الجسد الأسمر يرتعش والذراع ، والكف المرفوع أيضا يرتعش ، بشدة ، والسبابة التي ضغطت كبسة الجرس وأطالت ضغطها كانت تنتفض كالعصفور المبلول بماء بارد ، سمع رنات الجرس الشبيهة بزقزقة البلابل الطليقة .. وقف لحظة ينتظر أن تفتح له الباب أخته الأرملة ، هي لحظة تختلف عن كل اللحظات التي مر بها في حياته ، وشعر كأنها تمتد به إلى ملايين السنين ، والأرض تميد تحت حذاءه المغطى بالغبار، لقد نسي أن يمسحه .. ها هو ذا يقف بوجه عابس ، وربما للمرة الأولى في حياته يعبس وجهه المستطيل ، وينخر الحزن عظامه ويحز في أعماق قلبه .. فمعروف عنه أنه كثير الضحك والمزاح ، أو هو كتل ملتهبة وعواصف قوية من الضحك تهب في حين وتضعف في حين آخر ، لكنها لا تنتهي .. وعادة ما يختم ضحكته بصرير أو يتبعها بصفير حاد بعد شهقة عميقة ، فيبدو كأنه يكبحها فجأة بفرامل قوية مثبتة في حنجرته توقف حبالها وتمسك بلسانه .. حتى عندما يضحك ضحكات وانية فهو يهيئ نفسه ومن حوله إلى موجات قادمة عاتية من الضحك الهادر ، كالهدوء الذي يسبق العاصفة ، ومن عادته أن يضحك بذمة وضمير ليمنح النفس حقها في الحياة ، هكذا هو إبراهيم ومن المحال لأي أحد ممن يعرفونه تخيله إلا ضاحكا أو مبتسما في الأقل ..
وكان دائما يردد أنا اضحك إذن أنا موجود .. أكيد موجود .. ومن عادته أن يضحك في الأحزان ، أحزان جيرانه وأقاربه حتى أقرب الأقارب ، لا يكترث إلى من هم الحزانى ، إلى درجة انه يضحك ويطلق العنان لفمه الواسع بالقهقهة في بيوت العزاء ، فتلتف الناس حوله في دائرة تتسع وتتسع مع زحف الدقائق ، فيغشاهم الضحك حتى ينسوا أنهم في بيت عزاء ، كأنهم يقايضون الحزن بالضحك ، ويستبدلون البلية بالابتسامات العريضات ، وقد تأخذ الابتسامات بالتحول إلى ضحكات عالية ، فيتحول العزاء إلى ما يشبه العرس أو الحفل السامر ، فيمد من يجلس بعيدا عنه رقبته ويحرك رأسه ويميل بجسده حتى يتقوّس ، كي يرى وجهه من بين الأجساد الملتفة المكومة ، وبعضهم يميل رأسه ويحركه مسلطا أذنه بفضول صوب مصدر الصوت ، عله يلتقط كلمة أو يختلس جمله تسعفه بابتسامة ، حتى من يستاء لضحكاته كان يضحك ، والغبي منهم الذي لا يفهم نكاته كان أيضا يضحك ، كل هذا يحدث بلا ميعاد أو اتفاق ، فيكون للضحك متعة أكبر ورونق أجمل ، فألذ الضحك وأمتعه إلى القلوب هو ذلك الذي يأتي بلا أي ميعاد .. وفي المشفى بحكم أنه ممرض من عشر سنين اكتسب خبرات كثيرة في الطب ، فكان يسخر وينثر النكات لهفوات الأطباء حديثي العهد بالمهنة ، فيضحك جميع الموظفين ، حتى المرضى كانوا يضحكون ، وفاقدو الأمل منهم بالحياة كانوا أيضا يضحكون ، فكأن عزرائيل يجذبهم إلى جهة وإبراهيم يجذبهم إلى جهة أخرى . وله محاولات عديدة فاشلة في تعلم العبوس ، كثيرا ما كان يقف أمام المرآة محاولا التدرب على رسم تكشيرة صارمة على وجهه ، وذلك بتجعيد إرادي لجبينه وشده حتى يتقارب حاجباه العريضان المنفوشان وينحدران إلى الأسفل كالمظلة ، ويضغط عضلات وجهه حتى تنتفخ عروق رقبته وتنفر عضلاتها ، فتبرز حنجرته في أعلى رقبته مهتزة كسنام جمل يحث الخطوات ، لكنها لحظة لا تزيد عن ثانيتين أو ثلاث حتى يرتخي وجهه من جديد ويغرق بضحك عميق صاخب ما أسرع أن يتعالى إلى قهقهات مجلجلات .
