حديث مع رَبّة الشفاء
لقد تمرأيتُ هنا في ظِليَ المديدْ
رأيتُني أُقَرِّبُ البعيدْ
أجمعُ أشتاتي
ما كان حَولي أحَدٌ
وقبلَ أنْ ينفتِحَ العالمُ لي ثانيةً
طويتُ مِرآتي !
--------------
في الصباح جرت الأمور كما هو مألوف , عاملة التنظيف أتمَّت عملها اليومي بتنظيف أرضية القسم والممرات ومسح الزجاج , والممرضات والممرضون انتهوا من تهيئة الأدوية اليومية والعلاجات وأيقظت إحدى الممرضات النزلاءَ بتحية الصباح فذهبوا الى الحمامات والمغاسل وبعدها خرجوا لتناول أدويتهم ثم تسربوا إما الى قاعة التدخين او الى برامج التأهيل والتي هي عبارة عن تمارين رياضية تسبق محاضرات طبية مبتسرة تتخللها أسئلة وأجوبة وهي تكون عادة غير ملزمة وتأتي بعد الفطور , وجاء موعد الفطور !
عند الفطور لمحتُ شيئاً بينما انا جالس قبالة عدد من النزلاء , قلقتُ غير أن النزيل الجالس أمامي حسمَ جزءاً من الموقف فهو أعاد الشوكة الصغيرة الى صحنه وألقى علي تحية الصباح مرة أخرى هو يبتسم ويتمتم بعبارات ودية !
هذا الرجل أعرفه بشكل جيد فهو الماني وقد سبق لي وأن جاذبته حديثاً مُعيناً عن سياسة بلده الخارجية وشؤون العالم , ثم اعتذرَ فقال :
إسمح لي بالقول كانت ملامحك دائماً محايدة بالنسبة لي , كانت ملامحك بلا ملامح ! ولكنك الآن شيء آخر , ماذا فعلتَ بنفسك ؟ قال هذا وتعابير دهشة محبَّبة راحت تتقافز على ملامحه ! فشاركَهُ الرأيَ زميلُُُُهُ الجالس الى جانبه وهو يفتح عينيه على اتساع صبره الذي أعرفه فهو كان محط تعليقات ومخابثات البعض له لأنه يشبه غجرياً يتمسك بأنواع محددة من الملابس , وبعباراته دائمة التفاؤل وكذلك مخارج صوته الأغن المتقطع الذي يحاكي مزماراً مجهولاً ! , قال لي : الغالب عليك هو الأصفر , وهذا اللون يرجعني الى سنابل كانت تقطرُ صفرةً , كانت تُوشّي مراعيَ طفولتي ! وصاحت الثالثة بعجب وهي تضع على الطاولة كوب شايها وتصوّب إصبعها نحوي : ياإلهي ! تشبه بعضَ الإحالات في التشكيل الحديث !
وهذه المرأةُ , وهي من أب الماني وأم ذات أصول يونانية , أعرفُ مماحكاتها اللاذعة فهي قالت لي يوماً : زوجي الأول كان متخصصاً بالدراسات الشرقية ومنه تعرفتُ على ثقافتكم بشكلٍ أفضل وسؤالي لك هو التالي : في عقيدتكم وعدَ الله المؤمنين بعد الموت بحوريات فائقات الجمال ولكن بماذا وعدَ المؤمنات ؟!!
لا أتذكر تماماً كيف أجبتُها ولكني الآن في غنىً عن هذا الأمر , تذكرتُ حديث الربة معي إذْ قالت لي في إحدى النوبات الأخيرة : ظهرتُ لك وأحب أن أظهر لغيرك ولكن ليس قبل أن تتمَّ انت ...
فخفتُ وقتها بعض الشيء ...
هل من الممكن ؟ والآن ؟ ومن خلالي ؟ ولماذا لم أحس انا بذلك ؟ تركتُ كل شيء وهرعتُ بارتباك الى غرفتي , حيث المرآة , بعد أن تبسمتْ لي في الممر ممرضتان والقتا التحية عليَّ مرة أخرى وبسعادة !
أيتها السعادةُ ,
أيتها الغيمةُ المُسترسلةُ بوَعْدِ الِقِطافِ
فاغِرَ اليَدين أنتَظرُ إنهمارَكِ !
باغِتيني أيتها السعادةُ
إهزِميني في عُقْرِ داري !
