرضية، وحتى رجلاك وساعداك.. ففي مملكتك الجديدة، لن تفيدك في شيء.. ستعيش مثلها على الحيتان الصغيرة، ومتى تسمن ويكتنز هزالك، تبحث عن طقوس أخرى توائم جلالك. في البداية ما صدّقت حدسك، وكذّبت ظنونك الملحّة، قلتَ: علمني الصيد ألا أفرح بسمكة تترنح بين الشصّ والنهر، فكيف أسيء الظن بها من غير تبيّن؟ وأقول: هو الحب، غشاوة، بليّة، يُمدنا برغبة في الصفح ونفي هفوات الحبيب من غير تشدد! أخيرا وعلى حين غرّة، قررت المجابهة.. مزقت صفحة الماء الفضية، وغُصت في مستنقع عروس الوهم.. تبيّنت وسبرت الأغوار كما شئت، لم تصدّق ما خبرته حواسك.. عروس البحر كانت هناك، عارية إلا من القبلات، ترقص منحسرة الشعر، وتكركر عن أسنان قانية، وبقايا الحيتان عالقة بالأنياب، فأي جحيم ساقك إلى هناك؟ لماذا وثقت بسحر تينك العينين؟ وكيف تبادلك الوفاء والعرفان، قلوب ليست تعيش الحرمان؟ لا سبيل للإجابة، شحب الوجه، واعتقل اللسان، وخبت شموعك المعدة للزفاف! أمامك الشاطئ الرملي هذه المرة، تمدّد، تقلّب، تمرّغ، واقبر كابوسك، فحبك مؤسس على الرمال!
أنت الآن على رصيف المحطة، أمامك الماضي وانكساراته، البحر، النوارس، البدر، الحيتان الصغيرة، العري وأشياء أخرى.. وخلفك مدخل زجاجي، إن فكّرت الهروب أو التجاهل استظهارا، تستقبلك نفس الخيالات، والظلال المنعكسة، وتانك العينان الشهلاوتان.. عروس البحر قدامك.. ما أقسى حرقة الانتظار! وما أشد لهيب ذاك القرار! أتركبان ذات القطار وترحلان، أم تُبعث فيك نخوة الصياد المجرّب، فتمحو نتانة الذل والعار؟ وطأة الموقف تحتدّ، وجبين البطل يتقطّب، وأنا نظيركم.. مخلف بين رغبة التشوّف، ولذّة الختام..
في النهاية صاحبنا آثر الأفق على سلافة الأسنان، إنه يتقوّى بالسواعد المفتولة، بأهازيج البائعات، وهن يجمعن المُهمل من نعناع وبقدونس، قانعات بحصيلة يوم كامل من النواح.. خُيّل له السحاب موجا، وزرقة السماء بحرا هادئا، ثم تراءى له الرب ماشيا على الماء، فاهتاج صدره وفاضت عيناه.. لحظتاك أعرض بوجهه وسائر جسده عنها، وقبل أن يخنقه الانعكاس، وبضربة محكمة، تهاوى المدخل الزجاجي.. و معه الجسد الممتلئ..
قيّد النزيف والشرم معصمه.. ماجت من حوله الأصوات والأنّات وأزيز الأسرّة البيضاء.. ثم أغمي عليه وابتسامة عنيدة تطل من بين شفتيه.. ابتسامة من أعدم وهمه! !