مد رجليه مستريحا، وتأملهما برهة طويلة ثم خطرت له فكرة.. لماذا لا يستغلهما في الجري والسباق..سباق الحواجزالتي أحكمت عليه الخناق من كل الجهات .. لماذا لا يجرب حظه فيتخطاها بجريه.. لقد جرى كثيرا..طاف الشوارع والدروب..دق أبواب جميع المؤسسات..الخاصة والعمومية بحثا عن عمل..لكن الحظ لم يبتسم له..ظل مكشرا عن أنيابه، أو ربما جهل عنوانه فلم يلتحق به.. بحث عنه ..جرى في جميع الجهات .. لكن الحظ كان أكثر سرعة فابتعد عنه .. ومع ذلك لم ييأس.. على الأقل أصبح يملك قدمين صلبتين وساقين قويتين بسبب خبرته في الجري..فليجرب هذه الخبرة وليشارك مع المتسابقين في السباق..الكل يجري ويتسابق..ابتسم الحظ للكثير.. ربما يبتسم حظه إذن هذه المرة.
هاهي الفرصة مواتية.. الكل يتحدث الآن عن تنظيم سباق جديد نحو القبة.. والباب مفتوح لكل المترشحين .. دعوة عامة لكل صاحب موهبة.. والفائدة كبيرة .. جميع وسائل الإعلام تشجع على ذلك..فليتوكل على الله.. وليأخذ موقعه بين الصفوف !
الجميع يهيئ حملته للسباق .. والباب مفتوح لاستقطاب المشجعين الهاتفين بأصواتهم .. الأصوات مهمة في هذه المناسبة .. وما على المتسابق سوى معرفة كيفية اقتناصها .. على كل هناك أبناء الحي الذين سيمثلهم .. إضافة إلى زملاء الدراسة الذين خانهم الحظ مثله.. لابد أن يتعاطفوا معه .. فقد شاركهم الاعتصام كثيرا.. ونال معهم ضربات مختلفة ماتزال آثارها بضلوعه .. سوف لن يخذلوه لأنهم يعرفون إخلاصه ..
هو يعلم أن هناك متسابقين محترفين .. عليمين بخفايا السباق .. بل حرفتهم هي السباق.. هو يعرفهم واحدا واحدا .. صورهم تملأ وسائل الإعلام .. وأسماؤهم مدوية في كل مكان !! يعرف منهم الحاج القوالبي صاحب معمل السكر .. والمعلم المسماري صاحب ورشة المسامير المعدنية .. والزعيم بوكرش مجهز الحفلات .. وصاحب اللحية و اللسان المغناطيسي وغيرهم .. كلهم سيتقدمون للسباق .. وكلهم أصحاب حظوظ ..قادرون على شراء الأصوات.. ومع ذلك فالأمر لا يخيفه.. سيدخل معهم السباق رغم حرفيتهم وإمكانياتهم.. على الأقل هو يثق في قدميه، وفيما يبذله من جهد.. ولن تخذله أصوات الجيران والأصحاب.
إذن.. هو يعرف جيدا قدرة خصومه على استقطاب المشجعين.. صاحب اللحية ذو اللسان المغناطيسي له قدرة عجيبة على التأثير في الناس.. يعد الجميع بالجنة والحياة الرغدة.. يتلاعب بالكلام بسهولة .. ويغازل مشاعر الناس وعواطفهم .. يستشهد بالنصوص.. ويفرق الوعود على الجميع.. مراوغ قدير .. ومراوغاته تكسبه رصيدا مهما من أصوات الحالمين الكادحين.
الزعيم بوكرش يحترف إقامة الحفلات والولائم.. يستغل جوع الآخرين فينصب لهم فخ المأدبة .. شعاره “أشبع كلبك يتبعك” !..
أما المعلم المسامري فرجل ذكي جدا .. يعرف كيف يستغل موهبته .. يملك القدرة على المساومة والتأثير على الآخرين .. فيعرف متى يكون السوق مربحا ومتى يكون غير ذلك !
ويبقى الحاج القوالبي صاحب الشكارة، وهو أكثرهم خطورة.. هذا الذي يجب أن يحسب له ألف حساب .. إمكانياته كبيرة في الاستقطاب والتأثير على الناس.. ماله وفير .. ومعامله كثيرة على رأسها معمل السكر الشهير.. والناس تعشق قوالب السكر لأنها من القوت اليومي .. خصوصا بالبادية .. وهو يسخر هذا العشق لديهم فيملك رقابهم وأصواتهم .. بل قيل إن باستطاعته التأثير على جميع الفئات.. حتى المشرفين على السباق أنفسهم..فيغيرونه لصالحه.. !
المهم، هو مصر على هذا السباق..إنه فرصته الأخيرة.. وما عليه إلا أن يسلم ساقيه للريح .. سيبذل كل جهده..وتبا للآخرين.
أزفت ساعة السباق.. واصطف المترشحون في خط واحد .. يتأهبون للجري..منتظرين انطلاق صفارة الحكم..الجماهير متراصة على طول جانبي الطريق..تشجيعاتهم متواصلة..والمتسابقون حذرون..ينظرون إلى بعضهم شزرا..يكشرون عن أنيابهم.. ويبرزون مخالبهم الحادة..والويل للضعيف !
جلجلت صفارة الحكم فطار الجميع وتعالى الصراخ.. وغطى طريق السباق غبار كثيف حجب الرؤيا..وتعذر على الحكام مراقبة السباق بدقة. قيل إن الحاج القوالبي سخر الريح لصالحه..فهبت في اللحظة المناسبة لإثارة الغبار الحاجب، وقيل إن المسامري له أيضا يد في ذلك.. الكل لهم أياد..وهو لا يملك إلا رجليه.. فليثر بهما الغبار على طريقته !
