العم نهيان رجل اكتسب كثيرا من صفات الهيبة والرفعة، لما تعرض له من الأحداث الكثيرة فى حياته، والتي جعلت خبرته لا تقارن بكثير ممن يحملون شهادات عليا، ومتمرسي السياسة، وأصبحت له معرفة بالناس والمجتمع...
فالعم نهيان واكب عن قرب وجوها متعددة ممن حكموا البلدة، وكذلك ربطته علاقات متينة مع من قبضوا على مفاتيح الثروة والمال، وحكموا البلدة أيضا من وراء الكواليس..!! وها هو اليوم يجد نفسه حكما بين فرقاء اختلفوا فتعاركوا وتنازعوا فيما بينهم، فكادت أن تذهب ريحهم سدى، وذلك على قطعة أرض أصغر من "الغترة" (الغترة عبارة عن قطعة قماش حجم الكف)، على الرغم من تواجدهم فى بقعة جغرافية لا تكاد ترى على الخريطة الكونية المدرسية، تكثر فيها الأفواه التى لاتحتاج لخصام أو خطابات إنما تحتاج للدقيق..!! ويكثر فيها الفقراء أيضا..!!
فشياطين الجن تلبسوا فى كثير منهم، فخرج مزيج من عينات لاهي إنس ولاهي جان، شيطانية القلب والعقل..!! حتى أن البحر الذى هو أحد حدودها من المفترض أن يكون فيه الخير الوفير، أضحى مقفهرا كصحراء خالية، إلا من طحالب مائية، تخرج بين الحين والآخر على الشاطىء، فقد هجرته الأسماك والبحريات بأنواعها، ولوثت مياهه أنهارا آسنة من مخلفات بنى البشر، ومع هذا كله فقد تناحر وتجادل وتقاتل الأشقاء؟؟!!.
وجد العم نهيان نفسه حكما وقاضيا فى خضم هذا التناقض العجيب والمستهجن... وبينما هو مع الفرقاء يستمع إلى حواراتهم، وجدلهم، ونمقهم للكلام بكل ما فيه من زخرفات، وفواصل ونقاط، وعلامات تعجب واستفهام، دخل عليهم رجل شاحب الوجه زائغ العينين، وقد حمل هموم الأرض كلها فى ورقتين أخرجهما من جيبه. فطلب منه العم نهيان أن يسلمه إياهما، ففعل الرجل ويكاد صوته يخرج من حنجرته التى أرهقها النواح والبكاء، وقال: هاكم أولادى الإثنان، كما أسفرت عنه ساحات المواجهة المفتوحة بين الأشقاء الأعداء، فهولاء يدعون أنهم يقاتلون الكفار والإنقلابيين، وأولئك يدعون أنهم أنما يحرروننا من الظلاميين، وبين أولئك وهؤلاء يسقط الأحباب والأبناء..!! وقد حرضتهم على ذلك شهرزاد التي أقبلت في ملابس "الكاوبوى" حيث استقبلها شهريار رغبة في تواصل الحوار، فتمنعت في صورتها البهية، وتنطعت كالرباعية الدولية، فأغراها بخارطة الطريق، وحلفها بالبيت العتيق أن تفرج همه من بعد أن يشنق ابن عمه، فما كان منها إلا أن تمايلت ولانت، فقفز سرورا في الهواء، وجلس لها القرفصاء، ثم همست له همس هيفاء: بلغني أيها الرجل السعيد ذو الرأي الرشيد أنه كان في سالف العصر والأوان شعب من نسل كنعان، عاش قرنا أو يزيد من الزمان يحلم ويناضل، وينزف دما لكي يعود من غربته إلى السنابل، ولكنه للأسف تمزق بفعل فاعل ودارت بينهم حرب ضروس، بعد أن بلغ التعصب والحقد مابلغ في النفوس، واشتبك أهل العريس مع أهل العروس، إلى درجة ترصد الإبن لذبح أبيه ، وتمنى الأخ شنق أخيه، وأرتفعت في السماء راية العائلات، وزاد الفلتان، وشحت المؤونات، وأصبح الواحد منهم لايعرف متى تدركه المنون، ولايعرف سببا معقولا لتعارك الأخوان، ولماذا يستبيح كل منهم دماء الشيوخ والصبيان..؟!!
