استيقظت على صوت أرعن..
حاولت تحديده أو تشبيهه بصوت في الذاكرة، لكنني فشلت، واكتشفت أن الذاكرة لا تستجيب إلا بمقدار اهتماماتنا! فمن أين كنت سأعرف أن الصوت كان لمنشار كهربائي؟ وكيف يخطر في البال أن أحدا ما سيقرر في لحظة عابرة أن يقص شجرة ما؟
لم تكن الشجرة في البدايات تعنيني من قريب أومن بعيد.. كانت سروة طويلة أمر بها ولا أعيرها أي اهتمام، ولم تكن تثير بي أي شعور محدد، إلى أن رأيت يوما على ساقها حفرا بمسمار يقول: أنت حمار!
يومها حاولت اكتشاف المسافات بين الشجرة والمنازل الأخرى، وقدرت أخيرا أنني أقرب الرجال إليها في الحي، ما يعني أنني الحمار على ساق الشجرة!
فكرت في استخدام مسمار أو سكين لإزالة الحفر، لكنني خشيت أن يراني أحد، وتحديدا ذاك الذي كتب العبارة، وتصورت حجم الشماتة التي سيمتلئ بها حين يراني، فعدلت، وصرت كلما أمر بها أحاول أن أتجنب النظر إليها، لكنني في لحظة غامضة، ألقي بنظرة خاطفة فتصيب الهدف تماما: أنت حمار!
تساءلت عما فعلته لأحد ممن حولي، فلم أجد مبررا لتشبيهي بالحمار، أو أي حيوان آخر، لكنني تذكرت أن المنطق ليس معيارا ثابتا لكل ما نعيشه أو نمر به، واقتنعت أنني ـ بلا شك ـ أستحق تلك الصفة بالنسبة لمن كتب العبارة، وإلا لما فعل ذلك.
كان الشخص الوحيد الذي شبهني مباشرة بالحمار، هي تلك المرأة، وكان ذلك على السرير في لحظة سحرية، وليس من المعقول أن تكتب المرأة ذلك، أللهم إلا إذا ركبت رأسها حين خرجت غاضبة ذات يوم ولم تعد.
كان من الطبيعي أن أفكر بالرحيل عن الحي، ولكنني لم أجد ما أقنع به زوجتي وولديّ، وبخاصة أنهم لم يشيروا يوما إلى موضوع الشجرة، فلم أرحل، ونسيت الأمر أخيرا، أو تجاهلته، أو تحايلت على نفسي، أو أي شيء من هذا القبيل، وتعايشت مع الحفر الذي بدا وكأنه أبدي.
حين خرجت إلى الشارع، ورأيت المنشار يتوغل في ساق السروة، رأيت أحد العمال ينظر نحوي، ويبتسم، فابتسمت كأبله، وعدت إلى الداخل.
كنت متوترا، فأشعلت سيجارة كالعادة، ورحت أفكر في السبب الذي دفع أحدا ما لقص شجرة سرو عملاقة عمرها يفوق الخمسين سنة! ثم ذهبت إلى النافذة ورحت أرقب المشهد، وأستمع إلى الصوت الأرعن الذي لا شبيه له، وأنا أتخيل لحظة السقوط المدوية للشجرة كما رأيتها عدة مرات على التلفزيون، حيث تبدأ الشجرة في الانحناء ببطء، يتسارع تدريجيا إلى أن تلقي الشجرة بنفسها على الأرض بطريقة توحي بالانتحار! وفكرت أن ثمة من دفع هذه الشجرة للانتحار، تماما كما تفعل الحياة ببعض الأشخاص، بغض النظر عن محبتهم لها وتشبثهم بها.
أخيرا دوى سقوطها، وانتشر في الفضاء كالصدى، وذهب العمال بأدواتهم، بعد أن قصوا فروعها وقاموا بتحميلها على شاحنة متوسطة.
