لم تـكـن تـادلا سـاحرة فـي عـيـنيه كما كانت ذاك الصباح … لقد اخترقها النهر منذ آلاف السنين لكنها ظلت مجرد محطة يرسو على غربتها وهم الصيادين وشرود القوارب الصغيرة .
هـا الـنـهـر اليوم يـجري كعادته ، لـكـنـه عـلـيـل ، مـتـرهل ومنكمش حد الإغماء … الماء لم يعد ماء بعدما اخـتـلـط بالمجاري الراكـضة ومـات الـسـمـك بـيـن عـفـونته … فقط بعض الأماكن البعيدة ما زالت تهب ماء النهر صفاءه وعفوية الانسياب بلا فواصل أو نقط تفتيش .
ففي الأماكن الموجودة بين هضبـتـيـن يـنـسـل هـذا الـمـجـرى الـعـذب الذي أصبح ملجأ هادئا لحياة يتهددها الموت المؤجل في كل اللحظات … هـنـاك ، دأبـت مـاريـة أن تـصطـحـب قـصـبتها لتنسى شحوب العالم وتتذكر شـيئا من طفولة مترفة على ضفاف السين حيث الحلم ينتعش دائما بروايات الفنطازيا التي ظلت ذاكرة الطفلة حريصة على تتبع خطى أبطالها .
وهناك ، أيضا كان حيدر ينبعث من رماد كتاباته لينفلت من غربـة سحيقة لفت خاطره بأزمنة كثيرة وسؤال واحد .
كان اللقاء بين مارية وحيدر مهدا لأسئلة شتى وحيرة واحدة ، وقد لا تطول !
مـرت الـسـنـوات تـلـو الأخرى و … اختفت مارية واختفى النهر ، بعدما جف جزء كبير منه … لكن حيـدر لم ينس أنه التقى امرأة على جنبات هذا المجرى الميت … ولا تخلص من حيرته الطويلة بعد اختفائها المفاجئ .
لربما هي الأخرى ما تزال تحفظ ودها لذلك النهر وذاك الشخص الذي صافحت في إحدى المساءات ، يده !
تورمت قدماه من حرقة الإسفلت … والشمس تمتص رحيق وجهه وهو يتسكع بين الدروب باحثا عن عمل … أو مجرد سخرة ! كـأي شـاعر كان يود لـو يحتضنه الوطن نشيدا لغربة المداشر ، وحقول القمح التي توارت خلف جوعنا … ظل ينتظر سخاء بلده ، تـارة يحـلم وتـارة يراوغ الواقع المر والشمس الأمر … وفي الزوايا المعتمة يرى الناس كالكلاب المسعورة تجري خلف طرائدها وبنهم شديد تتربص للجيفة المرماة على حد مزابلنا وقنوات مراحضنا المكشوفة …
الزمن لم يعد زمنك يا حيدر !
زمـن الـصـبـيـة والـشـعـارات الـتـي تـمـلأ الـحـناجـر كالصلوات الخمس و … زمن القلوب الفارغة من الدم المراق على حد الزيف والسيف .
… في صباح شتوي احتمى بدفء معطفه الأسـود وبخطى متثاقلة سار في اتجاه أول حافلة تقله بعيدا عن عقال الحب … لقد قرر أن يسافر … حمل أشعاره المخطوطة وألبوم صوره وحنينا لا ينقطع لمساءات النهر … والقصائد الأولى !