فتعجب الجمع من كلام الرجل وتقدم الفريقان، وأمعنا النظر في الورقتين ولاذا بصمت غريب، وحياء رهيب، وتصبب العرق من كلاهما، وتراجعا كل فى مكانه بهدوء، فتقدم العم نهيان فتبين له حقيقة الموقف الجلل، بعد أن تفحص الورقة الأولى وشعارها "كتائب الأقصى" والثانية وشعارها "كتائب القسام"، فنظر إلى الأب فرد عليه المفجوع بهز رأسه، ودموعه قد تساقطت قطرات ملتهبة على الأرض، وبدأ بالانصراف حاملا فلذات كبده، فى أوراق وفاة بيده وهو يتمتم بكلمات...
وقبل أن يغادر باب القاعة التفت للجمع بنظرة واحدة فيها ملخص لكل المآساة التى بأيديهم يصنعون.... ثم انصرف جارا قدميه بتثاقل شديد ورأسه متجها نحو السماء ويداه مرفوعتان... أما المجتمعين لم ينتظروا العم نهيان كي يعقب أو يتكلم، فقد أجهش الجمع فى بكاء بل نحيب.. سمعت أصواته من خارج القاعة، وما هى إلا لحظات حتى تعانق أصحاب الأرض الواحدة، والدم الواحد، والمصير الواحد، والهدف الواحد، والدين الواحد، ونظرا إلى العم نهيان فلم يجدوه، فقد اختفى، وشوهد خارج القاعة مبتسما وعيناه شاخصتان إلى السماء يناجى ربه متضرعا، شاكرا، حامدا له قائلا... الآن بدئوا طريقهم الطويلة والشاقة، إنها طريق السلامة والنجاة والخلاص، وتحرير الأرض والقدس والمقدسات كلها، طريق البناء والأمل والكرامة، طريق التقدم والإزدهار والرخاء....
وفى الطريق الوحيدة أمام القاعة التى سيبدئون منها العودة إلى ديارهم وجدوا لوحة مع شارة سهم باتجاه واحد.. أسفلها مكتوب عليها: طريق الوحدة الوطنية الفلسطينية..!!
كاتب من تونس مقيم في إيطاليا
فتعجب الجمع من كلام الرجل وتقدم الفريقان، وأمعنا النظر في الورقتين ولاذا بصمت غريب، وحياء رهيب، وتصبب العرق من كلاهما، وتراجعا كل فى مكانه بهدوء، فتقدم العم نهيان فتبين له حقيقة الموقف الجلل، بعد أن تفحص الورقة الأولى وشعارها "كتائب الأقصى" والثانية وشعارها "كتائب القسام"، فنظر إلى الأب فرد عليه المفجوع بهز رأسه، ودموعه قد تساقطت قطرات ملتهبة على الأرض، وبدأ بالانصراف حاملا فلذات كبده، فى أوراق وفاة بيده وهو يتمتم بكلمات...
وقبل أن يغادر باب القاعة التفت للجمع بنظرة واحدة فيها ملخص لكل المآساة التى بأيديهم يصنعون.... ثم انصرف جارا قدميه بتثاقل شديد ورأسه متجها نحو السماء ويداه مرفوعتان... أما المجتمعين لم ينتظروا العم نهيان كي يعقب أو يتكلم، فقد أجهش الجمع فى بكاء بل نحيب.. سمعت أصواته من خارج القاعة، وما هى إلا لحظات حتى تعانق أصحاب الأرض الواحدة، والدم الواحد، والمصير الواحد، والهدف الواحد، والدين الواحد، ونظرا إلى العم نهيان فلم يجدوه، فقد اختفى، وشوهد خارج القاعة مبتسما وعيناه شاخصتان إلى السماء يناجى ربه متضرعا، شاكرا، حامدا له قائلا... الآن بدئوا طريقهم الطويلة والشاقة، إنها طريق السلامة والنجاة والخلاص، وتحرير الأرض والقدس والمقدسات كلها، طريق البناء والأمل والكرامة، طريق التقدم والإزدهار والرخاء....
وفى الطريق الوحيدة أمام القاعة التى سيبدئون منها العودة إلى ديارهم وجدوا لوحة مع شارة سهم باتجاه واحد.. أسفلها مكتوب عليها: طريق الوحدة الوطنية الفلسطينية..!!
كاتب من تونس مقيم في إيطاليا