----------------
أمام المرآة لم الحظ شيئاً غير مألوف ولكني تذكرتُ أني طيلة النصف الثاني من الليلة الماضية كنت أتنقل بين صحو وإغفاء وكنت سمعتُ في أعماقي أغانيَ أثيرة من ماضٍ بعيدٍ بأصواتها وكلماتها حرفياً مع أني في النهار او الصحو لا أستطيع مَهما حاولتُ سوى تذكُّر بعض كلماتها .........
كل الذي أعرفه هو أنني أحبذ أن لا أكون موضع اهتمام من قبل الناس بهذا الشكل فكما عشتُ مُهمَلاً او ظلاً شاحباً او رقماً في عيون الآخرين أودُّ أن أبقى هكذا أمّا عالمي الداخلي فهو لي وحدي ,
أيتها الربة ذات السناء الباذخ , ماذا فعلتِ بي ؟ ولماذا ؟
خرجتُ الى الممر مرة ثانية للتيقن هل انا ما زلتُ هكذا , نعم فها انا أشاهد جاري كبير السن تقريباً وقصير النظر ينقر على كتفي برفقٍ ويهمس قريباً من أذني مبتسماً وهو يقول : حاذرْ أيها الشاب أنك لتبدو كشجرة مرتعشة ببروق صفرء !
إذن فهو يراني , يلمحني ( كشجرة ) .
قلتُ له عند الباب مفتعلاً اللامبالاة : شكراً , في وقتٍ ما شاهدتُ فلماً عن أشجارٍ تتحول الى بَشَرٍ , كان الفلم مشوِّقاً , أراكَ فيما بعد ...
قررتُ عدم الخروج من الغرفة حتى أرى جلية الأمر .
كنت أيام صباي أُساعد أبي بغرس الفسائل وشتلات الخوخ والكمثرة والليمون وأنواعٍ عديدة من الفاكهة في حديقة بيتنا وأتسلق أشجار التوت والنبق وألعب في الشوارع بالكرة البلاستك وغيرها مع أقراني وفي الأزقة وحدائق المدينة وطرفها البري الذي كنا نطلق عليه الهيماء وفجأة أتركهم دون سابق إنذار مسرعاً الى البيت لآوي الى حجرتي العلوية فتكون ساعاتي رحلة بين هذه الحجرة وسطحنا المجاور وفوقي عصافير ثَملى كثيرة كأنها دقائق الهواء , يا للفرح !
كنتُ أكتب وأحفظ متخيلاً أني سألقي ذلك على جمهور عريض ! وحين يسجو المساء وتخلو الشوارع من الناس أخرج متسللاً الى أماكن اللهو وأعيد تلاوةَ ما نقشتُ في أجندة الروح نبضةً نبضةً ...
هكذا كانت البداية بكل براءتها ولكن مع تقدم السنوات أدركتُ أن لا أحد يُهمهُ ما يخامر قلبي فأصبحت كمَنْ يأسف على تبديد هذا النبض فيذهب لجمعه من الدروب والحدائق والبراري ليعيده من حيث أتى ...
أمضيتُ وقتي الى الظهيرة مفتشاً منقباً راجياً , أسير من الباب المغلق حتى الجدار المقابل وأعود الى أن تملَّكني الكثيرُ من الإعياء ,
سحبتُ كرسياً فجلست أمام النافذة بعد أن فتحتُها , وبسرعةِ سقوطِ ثمارٍ على العشب تلاحقت في وجداني أمواجٌ باردة منعشة فوقفتُ ...
كانت الربة على ميسرة غابة السدر الى الأعلى تشير بإحدى يديها اليّ وبالثانية الى اليمين , الى فسحة معشبة واسعة مُسوَّرة وسط الغابة المحاذية فهذه طلائع الخريف حيث أوراق الأشجار ما زال نصفها أخضر والآخر أصفر وهي تُشجِّع بعضها البعض على التساقط ومعانقة السواقي والتراب , آهِ هذه الأوراق الصفراء التي تهوي من أكف الأشجار , هذه هي الذهب الحقيقي , ذهبُ الأرض المتناثر فوقها فعَن أي ذهبٍ ينقِّبون تحتها ؟
تصورتُ أني حملتُ في يدي عدة سبائك ندية منها , شممتُها , إنها تحاكي من بعيدٍ قشورَ الليمون .
