سيدي الشيخ علي مديد القامة، يمشي بتؤدة، وعيناه تنظران بعيداً، في ظهره انحناءة طفيفة، عصاه على كتفه وقد علّق فيها (بقجة) ملابسه (ثوب أبيض، وسجّادة صلاة عتيقة، وسواك، وبعض البخور).
من عادته أنه يحني جسده قليلاً، ويمّر براحة يده على رؤوسنا نحن الصغار، وهو يتمتم بآيات من الذكر، أو الأدعية، يبارك أعمارنا، ويرجو من الله لنا التوفيق والهداية، وحسن الطالع.
أخبرتني خالتي (فضّة) أن الشيخ علي اعتاد زيارة قريتنا (ذكرين) قبل اللجوء، وأنه سعى لمعرفة إقامتنا بعد نكبة عام 48، وبعد تعب اهتدى لمعرفة عناوين أهل قريتنا فأخذ يزورنا في مخيماتنا، فنحن، كما تقول خالتي: تفرّقنا يا حسرتني، وكأننا أهل يوم القيامة، فبعضنا في مخيّم (النويعمة)، وبعضنا في مخيّم (الدهيشه)، وبعضنا في مخيم (الفوّار) وبعضنا في مخيم (عين السلطان) وهو المجاور لمخيمنا (النويعمة)...
هو يأتينا بأخبار أقاربنا، وجيراننا الذين يزورهم في كل عام، فهو يقسّم عامه على زيارات للجميع والاطمئنان على أحوالهم. يكتب الأدوية الشافيّة لمرضاهم، وينصح النسوة بالتقى، ورعاية الأبناء والبنات والأزواج، وقد يكتب (حجاباً) لإحداهن ليحبّها زوجها، ولأخرى لتنجب إن شاء الله، ولكنه يأبى أن يكتب ما يفرّق، أو يثير الغيرة والحسد، أو يوقع الأذى. ينصح دائماً بالابتعاد عن الحسد، والكيد، والنفث في العقد (من شرّ النفّاثات في العقد، ومن شّر حاسد إذا حسد(.
كان ينظر إلي بشيء من الحزن، ثمّ يمسّد على رأسي ويدعو الله أن يحميني، فهو يعرف أنني ابن (زينب) التي ماتت في (بابور الطحين)، ودفنت هناك في قريتنا، وبجوارها أختي الصغيرة (معزوزة) التي لحقت بها بعد شهرين... جرؤت مرّة، وقد رأيته يضع عصاه على كتفه، ثمّ يمشي ببطء مبتعداً، بعد أن ودّع جمهرة النساء ـ الرجال يسرحون مع الفجر ويعودون مع غياب الشمس، وبعضهم يشتغل في مزارع الموز، في منطقة (العوجا) على طريق نابلس، أو مشروع (العلمي) شرقاً باتجاه الجسر قرب نهر الأردن ـ على مناداته بلهفة:
ـ سيدي الشيخ علي انتظر...
توقف في ظل دار (أبو غيث) الصرفندي، فالطقس حّار والشمس تشوي الرأس، حتى وإن كانت على رأس الشيخ علي عمامة.
اقتربت منه، وقلت له وأنا أرتجف:
ـ سيدي الشيخ علي، أنا باحب البنت (...) وبدّي منّك تعمل لي حجاب علشان تصير تحبني...
سألني وقد وضع راحته الكبيرة فوق رأسي:
ـ أنت ابن المرحومة زينب!... البنت ما بتحبّك؟
ـ بعرفش، أنا باستحي أسألها!.
ـ خلينا نحسب حروف اسمك واسم أمّك، ونشوف برجك...
أخذ يحسب الحرف، ثم تنهّد ونطق بسّر البرج:
ـ برجك (ناري)، يعني لازم يكون برج البنت (ترابي) أحسن بعدين تحرقوا بعض.. فاهم؟ إذا برجك ناري وهي برجها ناري مثلك بتحرقو بعض.. روح اعرف لي اسم أمها، وبعدين السنة الجاية لمّا أزوركم تخبرني به، فإن كان برجها ترابي نفعل ما يقدرنا الله عليه، لأنها ستكون مناسبة لك...
مشى الشيخ علي بخطوات قصيرة ثقيلة، وتوارى في منعطف الشارع، أمّا أنا فلبثت حائراً، أفكّر في كيفيّة معرفة اسم والدة (...) شقيقة زميلي وصديقي (هاني) في المدرسة، وفي نفس الصّف، حتى أننا نجلس دائماً متجاورين على نفس المقعد.
لم يعد الشيخ علي في العام التالي إلى مخيمنا، ولم نعرف ما جرى لـه، فنحن تشتتنا، ورحلنا عن مخيمنا، فمنّا من أقام في مخيمات عمّان، ومنّا من رحل إلى مخيم البقعة، ومنّا لا ندري أين انتهت رحلة تشرّده...
ظلّت (...) في بالي كل هذه السنوات، حتى بعد زواجي، وإقامتي في بيروت، ودمشق، وتونس، والعودة إلى عمّان بعد غربة عشرين عاماً.
وأنا أهبط السلّم الكهربائي في (السيف وي)، رأيتها، إنها هي، والله هي!