مد يده وضغط كبسة الجرس مرة أخرى ، بات يتمنى أن لا يجد أخته في البيت ، أو تنشق الأرض وتبلعه ، فالأمر الوحيد الذي يشغل باله الآن ويزلزل كيانه هو طريقة إخبارها بموت ابنها الوحيد عبد الحميد في مجزرة ومحرقة غزة في مخيم جباليا ، مات عبد الحميد قبل ساعات قليلة ، وهو في السابعة عمره ، كل عمره ، ولدته أمه بعد سنين مريرة من العلاج المضني ، وبعدما باعت كل ما لديها من صيغة وأنفق زوجها كل ما لديه في البنك من نقود ، النقود التي جمعها عندما كان يعمل في السعودية سنوات طوال .. وهي حزينة على زوجها الذي مات بحسرته قبل شهر بالفشل الكلوي ، بعدما أحكمت إسرائيل حصارها القاتل على غزة ولم يجد الدواء وتوقفت أجهزة المشفى عن العمل لانقطاع الكهرباء ، وأخته حزينة وغارقة في حزنها على أخيها الذي مات بالجلطة منذ شهرين قبل العيد الكبير بيوم واحد ، مات لنفس الأسباب ، وإن كان موتهما من النوع النادر في غزة ، فقد ماتا وأجسادهما كاملة غير منقوصة وغير ممزقة وبلا أي ثقوب لرصاص إسرائيلي أو قذائف ، إلا أنه موت أجساد محاصرة بالمرض ومحاصرة بالحصار الخانق القاتل الملفوف حولهم بصمت من كل الجهات .. كيف سيتحدث مع أخته ؟ وكيف سيخبرها ؟ كيف .. كيف .
مد كفه للمرة الثالثة وضغط على كبسة الجرس ، فتحت أخته الباب ، ما أن رأته حتى راق وجهها الحزين وتوهجت ملامحه وانتعش في وسطه ابتسامة ..
- تفضل يا أخي .. ادخل يا إبراهيم.. أهلا وسهلا.. " وين هال غيبه"
- كيف حالك .. إن شاء الله بخير.. أيقظتك من نومك! .
- بخير .. لم أكن نائمة .. تفضل.. طالما أنت بخير فأنا بخير.
راحت مسرعة تبسط له الفراش وجلبت وسادتين ، كي يسند ظهره إلى الحائط بواحدة ويضطجع بكوعه على الأخرى ، وأخذ يحمّلق إلى وجهها ، ويتابع بعينيه الواسعتين مشيتها بثوبها الأسود الطويل الكاسي ، هو ثوب الحداد .. بالنسبة لأخته لم تكن زيارته مجرد زيارة عادية كالزيارات ، إنما كانت دفء حياة وجرعة أنس ونسمة أمل .
جلست مقابله ، نظرت إلى وجهه المكشر ، دون أن تلاحظ صفرته أو ازرقاق جفنيه ، فظنت أنه كعادته يقلد تكشيرة الفنان عادل إمام ، في مسرحية مدرسة المشاغبين ، فراحت تضحك بعمق وهي لا تريد أن تضحك ، أو حتى تبتسم ، لمّا أفرغت ما بقلبها من ضحك لعنت الشيطان عدة لعنات واستغفرت الله عدة مرات ، وأخذت تحوقل وهي تحدق بصورة زوجها المعلقة بمسمار على الحائط ، انتابها شعور داخلي بالذنب لأنها ضحكت وهي ما زالت في ثياب الحداد ..
- الله يقطع شيطانك يا إبراهيم .. أضحكتني رغما عني .
- الله يلعن كل الشياطين في هذه الدنيا .. اضحكي يا أختي ..اضحكي .
نهضت أخته بتثاقل وهي تتثاءب واضعة يدها على فمها وراحت تجهز له الشاي ، أخذت تتحدث بصوت لزج أثناء توجهها إلى المطبخ مذكرة إياه بالهدية التي وعد بها عبد الحميد لأنه حصل على درجات كاملة في الامتحانات الشهرية ، امتحانات شهر فبراير الماضي ، فنحن الآن في مطلع شهر مارس ..