تذكرتُ شاباً عرفتُ لاحقاً أنه بولوني , لَمّا رآني قد عثرتُ فالتَوَتْ ساقي في أحد الأزقة المعتمة وتألمتُ فجلستُ على الرصيف وبعد أن حاول مساعدتي , أتذكر أنه قال إنتظرْ , عندي لك شيءٌ , ففتح حقيبته الصغيرة ثم أضاف : لا بأس بقدح فودكا مع الليمون !
والآن من خلل النافذة أطيل النظر فتتخلَّل روحي مشاعر مختلطة : سكينة ففرحٌ فلهفة , شعرتُ بشيء ما , شيءٍ مُحيِّرٍ يتناهى , كما لو أنَّ الربة تدعوني الى التهيؤ لإلقاء كلمةٍ , صحتُ وانا في أوج حيرتي : ما خلا الحديث معك فكل ما يجري على لساني يظلُّ همهماتٍ رغم كل شيء ...
إنكَ لكي تُعبِّرَ من خلال لغةٍ ما عن مكنونات روحك وعقلك بشكلٍ مُرضٍ , لا يكفي أن تتكلَّم هذه اللغة وإنما عليك أن تتمثَّلها أولاً , أن تَكُونَها أولاً ,
ومن جهتي فانا توشك لغتي الأم منذ عشرين عاماً ويزيد أن تصبح تأمُّلاً وهذياناتٍ من جانبٍ وصفحاتٍ وأدراجاً ملأى بالورق من جانبٍ آخر , أما لغة هذه البلاد فهي كما يبدو ليست كالعربية فقد جعلتْها الفلسفةُ وكأنها وُجِدتْ لتُقرَأ !
لا , لا أراهن !
قالت الربة متهللة وهي تُشتِّتُ ضوء الظهيرة وتستبدله بضوئها المبهر :
كلا , لم أطلب منك أن تتكلم مع الناس كما هو مألوف , إنك كنت دائماً تلقي بكلمات على مسرح الدنيا , وما سكنتَ في أرضٍ إلاّ وتعلمتَ منها مثلما تعلم أهلُها منك بشكلٍ او بآخر , ولكني أردت القول إنك ترى تلك الشجرة العالية الوارفة , شجرة النبق , اليس صحيحاً ؟ هناك ستكون تحتها عند المساء وتصغي اليَّ واليهم وسأَفهمهم وأُفهمهم .
فسألتُ وقد عاودتني حيرتي من جديد : وما هذا الذي يلحظه عليَّ النزلاءُ اليوم فقد تسبب لي بالحرج والخوف ؟
قالتْ بثقة ومرح : ها انت قد حزرتَ , إنه بعض من نبضك بعد أن أتممتُ عليك مواسم الشفاء , قلتُ لك وانت تناجيني في المرة الأولى : انا لا أريد لك الشفاء العاجل وإنما الحرف القاتل , الحرف الذي تقول به أنك وضعتَ الجبار المناسب في القمقم المناسب ...
وها قد نطقَ اليوم وبحكمة !
بكيتُ كثيراً , كثيراً بكيتُ ...
سألتُ : واين هو من الحكمة أيتها الربة الحكيمة ؟
فلو كنتُ حكيماً لما احتجتُ للمجيء الى هنا ولَما فقرتُ ...
فما نفع قلب كبير وذهنٍ أتعبتْه عواصفُ الأسئلةُ فهو أشبه بكوزٍ تُغلِّفهُ الصدُوع ؟ ...
وبعد كل هذا كيف أخرج في المساء وانا غير مسموح لي بمغادرة البناية إلاّ صباحاً وبعد ترخيص طبي .
وأخيراً كيف أبرر للنزلاء ما رأوه عليّ ؟
تبسمتْ قائلة : عن المعضلة في سؤالك الأخير .... حِلَّها بنفسك !
قلتُ : شاهدتُ في إحدى المرات موقفاً لطيفاً شديد التأثير في جانبه الإنساني إذْ كان هناك طفلٌ أسود البشرة رآه من على مسافةٍ طفلٌ آخر أبيض البشرة فسار نحوه وتوقف على بعد ثلاثة أمتار منه وهو ينظر اليه بدهشة طفولية وبعد دقائق حسمَ الطفل الأبيضُ الأمرَ فركض نحو الطفل الأسود حتى توقف أمامه ثم مرَّرَ سَبّابته على خد الطفل الأسود وسحبها اليه وراح ينظر اليها فلمْ يرَ أيَّ أثرٍ للونٍ أسود على إصبعه !!
