على يدي الممدودة، حطت قطرة مطر حملتها الريح إلي.. إذا أمطرت بالفعل، سيكون عليّ أن أغادر مكاني هذا.. فركت القطرة كحبة عطر بين أصابعي وشممتها، لكني لم أشم غير رائحة التراب ممزوجة برائحتي.. نظرت إلى البعيد، أتطلع إلى المارين، أستكشفهم.. فرأيته قادما، بدا مألوفا.. الروبيو¹؟ والدتي كانت تناديه هكذا، فكان ينزعج بينما تقول له:
- شعرك الأشقر وتلك العينان الزرقاوتان ستجذب النساء إليك يالروبيو.
فتعتلي بعض الحمرة وجهه البيضاوي، ويحاول الاعتراض بينما تستطرد والدتي:
- ستحطم قلوبا كثيرة، يالروبيو..
لم أدرك حينها ما كانت تعنيه أمي. وإن كنت بدوري، قد فتنت بابتسامته وأسنانه الناصعة البياض. كان يفركها مرارا وتكرارا في اليوم الواحد.. كان ذلك أحد الأسباب الكثيرة لغضب زوج والدته.. حين يشب الشجار بينهما، كان الروبيو يأتي لاجئا لبضع ساعات أو بضعة أيام إلى بيتنا الصغير.. ينام قرب كومة النعناع الذي سيبيعه والدي غدا في السوق. غالبا ما كنت أتسلل إلى جانبه لنتسامر لساعات طويلة.. أحيانا تنتبه لنا والدتي، فتأمرنا بالنوم، وإذا لم تلح كثيرا أبقى معه لوقت إضافي. كان ذلك في البدء، بعدها اختلف الأمر قليلا..
شعاع شمس يتسرب من بين الغيم ليحط على ساقي الممدودة أمامي.. تلفه السحب، فيختفي .. أتململ في مكاني.. قد يكون عليّ أن أذهب على كل حال، أنا هنا منذ الصباح.. أنظر مرة أخرى إلى اليمين.. أراه يقترب على مهل بصحبة امرأتين.. لابد أن الكبرى زوجته، طويلة مثله، جميلة، عصرية المظهر.. تغيظني، فأنقل نظري إلى الصغرى، ابنتهما دون شك.. أخذت عنه شعره الأشقر.. لابد أنها في عامها العاشر. كنت في مثل عمرها عندما تعرفت على الروبيو. والدته أجرت لنا حجرتنا، بيتنا. كنا نتقاسم الطابق الأرضي مع أسرتين أخرتين، بينما كان الروبيو يتشارك الطابق العلوي مع أمه وزوجها وأخته غير الشقيقة..
توقفت الصغيرة أمام بائع الحلوى على الرصيف، اختارت شيئا ما.. رأيت والديها يتبادلان نظرة ضاحكة. تتعلق المرأة بذراع الروبيو ثم يتبعان ببطء طفلتهما.. تعلقت به هكذا، لأول مرة، حين عاد من جامعته. انتظرته طويلا.. وصل أخيرا عصرا، شعرت بالهدوء أخيرا.. اشتقت له، لأحاديثنا.. في طريق العودة تعلقت به، وبادلته قبلة طويلة.. نقلنا جلسات سمرنا إلى الدرج المؤدي إلى الطابق العلوي.. يتحدث وأصمت.. يحدثني عن علمه الذي يفسر الأشياء و يركب غيرها.. لا أفهمه، أريده أن يسمعني بدوره، أن ينتشلني من السوق، من سعيد بائع السمك والجّبلي بائع الفاكهة ومن مراقب السوق الذي كلما مر بي يدفع بيده إلى صدري النافر، وأتركه يفعل بابتسامة عريضة.. كثيراتٌُُ ينتظرن في باب السوق، إشارة للحلول مكاني..
- بابا، انظر إلى العصفور..
أنظر إليه بدوري.. حمامةُ تتشارك المدينة مع سكانها.. تقترب الفتاة وتعطيها فتات البسكويت. ألاحظ ابتسامة الفخر على وجه الروبيو.. سعيد هو بابنته وبعطائها. أطوي ساقي الممدودة. سأغادر بعد قليل. أنظر إليه من جديد.. لم تبد على وجهه علامات التعب. لازالت زرقة عينيه تشع بالدفء بينما اصطبغ شعره ببعض الرمادي. كنت لأحبه طويلا، لكنه سافر إلى الخارج ليتابع دراسته.
- ألم تنته من الدراسة؟ ألم تملّها؟ أسأله.