- أين الحذاء الرياضي الذي وعدت به عبد الحميد ؟ وعد الحر دين عليه !
- أي حذاء ! .. آه .. نسيت .. غدا سأشتريه .
- جميع درجاته كاملة ، الله يرضى عليه لقد رفع رأسنا عاليا في السماء ، فهو اشطر طالب في المدرسة.. الحمد لله .. صار لي ابنا يروح إلى المدرسة ويأخذها الأول .. يا رب أعيش لغاية ما أراه ينهى تعليمه الجامعي .
- آه .. ما شاء الله .. بالكاد استطاع النطق ، وأوشكت عيناه أن تذرفان لولا أن مقاومته لهما كانت قوية وقاسية .
- وأنا سأجهز لك الشاي الغامق الثقيل مع النعناع الذي يحبه قلبك .
لم يكن بإمكان عقله أن ينسى الساعات الماضية ، والساعات لم تكن تنساه ، بل هو محفور بها وهي متغلغلة به ، داهمته بكل تفاصيلها .. ففيها كان وسط الأجساد البشرية الممزقة الناقصة أعضاء ، أو محروقة متفحمة ، أو مثقوبة ، وكومات من الأشلاء يفتش عن أجسادها ، ويودع الموتى الثلاجات .. كل هذا وسط الازدحام ، والعويل والنحيب والصراخ ، حتى الرجال كانوا يبكون ويصرخون ، ويعلو صراخهم ويعلو حتى يفلق الأفق ، كل شيء حوله يبكي ويصرخ : الجدران ، الأّسرة ، أجهزة التنفس ، الكراسي ، الطاولات ، جهاز الأشعة ، الحجارة عبر النافذة ، حتى السماء كانت تبكي .. لا وقت لديه لأن يمسح العرق عن جبينه ، حتى نسي أن يأكل ، نسي أنه بحاجة إلى دورة المياه ، نسي أن يصلي ، ولما ذكره زميلة بالصلاة انتهز لحظات قليلات لها ، لكنه اضطر لقطع الصلاة بعد أداء الركعة الأولى مع وصول سيارة إسعاف تحمل جثثا وأشلاء ومصابين ، وأخذ يحاول إعادة النبض إلى قلوب بعضها ، هي أجساد مرصعة بالثقوب الكثيرة ، ثقوب واسعة باتساع فوهة الفنجان ، وزميله يحاول أن يضغط عليها بيديه لإغلاقها محاولا إيقاف نزيفها المتدفق كالنافورة .. شعر للحظات بالغثيان وهده الإرهاق ، إرهاق ممزوج برائحة البنج واليود والموت ، وتعب مخلوط بالدماء الجافة والطازجة ، والملاءات البيضاء تحولت إلى حمراء وصارت تقطر بالدماء .. وسط هذا كله كان يعمل .. كان يحاول إعادة الحياة إلى أجساد لا يعرفها ، لكنه يعرف أنها تترنح بين الحياة والموت ، ويعرف أنها تفارق الدنيا ، وإن كان يأمل لبعضها – فقط يأمل – أن تعيش .. تموت الأجساد الآدمية بين يديه وكأن عزرائيل يلبد لها بين أصابعه .. تملكته رغبة عارمة بالبكاء لكن الوقت والظرف لا يسمحان ولو بدمعة واحدة .
عادت أخته تحمل أكواب الشاي على صينية بلاستيكية مدّورة ، جلست مقابله وتربعت بعد أن وضعت أمامه الكوب ، ارتشفت منه رشفة واحدة ضعيفة ، وراح لسانها يتحدث عن عبد الحميد وأعماله الصبيانية واصفة إياها بالشيطنة ، وأخبرته كيف بالأمس قفز عن طاولة المطبخ فكسر بقدمه الصحن الأبيض الصيني إلى عدة قطع .. وعبد الحميد بالنسبة لها لم يكن فقط ابنها ، إنما كان حجرة من حجرات قلبها ، ونفحة من روحها ، أو هو روحها .. اسمع يا إبراهيم ..