وعليه فقد أقول لهم : انا ابن الطبيعة وقد مرَّ بي سريعاً رَكْبُ الفصول فأعجبني لونُ الخريف !
وأضفتُ : لي مع الألوان صِلاتٌ ومِمّا كتبتُ :
ناظرٌ مِن كوّةٍ كالعين زرقاءَ هنا
ما التَقَتْ سفينةُ الشعرِ فَناراً
إنّما باتَ على الشاعرِ
أنْ يكتبَ في القاعِ
على هَدْيِ الدُّرَرْ .
ناظرٌ مِن كوّةٍ كالعين خضراءَ هنا
عطرٌ تدلّى
أَجْمَعَ البستانُ والبَرُّ
أَنِ العاشقُ موعودٌ وإِلاّ ……
سبقَ السيفُ ابنَ آوى
وتَخطّاكَ الأَثَرْ !
----------------
قالت الربة بصوت دافيء شفيف: عمّا قريب سيحل المساء وسأقف على ذلك المترفَع في آخر الغابة فتصطفق الأوراقُ نواقيس منغمةً بألحان كونية والثمارُ تتخايلُ مصابيح عابقةَ الضوء تخطف الأبصار والقلوب وتلك بعض نَعماء فرحي .
فمثلك يُشفى ليس من علةٍ وإنما من علاج !
ستتوجه انت نحوي وسترى النوافذ تُشرَعُ هنا وهناك فتطلُّ منها مُهَجٌ تائقة والأبوابَ تُفتح والناسَ بحماس وفرحٍ يُقبلون .
بقيَ أن أصغي هنا لبعض الناس وأمنحهم قبساً ما ثم أقفل عائدة قبل أن تقلقَ لتأخُّري الغيوم ويستبدَّ الحزنُ بالنجوم !
قلتُ لها وقد اضطربتُ : غزا أوقاتي البردُ أيتها الربة , وانت مَن زَرَّرَ رداءها , يا لَدفء صوتك او يا لَصوت دفئك !
ثم رددتُ على مسمعها :
نُوميءُ للحيِّ مساءاً بظِلالناِ
حيثُ التلة البعيدةُ
تُوَدِّعُ الشمسَ بِبَسمة نجلاء ,
برَمشةِ غابةٍ هدباء
وحيث كلُّ عصفور عُشُّ فرحٍ
يأوي الى عُشِّهِ
وحيثُ الخُطى على السلالم
تسيحُ صاعِدةً نازلة !
-----------------------------------------------------
(*) نصٌّ من كتاب يجمع بين القصِّ والنثر الأدبي والشعر يحمل عنوان : حديث مع
ربة الشفاء .
(**) النص القادم وهو الأخير سيكون كلمةً للربة وتتم بعدها أحاديث بينها وبين عدد من نزلاء المستشفى وسواهم .
كولونيا - 2008
هذا الرجل أعرفه بشكل جيد فهو الماني وقد سبق لي وأن جاذبته حديثاً مُعيناً عن سياسة بلده الخارجية وشؤون العالم , ثم اعتذرَ فقال :
إسمح لي بالقول كانت ملامحك دائماً محايدة بالنسبة لي , كانت ملامحك بلا ملامح ! ولكنك الآن شيء آخر , ماذا فعلتَ بنفسك ؟ قال هذا وتعابير دهشة محبَّبة راحت تتقافز على ملامحه ! فشاركَهُ الرأيَ زميلُُُُهُ الجالس الى جانبه وهو يفتح عينيه على اتساع صبره الذي أعرفه فهو كان محط تعليقات ومخابثات البعض له لأنه يشبه غجرياً يتمسك بأنواع محددة من الملابس , وبعباراته دائمة التفاؤل وكذلك مخارج صوته الأغن المتقطع الذي يحاكي مزماراً مجهولاً ! , قال لي : الغالب عليك هو الأصفر , وهذا اللون يرجعني الى سنابل كانت تقطرُ صفرةً , كانت تُوشّي مراعيَ طفولتي ! وصاحت الثالثة بعجب وهي تضع على الطاولة كوب شايها وتصوّب إصبعها نحوي : ياإلهي ! تشبه بعضَ الإحالات في التشكيل الحديث !