أردد في سري هي، وقلبي يخفق بقوة، وارتجاف، ووهن، وفرح، ولخبطة، ورغبة أن أندفع وأحملها بين يدي وأدور بها صائحاً: والله العظيم هي، بعد كل هذه السنوات، هي والله العظيم، هي بلونها، بوجهها، بنظرتها التي اخترقت قلبي وجعلت روحي ترفرف كالعصفور، هي التي ضربت.. ماذا أقول؟!.. ضربتني، صعقتني.. بنظرة حبّ من لمّا كنت في أوّل المرحلة الإعداديّة، وحتى السنة الدراسيّة الأخيرة سنة التوجيهي...
ثلاث سنوات من الحبّ الصامت، من ولـه بها، من نظرات قلبي وعيني وروحي اللهفى، من استغاثات بأن تبتسم لي وتقول لي كلمة واحدة تجعلني أطمئن وأهدأ، ويسكن قلقي...
أقترب، لا كما عهدتني متردداً، وأهمس باسمها، فتتراجع خطوتين وتبتسم، ثمّ تضحك، وتضرب كفّاً بكّف:
ـ أنت!.. يااااه.. بعد كل هالعمر!
وقفت ذاهلاً أتأمّل وجهها.
ـ لم تتغيّر كثيراً، شويّة شيب على الصدغين، و..
أين كنت، هل تزوجت، لماذا لم تسأل عن، عن.. أخي صاحبك و..؟!.
وبدون وعي أسألها:
ـ ما اسم أمّك؟
تضحك بصوت عال دون اهتمام بالناس المتسوقين...
ـ لماذا تسأل عن اسم أمي؟!
ـ لأن الشيخ علي..
ـ الشيخ علي، أي شي علي؟!
ـ الشيخ علي طلب منّي أن أعرف اسم أمّك!
ـ اسم أمّي..
ـ تلك حكاية قديمة.. تصوري لقد تعلّمت من كتاب (أبو معشر الفلكي أن أعرف أبراج المحبين و...
ـ أنت!
ـ أنا..
ـ قرأت لك مقالات، وقصصاً، ورأيتك مرّة على التلفزيون، وسمعت أخبارك و...
ـ ولكن: ما اسم أمّك فعلاً؟
ـ نعمة..
ـ ياه، لقد خجلت أن اسأل شقيقك صاحبي عن اسم أمّه، والشيخ علي لم يعد في السنة التالية، لقد وقعت حرب 5 حزيران و.. تفرّقنا...
حسبت أرقام اسم أمّها بسرعة، ووجدتني أتمتم:
ـ برجك ترابي، يعني لو لم تقع حرب (حزيران)، ولو عاد الشيخ علي، حتى لو لم يعد، لكنّا، أقصد كنت لا أجرؤ أن أقول لك بأنني، ولكن لو لم يفرّقنا (حزيران) لكنت تشجّعت وقلت لك بأنني...
ـ بأنك ماذا؟!
ـ بأنني كنت...
ـ كنت؟!
ـ وما زلت، وسأظلّ..
التفتت حواليها، ثم لفّت جسدها وكما لو أنها تقوم بنفس الحركة عندما كانت تخرج من بوّابة مدرسة البنات لتبحث عنّي بعينين تمسحان زوايا الشارعين المتقاطعين أمام المدرسة، وأشارت بيدها لأحدهم، فبادر للاقتراب منّا شاب مديد القامة، عرّفتني به:
ـ ابني...
ذكرت اسمه المطابق لاسمي، فمّد يده، فهمست له باسمي بحيث لا يتبيّنه تماماً، هو غير المعني بهذا (العّم) الذي ظهر فجأة:
ـ الأستاذ (...) من مخيمنا، صديق خالك، وجارنا أيّام مخيّم (النويعمة)، مخيمنا الذي حكيت لك عنه، القريب من أريحا.. ما أحلاها تلك الأيام، أيّام (النويعمة) و(أريحا)! كنّا نعيش على الأمل، لكنها راحت...
قال بلامبالاة:
ـ تشرفنا..
وإذ ابتعد الشاب متشاغلاً بتناول حاجيات عن الأرفف، شعرت بأن ناراً تندلع في جوفي، في رأسي، في يدّي، في ساقي، في شراييني...
أيقظني صوتها القلق:
ـ أتشكو من شيء؟
ـ الشيخ علي أخبرني أن برجي ناري، وأنني بحاجة لمن برجها (ترابي)...
لمّا عاد ابنها، ومدّت يدها تودّعني، شدّت على يدي وكأنها تعد بأننا سنلتقي...
رأيتها تخرج من الباب إلى الشارع لتختفي مع ابنها في سيّارتهم الخاصة، ثمّ لتحين منها نظرة، نظرة من نظرات أيام زمان، أيّام خروجها من بوّابة المدرسة، نظرة انتظرتها بلهفة خمسة وعشرين سنة...
وإذ توارت السيّارة، وغابت الابتسامة، داخلني شعور بأنني توهمت كل الذي جرى...
انزلق جسدي بجور الجدار، وتكومت على نفسي وداخلني شعور بأنني أتحوّل إلى كيس من الرماد بعد سنوات من الشوق والاحتراق...
آخ يا سيدي الشيخ علي، أكان لا بدّ أن يدهمنا 5 حزيران ليبددنا؟!...