- لمّا تنتهي من شرب الشاي ، اجلب لي عبد الحميد من الخارج ، صار قلبي يغلي عليه ، أخشى أن يذهب إلى أطراف المخيم .. حيث الفاشيون الصهاينة يقتلون الناس بلا تمييز بين طفل وشاب أو عجوز .. فهم يقتلون أيضا النساء والأطفال الرضع .
- حاضر .. سأبحث .. سأبحث عنه .
سادت لحظة صمت طويلة .. فسحت المجال للحظات أخرى دموية أن تقتحم عقله من جديد ، عندما كان في المشفى ، ووقع بين يديه ذراع صغير لطفل ، أخذ يدقق كي يبحث له عن جسد مناسب ، شاهد في قفا الذراع آثار حرق قديم وشامة بجانبه .. هل هي صدفة ؟ إنها ذراع عبد الحميد لا محالة! .. بعد بحث وجد بقية الجسد المحروق حتى التفحم ، لكن الرقبة والرأس بلا حروق ، واستطاع التعرف على جثة عبد الحميد .. بل هو تأكد وصار واثقا أنه هو عندما شاهد السن المكسور وشحمة الأذن الملوية .. شعر وكأن مكواة حامية لسعت قلبه ، أعفاه مدير المشفى من الاستمرار في العمل ، وطلب منه الاستراحة في البيت بعد أن استدعى بديلا عنه .
سألته أخته عن حاله ..
- لماذا وجهك اصفر؟ وجفنك ازرق وعينك حمراء !
- لا يوجد شيء.
- بالله عليك ما هو الموضوع ؟.. حلفتك بالله !
- عبد .. عبد الحميد .
- زعقت : ما به ؟
- لقد .. لقد .. إنه ..
توقف لسانه كأنه ربط بحبل .. سالت الدموع ، رجف جسده رجفا شديدا كأنه يجلس على كرسي كهربي ، وصدره يكاد أن يتفسخ وقد تهدجت منه الأنفاس ، خرج مسرعا ، لحقت به أخته تصرخ وقد نسيت أن تغطي شعر رأسها بالمنديل الأسود .. توجه إبراهيم إلى بيت عمه الشهيد وأخذ سلاحه وتوجه مسرعا كالصاروخ إلى أطراف المخيم .. كي يقاتل الفاشيين الصهاينة .. وما فتئت صرخات أخته تشق الفضاء .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
مد يده وضغط كبسة الجرس مرة أخرى ، بات يتمنى أن لا يجد أخته في البيت ، أو تنشق الأرض وتبلعه ، فالأمر الوحيد الذي يشغل باله الآن ويزلزل كيانه هو طريقة إخبارها بموت ابنها الوحيد عبد الحميد في مجزرة ومحرقة غزة في مخيم جباليا ، مات عبد الحميد قبل ساعات قليلة ، وهو في السابعة عمره ، كل عمره ، ولدته أمه بعد سنين مريرة من العلاج المضني ، وبعدما باعت كل ما لديها من صيغة وأنفق زوجها كل ما لديه في البنك من نقود ، النقود التي جمعها عندما كان يعمل في السعودية سنوات طوال .. وهي حزينة على زوجها الذي مات بحسرته قبل شهر بالفشل الكلوي ، بعدما أحكمت إسرائيل حصارها القاتل على غزة ولم يجد الدواء وتوقفت أجهزة المشفى عن العمل لانقطاع الكهرباء ، وأخته حزينة وغارقة في حزنها على أخيها الذي مات بالجلطة منذ شهرين قبل العيد الكبير بيوم واحد ، مات لنفس الأسباب ، وإن كان موتهما من النوع النادر في غزة ، فقد ماتا وأجسادهما كاملة غير منقوصة وغير ممزقة وبلا أي ثقوب لرصاص إسرائيلي أو قذائف ، إلا أنه موت أجساد محاصرة بالمرض ومحاصرة بالحصار الخانق القاتل الملفوف حولهم بصمت من كل الجهات .. كيف سيتحدث مع أخته ؟ وكيف سيخبرها ؟ كيف .. كيف .
مد كفه للمرة الثالثة وضغط على كبسة الجرس ، فتحت أخته الباب ، ما أن رأته حتى راق وجهها الحزين وتوهجت ملامحه وانتعش في وسطه ابتسامة ..