وهذه المرأةُ , وهي من أب الماني وأم ذات أصول يونانية , أعرفُ مماحكاتها اللاذعة فهي قالت لي يوماً : زوجي الأول كان متخصصاً بالدراسات الشرقية ومنه تعرفتُ على ثقافتكم بشكلٍ أفضل وسؤالي لك هو التالي : في عقيدتكم وعدَ الله المؤمنين بعد الموت بحوريات فائقات الجمال ولكن بماذا وعدَ المؤمنات ؟!!
لا أتذكر تماماً كيف أجبتُها ولكني الآن في غنىً عن هذا الأمر , تذكرتُ حديث الربة معي إذْ قالت لي في إحدى النوبات الأخيرة : ظهرتُ لك وأحب أن أظهر لغيرك ولكن ليس قبل أن تتمَّ انت ...
فخفتُ وقتها بعض الشيء ...
هل من الممكن ؟ والآن ؟ ومن خلالي ؟ ولماذا لم أحس انا بذلك ؟ تركتُ كل شيء وهرعتُ بارتباك الى غرفتي , حيث المرآة , بعد أن تبسمتْ لي في الممر ممرضتان والقتا التحية عليَّ مرة أخرى وبسعادة !
أيتها السعادةُ ,
أيتها الغيمةُ المُسترسلةُ بوَعْدِ الِقِطافِ
فاغِرَ اليَدين أنتَظرُ إنهمارَكِ !
باغِتيني أيتها السعادةُ
إهزِميني في عُقْرِ داري !
----------------
أمام المرآة لم الحظ شيئاً غير مألوف ولكني تذكرتُ أني طيلة النصف الثاني من الليلة الماضية كنت أتنقل بين صحو وإغفاء وكنت سمعتُ في أعماقي أغانيَ أثيرة من ماضٍ بعيدٍ بأصواتها وكلماتها حرفياً مع أني في النهار او الصحو لا أستطيع مَهما حاولتُ سوى تذكُّر بعض كلماتها .........
كل الذي أعرفه هو أنني أحبذ أن لا أكون موضع اهتمام من قبل الناس بهذا الشكل فكما عشتُ مُهمَلاً او ظلاً شاحباً او رقماً في عيون الآخرين أودُّ أن أبقى هكذا أمّا عالمي الداخلي فهو لي وحدي ,
أيتها الربة ذات السناء الباذخ , ماذا فعلتِ بي ؟ ولماذا ؟
خرجتُ الى الممر مرة ثانية للتيقن هل انا ما زلتُ هكذا , نعم فها انا أشاهد جاري كبير السن تقريباً وقصير النظر ينقر على كتفي برفقٍ ويهمس قريباً من أذني مبتسماً وهو يقول : حاذرْ أيها الشاب أنك لتبدو كشجرة مرتعشة ببروق صفرء !
إذن فهو يراني , يلمحني ( كشجرة ) .
قلتُ له عند الباب مفتعلاً اللامبالاة : شكراً , في وقتٍ ما شاهدتُ فلماً عن أشجارٍ تتحول الى بَشَرٍ , كان الفلم مشوِّقاً , أراكَ فيما بعد ...
قررتُ عدم الخروج من الغرفة حتى أرى جلية الأمر .
كنت أيام صباي أُساعد أبي بغرس الفسائل وشتلات الخوخ والكمثرة والليمون وأنواعٍ عديدة من الفاكهة في حديقة بيتنا وأتسلق أشجار التوت والنبق وألعب في الشوارع بالكرة البلاستك وغيرها مع أقراني وفي الأزقة وحدائق المدينة وطرفها البري الذي كنا نطلق عليه الهيماء وفجأة أتركهم دون سابق إنذار مسرعاً الى البيت لآوي الى حجرتي العلوية فتكون ساعاتي رحلة بين هذه الحجرة وسطحنا المجاور وفوقي عصافير ثَملى كثيرة كأنها دقائق الهواء , يا للفرح !
كنتُ أكتب وأحفظ متخيلاً أني سألقي ذلك على جمهور عريض ! وحين يسجو المساء وتخلو الشوارع من الناس أخرج متسللاً الى أماكن اللهو وأعيد تلاوةَ ما نقشتُ في أجندة الروح نبضةً نبضةً ...
هكذا كانت البداية بكل براءتها ولكن مع تقدم السنوات أدركتُ أن لا أحد يُهمهُ ما يخامر قلبي فأصبحت كمَنْ يأسف على تبديد هذا النبض فيذهب لجمعه من الدروب والحدائق والبراري ليعيده من حيث أتى ...