انتابني إحساس مفاجئ بالفراغ، وأظنه أمرا طبيعيا في مثل تلك الحال، حيث تعتاد على شيء ما عشر سنوات ثم تفقده في لحظة غير مبررة تماما. ولكن خيطا رفيعا من الرضا كان يتوهج بين حين وآخر في داخلي، وكنت أعرف سبب انبثاقه بالضرورة، حيث لم أعد أنا ذلك الحمار.. بل لم يعد ثمة حمار على الإطلاق.
في مساء ذلك اليوم، عدت إلى منزلي، ومررت بصورة الشجرة، وألقيت النظرة ذاتها فأصابت الهدف تماما، وكأن الشجرة في مكانها، لكنني أكدت لنفسي بعد خطوات أن هذا مجرد خلط في الأحاسيس.
تجاوزت الشجرة، فسمعت صوت نهيق الحمار.. انطفأ خيط الرضا الرفيع في داخلي، وتحسست بيديّ أذنيّ الطويلتين!
كان الشخص الوحيد الذي شبهني مباشرة بالحمار، هي تلك المرأة، وكان ذلك على السرير في لحظة سحرية، وليس من المعقول أن تكتب المرأة ذلك، أللهم إلا إذا ركبت رأسها حين خرجت غاضبة ذات يوم ولم تعد.
كان من الطبيعي أن أفكر بالرحيل عن الحي، ولكنني لم أجد ما أقنع به زوجتي وولديّ، وبخاصة أنهم لم يشيروا يوما إلى موضوع الشجرة، فلم أرحل، ونسيت الأمر أخيرا، أو تجاهلته، أو تحايلت على نفسي، أو أي شيء من هذا القبيل، وتعايشت مع الحفر الذي بدا وكأنه أبدي.
حين خرجت إلى الشارع، ورأيت المنشار يتوغل في ساق السروة، رأيت أحد العمال ينظر نحوي، ويبتسم، فابتسمت كأبله، وعدت إلى الداخل.
كنت متوترا، فأشعلت سيجارة كالعادة، ورحت أفكر في السبب الذي دفع أحدا ما لقص شجرة سرو عملاقة عمرها يفوق الخمسين سنة! ثم ذهبت إلى النافذة ورحت أرقب المشهد، وأستمع إلى الصوت الأرعن الذي لا شبيه له، وأنا أتخيل لحظة السقوط المدوية للشجرة كما رأيتها عدة مرات على التلفزيون، حيث تبدأ الشجرة في الانحناء ببطء، يتسارع تدريجيا إلى أن تلقي الشجرة بنفسها على الأرض بطريقة توحي بالانتحار! وفكرت أن ثمة من دفع هذه الشجرة للانتحار، تماما كما تفعل الحياة ببعض الأشخاص، بغض النظر عن محبتهم لها وتشبثهم بها.
أخيرا دوى سقوطها، وانتشر في الفضاء كالصدى، وذهب العمال بأدواتهم، بعد أن قصوا فروعها وقاموا بتحميلها على شاحنة متوسطة.
انتابني إحساس مفاجئ بالفراغ، وأظنه أمرا طبيعيا في مثل تلك الحال، حيث تعتاد على شيء ما عشر سنوات ثم تفقده في لحظة غير مبررة تماما. ولكن خيطا رفيعا من الرضا كان يتوهج بين حين وآخر في داخلي، وكنت أعرف سبب انبثاقه بالضرورة، حيث لم أعد أنا ذلك الحمار.. بل لم يعد ثمة حمار على الإطلاق.
في مساء ذلك اليوم، عدت إلى منزلي، ومررت بصورة الشجرة، وألقيت النظرة ذاتها فأصابت الهدف تماما، وكأن الشجرة في مكانها، لكنني أكدت لنفسي بعد خطوات أن هذا مجرد خلط في الأحاسيس.
تجاوزت الشجرة، فسمعت صوت نهيق الحمار.. انطفأ خيط الرضا الرفيع في داخلي، وتحسست بيديّ أذنيّ الطويلتين!