- تفضل يا أخي .. ادخل يا إبراهيم.. أهلا وسهلا.. " وين هال غيبه"
- كيف حالك .. إن شاء الله بخير.. أيقظتك من نومك! .
- بخير .. لم أكن نائمة .. تفضل.. طالما أنت بخير فأنا بخير.
راحت مسرعة تبسط له الفراش وجلبت وسادتين ، كي يسند ظهره إلى الحائط بواحدة ويضطجع بكوعه على الأخرى ، وأخذ يحمّلق إلى وجهها ، ويتابع بعينيه الواسعتين مشيتها بثوبها الأسود الطويل الكاسي ، هو ثوب الحداد .. بالنسبة لأخته لم تكن زيارته مجرد زيارة عادية كالزيارات ، إنما كانت دفء حياة وجرعة أنس ونسمة أمل .
جلست مقابله ، نظرت إلى وجهه المكشر ، دون أن تلاحظ صفرته أو ازرقاق جفنيه ، فظنت أنه كعادته يقلد تكشيرة الفنان عادل إمام ، في مسرحية مدرسة المشاغبين ، فراحت تضحك بعمق وهي لا تريد أن تضحك ، أو حتى تبتسم ، لمّا أفرغت ما بقلبها من ضحك لعنت الشيطان عدة لعنات واستغفرت الله عدة مرات ، وأخذت تحوقل وهي تحدق بصورة زوجها المعلقة بمسمار على الحائط ، انتابها شعور داخلي بالذنب لأنها ضحكت وهي ما زالت في ثياب الحداد ..
- الله يقطع شيطانك يا إبراهيم .. أضحكتني رغما عني .
- الله يلعن كل الشياطين في هذه الدنيا .. اضحكي يا أختي ..اضحكي .
نهضت أخته بتثاقل وهي تتثاءب واضعة يدها على فمها وراحت تجهز له الشاي ، أخذت تتحدث بصوت لزج أثناء توجهها إلى المطبخ مذكرة إياه بالهدية التي وعد بها عبد الحميد لأنه حصل على درجات كاملة في الامتحانات الشهرية ، امتحانات شهر فبراير الماضي ، فنحن الآن في مطلع شهر مارس ..
- أين الحذاء الرياضي الذي وعدت به عبد الحميد ؟ وعد الحر دين عليه !
- أي حذاء ! .. آه .. نسيت .. غدا سأشتريه .
- جميع درجاته كاملة ، الله يرضى عليه لقد رفع رأسنا عاليا في السماء ، فهو اشطر طالب في المدرسة.. الحمد لله .. صار لي ابنا يروح إلى المدرسة ويأخذها الأول .. يا رب أعيش لغاية ما أراه ينهى تعليمه الجامعي .
- آه .. ما شاء الله .. بالكاد استطاع النطق ، وأوشكت عيناه أن تذرفان لولا أن مقاومته لهما كانت قوية وقاسية .
- وأنا سأجهز لك الشاي الغامق الثقيل مع النعناع الذي يحبه قلبك .
لم يكن بإمكان عقله أن ينسى الساعات الماضية ، والساعات لم تكن تنساه ، بل هو محفور بها وهي متغلغلة به ، داهمته بكل تفاصيلها .. ففيها كان وسط الأجساد البشرية الممزقة الناقصة أعضاء ، أو محروقة متفحمة ، أو مثقوبة ، وكومات من الأشلاء يفتش عن أجسادها ، ويودع الموتى الثلاجات .. كل هذا وسط الازدحام ، والعويل والنحيب والصراخ ، حتى الرجال كانوا يبكون ويصرخون ، ويعلو صراخهم ويعلو حتى يفلق الأفق ، كل شيء حوله يبكي ويصرخ : الجدران ، الأّسرة ، أجهزة التنفس ، الكراسي ، الطاولات ، جهاز الأشعة ، الحجارة عبر النافذة ، حتى السماء كانت تبكي .. لا وقت لديه لأن يمسح العرق عن جبينه ، حتى نسي أن يأكل ، نسي أنه بحاجة إلى دورة المياه ، نسي أن يصلي ، ولما ذكره زميلة بالصلاة انتهز لحظات قليلات لها ، لكنه اضطر لقطع الصلاة بعد أداء الركعة الأولى مع وصول سيارة إسعاف تحمل جثثا وأشلاء ومصابين ، وأخذ يحاول إعادة النبض إلى قلوب بعضها ، هي أجساد مرصعة بالثقوب الكثيرة ، ثقوب واسعة باتساع فوهة الفنجان ، وزميله يحاول أن يضغط عليها بيديه لإغلاقها محاولا إيقاف نزيفها المتدفق كالنافورة .. شعر للحظات بالغثيان وهده الإرهاق ، إرهاق ممزوج برائحة البنج واليود والموت ، وتعب مخلوط بالدماء الجافة والطازجة ، والملاءات البيضاء تحولت إلى حمراء وصارت تقطر بالدماء .. وسط هذا كله كان يعمل .. كان يحاول إعادة الحياة إلى أجساد لا يعرفها ، لكنه يعرف أنها تترنح بين الحياة والموت ، ويعرف أنها تفارق الدنيا ، وإن كان يأمل لبعضها – فقط يأمل – أن تعيش .. تموت الأجساد الآدمية بين يديه وكأن عزرائيل يلبد لها بين أصابعه .. تملكته رغبة عارمة بالبكاء لكن الوقت والظرف لا يسمحان ولو بدمعة واحدة .