أمضيتُ وقتي الى الظهيرة مفتشاً منقباً راجياً , أسير من الباب المغلق حتى الجدار المقابل وأعود الى أن تملَّكني الكثيرُ من الإعياء ,
سحبتُ كرسياً فجلست أمام النافذة بعد أن فتحتُها , وبسرعةِ سقوطِ ثمارٍ على العشب تلاحقت في وجداني أمواجٌ باردة منعشة فوقفتُ ...
كانت الربة على ميسرة غابة السدر الى الأعلى تشير بإحدى يديها اليّ وبالثانية الى اليمين , الى فسحة معشبة واسعة مُسوَّرة وسط الغابة المحاذية فهذه طلائع الخريف حيث أوراق الأشجار ما زال نصفها أخضر والآخر أصفر وهي تُشجِّع بعضها البعض على التساقط ومعانقة السواقي والتراب , آهِ هذه الأوراق الصفراء التي تهوي من أكف الأشجار , هذه هي الذهب الحقيقي , ذهبُ الأرض المتناثر فوقها فعَن أي ذهبٍ ينقِّبون تحتها ؟
تصورتُ أني حملتُ في يدي عدة سبائك ندية منها , شممتُها , إنها تحاكي من بعيدٍ قشورَ الليمون .
تذكرتُ شاباً عرفتُ لاحقاً أنه بولوني , لَمّا رآني قد عثرتُ فالتَوَتْ ساقي في أحد الأزقة المعتمة وتألمتُ فجلستُ على الرصيف وبعد أن حاول مساعدتي , أتذكر أنه قال إنتظرْ , عندي لك شيءٌ , ففتح حقيبته الصغيرة ثم أضاف : لا بأس بقدح فودكا مع الليمون !
والآن من خلل النافذة أطيل النظر فتتخلَّل روحي مشاعر مختلطة : سكينة ففرحٌ فلهفة , شعرتُ بشيء ما , شيءٍ مُحيِّرٍ يتناهى , كما لو أنَّ الربة تدعوني الى التهيؤ لإلقاء كلمةٍ , صحتُ وانا في أوج حيرتي : ما خلا الحديث معك فكل ما يجري على لساني يظلُّ همهماتٍ رغم كل شيء ...
إنكَ لكي تُعبِّرَ من خلال لغةٍ ما عن مكنونات روحك وعقلك بشكلٍ مُرضٍ , لا يكفي أن تتكلَّم هذه اللغة وإنما عليك أن تتمثَّلها أولاً , أن تَكُونَها أولاً ,
ومن جهتي فانا توشك لغتي الأم منذ عشرين عاماً ويزيد أن تصبح تأمُّلاً وهذياناتٍ من جانبٍ وصفحاتٍ وأدراجاً ملأى بالورق من جانبٍ آخر , أما لغة هذه البلاد فهي كما يبدو ليست كالعربية فقد جعلتْها الفلسفةُ وكأنها وُجِدتْ لتُقرَأ !
لا , لا أراهن !
قالت الربة متهللة وهي تُشتِّتُ ضوء الظهيرة وتستبدله بضوئها المبهر :
كلا , لم أطلب منك أن تتكلم مع الناس كما هو مألوف , إنك كنت دائماً تلقي بكلمات على مسرح الدنيا , وما سكنتَ في أرضٍ إلاّ وتعلمتَ منها مثلما تعلم أهلُها منك بشكلٍ او بآخر , ولكني أردت القول إنك ترى تلك الشجرة العالية الوارفة , شجرة النبق , اليس صحيحاً ؟ هناك ستكون تحتها عند المساء وتصغي اليَّ واليهم وسأَفهمهم وأُفهمهم .
فسألتُ وقد عاودتني حيرتي من جديد : وما هذا الذي يلحظه عليَّ النزلاءُ اليوم فقد تسبب لي بالحرج والخوف ؟
قالتْ بثقة ومرح : ها انت قد حزرتَ , إنه بعض من نبضك بعد أن أتممتُ عليك مواسم الشفاء , قلتُ لك وانت تناجيني في المرة الأولى : انا لا أريد لك الشفاء العاجل وإنما الحرف القاتل , الحرف الذي تقول به أنك وضعتَ الجبار المناسب في القمقم المناسب ...