وأحزن قليلا على نفسي.. على الأمية التي تسكنني. أنظر إلى الصور في كتبه فلا أجد غير الأشكال والخطوط..
- حتى صورك غير جميلة!
لم تستوقفه اعتراضاتي. هرب إلى دراسته، وبقيت في السوق.. للحظة تلتقي نظراتنا، يتوقف قليلا.. وأرتبك، هل تعرّف إلي؟ لا تشبهني الآن إلاّ عيناي.. لكنه سرعان ما يشيح بنظره، كأنه يهرب مرة أخرى. يأمر الصغيرة ألا تقترب مني، ثم يتابع الثلاثة طريقهم.
أحاول النهوض عن الأرض اليابسة. لم يعد ردفاي يتحملان الجلوس الطويل.، لم تعد تتحملني الأرض أو أني لم أعد أتحملها.. أرى رجلا يقترب، فأعود إلى وضعيتي السابقة. يتوقف قربي ليضع قطعة نقدية في يدي الممدودة. أتحسس برودتها وشكلها فأعرف دون حاجة لرؤيتها أنها قطعة الخمسون سنتيما. أضعها في جيب جلابيتي وأغادر المكان رفقة ذكرى رائحة النعناع.
(¹) الأشقر باللغة الإسبانية.
فاطمة الزهراء الرغيوي
تطوان- المغرب
توقفت الصغيرة أمام بائع الحلوى على الرصيف، اختارت شيئا ما.. رأيت والديها يتبادلان نظرة ضاحكة. تتعلق المرأة بذراع الروبيو ثم يتبعان ببطء طفلتهما.. تعلقت به هكذا، لأول مرة، حين عاد من جامعته. انتظرته طويلا.. وصل أخيرا عصرا، شعرت بالهدوء أخيرا.. اشتقت له، لأحاديثنا.. في طريق العودة تعلقت به، وبادلته قبلة طويلة.. نقلنا جلسات سمرنا إلى الدرج المؤدي إلى الطابق العلوي.. يتحدث وأصمت.. يحدثني عن علمه الذي يفسر الأشياء و يركب غيرها.. لا أفهمه، أريده أن يسمعني بدوره، أن ينتشلني من السوق، من سعيد بائع السمك والجّبلي بائع الفاكهة ومن مراقب السوق الذي كلما مر بي يدفع بيده إلى صدري النافر، وأتركه يفعل بابتسامة عريضة.. كثيراتٌُُ ينتظرن في باب السوق، إشارة للحلول مكاني..
- بابا، انظر إلى العصفور..
أنظر إليه بدوري.. حمامةُ تتشارك المدينة مع سكانها.. تقترب الفتاة وتعطيها فتات البسكويت. ألاحظ ابتسامة الفخر على وجه الروبيو.. سعيد هو بابنته وبعطائها. أطوي ساقي الممدودة. سأغادر بعد قليل. أنظر إليه من جديد.. لم تبد على وجهه علامات التعب. لازالت زرقة عينيه تشع بالدفء بينما اصطبغ شعره ببعض الرمادي. كنت لأحبه طويلا، لكنه سافر إلى الخارج ليتابع دراسته.
- ألم تنته من الدراسة؟ ألم تملّها؟ أسأله.
وأحزن قليلا على نفسي.. على الأمية التي تسكنني. أنظر إلى الصور في كتبه فلا أجد غير الأشكال والخطوط..
- حتى صورك غير جميلة!
لم تستوقفه اعتراضاتي. هرب إلى دراسته، وبقيت في السوق.. للحظة تلتقي نظراتنا، يتوقف قليلا.. وأرتبك، هل تعرّف إلي؟ لا تشبهني الآن إلاّ عيناي.. لكنه سرعان ما يشيح بنظره، كأنه يهرب مرة أخرى. يأمر الصغيرة ألا تقترب مني، ثم يتابع الثلاثة طريقهم.
أحاول النهوض عن الأرض اليابسة. لم يعد ردفاي يتحملان الجلوس الطويل.، لم تعد تتحملني الأرض أو أني لم أعد أتحملها.. أرى رجلا يقترب، فأعود إلى وضعيتي السابقة. يتوقف قربي ليضع قطعة نقدية في يدي الممدودة. أتحسس برودتها وشكلها فأعرف دون حاجة لرؤيتها أنها قطعة الخمسون سنتيما. أضعها في جيب جلابيتي وأغادر المكان رفقة ذكرى رائحة النعناع.
(¹) الأشقر باللغة الإسبانية.
فاطمة الزهراء الرغيوي
تطوان- المغرب