عادت أخته تحمل أكواب الشاي على صينية بلاستيكية مدّورة ، جلست مقابله وتربعت بعد أن وضعت أمامه الكوب ، ارتشفت منه رشفة واحدة ضعيفة ، وراح لسانها يتحدث عن عبد الحميد وأعماله الصبيانية واصفة إياها بالشيطنة ، وأخبرته كيف بالأمس قفز عن طاولة المطبخ فكسر بقدمه الصحن الأبيض الصيني إلى عدة قطع .. وعبد الحميد بالنسبة لها لم يكن فقط ابنها ، إنما كان حجرة من حجرات قلبها ، ونفحة من روحها ، أو هو روحها .. اسمع يا إبراهيم ..
- لمّا تنتهي من شرب الشاي ، اجلب لي عبد الحميد من الخارج ، صار قلبي يغلي عليه ، أخشى أن يذهب إلى أطراف المخيم .. حيث الفاشيون الصهاينة يقتلون الناس بلا تمييز بين طفل وشاب أو عجوز .. فهم يقتلون أيضا النساء والأطفال الرضع .
- حاضر .. سأبحث .. سأبحث عنه .
سادت لحظة صمت طويلة .. فسحت المجال للحظات أخرى دموية أن تقتحم عقله من جديد ، عندما كان في المشفى ، ووقع بين يديه ذراع صغير لطفل ، أخذ يدقق كي يبحث له عن جسد مناسب ، شاهد في قفا الذراع آثار حرق قديم وشامة بجانبه .. هل هي صدفة ؟ إنها ذراع عبد الحميد لا محالة! .. بعد بحث وجد بقية الجسد المحروق حتى التفحم ، لكن الرقبة والرأس بلا حروق ، واستطاع التعرف على جثة عبد الحميد .. بل هو تأكد وصار واثقا أنه هو عندما شاهد السن المكسور وشحمة الأذن الملوية .. شعر وكأن مكواة حامية لسعت قلبه ، أعفاه مدير المشفى من الاستمرار في العمل ، وطلب منه الاستراحة في البيت بعد أن استدعى بديلا عنه .
سألته أخته عن حاله ..
- لماذا وجهك اصفر؟ وجفنك ازرق وعينك حمراء !
- لا يوجد شيء.
- بالله عليك ما هو الموضوع ؟.. حلفتك بالله !
- عبد .. عبد الحميد .
- زعقت : ما به ؟
- لقد .. لقد .. إنه ..
توقف لسانه كأنه ربط بحبل .. سالت الدموع ، رجف جسده رجفا شديدا كأنه يجلس على كرسي كهربي ، وصدره يكاد أن يتفسخ وقد تهدجت منه الأنفاس ، خرج مسرعا ، لحقت به أخته تصرخ وقد نسيت أن تغطي شعر رأسها بالمنديل الأسود .. توجه إبراهيم إلى بيت عمه الشهيد وأخذ سلاحه وتوجه مسرعا كالصاروخ إلى أطراف المخيم .. كي يقاتل الفاشيين الصهاينة .. وما فتئت صرخات أخته تشق الفضاء .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.