المتسابقون يجرون..كل بالخطة التي تمرن عليها.. والقبة في آخر الطريق شعار الوصول..احتد السباق.. وانصبت الأعين على القبة..لم تعد تبصر شيئا آخر.. القبة ولا شيء غير القبة.. !!
حمى السباق أكثر..نظر حواليه بحذر وخوف..فلم ير إلا وجوها كالحة..الزحام على أشده بين المتسابقين، يتدافعون بالمناكب، ويتصارعون بالأيدي.. التفت الساق بالساق.. اشتد الصراع.. استعملت المخالب والأنياب..جميع الطرق مشروعة مادام الغبار يحجب الجميع.. والمناسبة سانحة للعمل في الخفاء.
المعلم المسامري يعيق السير بزرعه المسامير الحادة في طريق السباق..مسامير تنغرز في أقدام المتسابقين غير المحنكين..فيعلو صراخهم.. وينسحبون متألمين.
الزعيم بوكرش يرمي بقشور الموز فتتزحلق الأقدام.. وينزاح الكثير عن الطريق.
صاحب اللحية ذو اللسان المغناطيسي يجري ويزعق في وجوه خصومه.. يتلو التعاويذ ويشتت تركيز المتسابقين فتنهار نفسياتهم.
الحاج القوالبي يجري بدوره رغم كرشه المترهلة.. يحمل معه قوالب سكرية يرمي بها من ورائه لعرقلة جري الخصوم.
الجري على أشده..الأنفاس تتلاحق..واللهات يتصاعد.. وهو يجري ويجري.. المسامير تدمي قدميه فلا يأبه لها.. وقشور الموز تكاد تزلقه فيروغ عنها.. وتعويذات صاحب اللحية يصم عنها أذنيه فلا تنال منه.. أما القوالب فيقفز عليها بخفة فيتجنب صدمتها.
يصمم على الصمود.. ويضاعف من سرعته.. ويقرر التفوق على الجميع.. لهاث المعلم المسامري يلفح رقبته.. فيزيد من سرعته.. يبتعد عنه كثيرا.. ينسى دماء قدميه.. يتفوق عليه. يلتحق بالزعيم بوكرش.. قشور موزه نفذت.. لم يعد يملك سلاحا..صار أعزل.. يتجاوزه بسهولة ويتركه وراءه. يقترب من صاحب اللحية ذي اللسان المغناطيسي.. لم يعد يهتم بتعويذاته.. ولا بلسانه الطويل الذي يحاول به عرقلة قدميه.. يرفس لسانه..يقفز..يتخطاه..وإذا بصاحب اللحية خلفه بعيدا.. لا يصله إلا صوته المغمغم باللطيف.
يستمر في الجري.. تتلاحق قدماه الحافيتان..يتلاحق جريه.. تتزايد سرعته.. يقترب من القبة تدريجيا.. يغمض عينيه ويحلم بالفوز.. تزداد كثافة الغبار..يعلو الصراخ..تختلط الأصوات..الأصوات مهمة في هذه اللحظات.. أصوات مشجعيه الذين وعدوه خيرا.. يستمر في جريه.. خط النهاية يقترب.. حجم القبة يكبر.. لم تبق إلا أمتارفيلامس جدرانها.. يتفقد الحاج القوالبي فلا يجده..لقد أخفاه الغبار.. ربما بقي بعيدا في الوراء.. المهم أنه يقترب .. سوف يصل في لحظات..سيفوز.. منظمو السباق سيستقبلونه استقبال الأبطال.. ويخلعون عليه إكليل النصر.. عفوا ! بل سلهاما أبيض ناصعا وطربوشا أحمر فاقعا..لباسا يقيه من نزلة برد بعد سخونة السباق.. سيدخلونه القبة ليستريح من الجري.. وربما سينام قليلا.. ما أحلى النوم داخل القبة.. جدرانها تحمي من لفحة الرمضاء.. وكراسيها وثيرة تغري بالاسترخاء..يعود إلى جريه.. لم تبق إلا مسافة قليلة.. هاهو خط الوصول أخيرا..يطمئن إلى الفوز.. مشجعوه سيفرحون.. لأنه سيدعو لهم داخل القبة..ويقتسم معهم الجائزة..هم أصحاب فضل عليه.. لن يتخلى عنهم.. والقبة كلها بركة.
بقيت خطوة واحدة..خطوة ويفوز.. يمد قدمه..يرفع ذراعيه كما يفعل الأبطال عند تأكدهم من النصر..تعلو شفتيه ابتسامة لاهثة..يصل إلى خط النهاية..يكاد يلمس شريطه بصدره..
وفجأة..يحس بشيء صلب يعرقل قدميه.. يحاول أن يتخطاه فيعجز..يسقط بقوة.. يرتطم جسده المنهك بالأرض الصلبة..يحاول النهوض ليلمس شريط النهاية..لكن الشيء الصلب يكبل قدميه..يتلاشى الغبار..تتضح الرؤيا.. يظهر الحاج القوالبي وقد اجتاز خط الوصول وربح السباق ثم لبس سلهام الفوز.. ينظر إلى حمرة طربوشه فينتبه إلى حمرة دمه النازف من قدميه.. يتلمسهما فيكتشف قالب سكر كبير لم ينتبه إليه في اللحظة الأخيرة فـــ..فــ ..عرقل سيره !!
محمد فـــري - المغرب