وها قد نطقَ اليوم وبحكمة !
بكيتُ كثيراً , كثيراً بكيتُ ...
سألتُ : واين هو من الحكمة أيتها الربة الحكيمة ؟
فلو كنتُ حكيماً لما احتجتُ للمجيء الى هنا ولَما فقرتُ ...
فما نفع قلب كبير وذهنٍ أتعبتْه عواصفُ الأسئلةُ فهو أشبه بكوزٍ تُغلِّفهُ الصدُوع ؟ ...
وبعد كل هذا كيف أخرج في المساء وانا غير مسموح لي بمغادرة البناية إلاّ صباحاً وبعد ترخيص طبي .
وأخيراً كيف أبرر للنزلاء ما رأوه عليّ ؟
تبسمتْ قائلة : عن المعضلة في سؤالك الأخير .... حِلَّها بنفسك !
قلتُ : شاهدتُ في إحدى المرات موقفاً لطيفاً شديد التأثير في جانبه الإنساني إذْ كان هناك طفلٌ أسود البشرة رآه من على مسافةٍ طفلٌ آخر أبيض البشرة فسار نحوه وتوقف على بعد ثلاثة أمتار منه وهو ينظر اليه بدهشة طفولية وبعد دقائق حسمَ الطفل الأبيضُ الأمرَ فركض نحو الطفل الأسود حتى توقف أمامه ثم مرَّرَ سَبّابته على خد الطفل الأسود وسحبها اليه وراح ينظر اليها فلمْ يرَ أيَّ أثرٍ للونٍ أسود على إصبعه !!
وعليه فقد أقول لهم : انا ابن الطبيعة وقد مرَّ بي سريعاً رَكْبُ الفصول فأعجبني لونُ الخريف !
وأضفتُ : لي مع الألوان صِلاتٌ ومِمّا كتبتُ :
ناظرٌ مِن كوّةٍ كالعين زرقاءَ هنا
ما التَقَتْ سفينةُ الشعرِ فَناراً
إنّما باتَ على الشاعرِ
أنْ يكتبَ في القاعِ
على هَدْيِ الدُّرَرْ .
ناظرٌ مِن كوّةٍ كالعين خضراءَ هنا
عطرٌ تدلّى
أَجْمَعَ البستانُ والبَرُّ
أَنِ العاشقُ موعودٌ وإِلاّ ……
سبقَ السيفُ ابنَ آوى
وتَخطّاكَ الأَثَرْ !
----------------
قالت الربة بصوت دافيء شفيف: عمّا قريب سيحل المساء وسأقف على ذلك المترفَع في آخر الغابة فتصطفق الأوراقُ نواقيس منغمةً بألحان كونية والثمارُ تتخايلُ مصابيح عابقةَ الضوء تخطف الأبصار والقلوب وتلك بعض نَعماء فرحي .
فمثلك يُشفى ليس من علةٍ وإنما من علاج !
ستتوجه انت نحوي وسترى النوافذ تُشرَعُ هنا وهناك فتطلُّ منها مُهَجٌ تائقة والأبوابَ تُفتح والناسَ بحماس وفرحٍ يُقبلون .
بقيَ أن أصغي هنا لبعض الناس وأمنحهم قبساً ما ثم أقفل عائدة قبل أن تقلقَ لتأخُّري الغيوم ويستبدَّ الحزنُ بالنجوم !
قلتُ لها وقد اضطربتُ : غزا أوقاتي البردُ أيتها الربة , وانت مَن زَرَّرَ رداءها , يا لَدفء صوتك او يا لَصوت دفئك !
ثم رددتُ على مسمعها :
نُوميءُ للحيِّ مساءاً بظِلالناِ
حيثُ التلة البعيدةُ
تُوَدِّعُ الشمسَ بِبَسمة نجلاء ,
برَمشةِ غابةٍ هدباء
وحيث كلُّ عصفور عُشُّ فرحٍ
يأوي الى عُشِّهِ
وحيثُ الخُطى على السلالم
تسيحُ صاعِدةً نازلة !
-----------------------------------------------------
(*) نصٌّ من كتاب يجمع بين القصِّ والنثر الأدبي والشعر يحمل عنوان : حديث مع
ربة الشفاء .
(**) النص القادم وهو الأخير سيكون كلمةً للربة وتتم بعدها أحاديث بينها وبين عدد من نزلاء المستشفى وسواهم .
كولونيا - 2008