أن نحصر دائرة الحوار في الفكرين الفلسفي والكلامي في الإسلام لا يعني البتة التقليل من شأن العلوم الإسلامية الأخرى في هذا الباب. من ميزة الاستبصار الوئيد التذكير بأن علم التصوف الذي عارض كل محاولة لتقريب السر الإلهي بالنظر (فلاسفة، معتزلة...)، نجح في تجذير خطابه في البيئة الإسلامية وتكثير مريديه وأتباعه بالرغم من غموض لغة المتصوفة وغرابة بعض أفكارهم ونهلهم من المصادر الغنوصية، وعواصة طريقهم الذوقي بحيث لا يقوى على تحمله وقطع جسوره إلا من سكنه عشق الوصول([1]). ولا بدع من ضرورة التمييز هنا بين التصوف من حيث هو فكر وعلم، والطرق الصوفية من حيث هي ظواهر اجتماعية مكتنزة بتمثلات للقداسة وما يتعلق بها من شعائر وطقوس.
ليس يخفى على ذي تحصيل من تشعب قضايا الخلاف بين المتكلمين والفلاسفة في الفكر الإسلامي الوسيط، لكن الجانب المنهجي المتمثل في إشكالية الاستدلال يحتل حيزا هاما في تلك اللجاجة التي مجتها الآذان قبل أن تملها القلوب. فإلى أي حد يصح القول بأن ما عابه الفلاسفة على المتكلمين سقطوا فيه عنوة ؟ ما فضائل الحوار ؟
أن نتحدث عن مسألة الحوارية في علم الكلام والفلسفة الإسلامية يعني أن نبرز بعضا من فوائد الحوار، وإلا راكمنا التسميات وعددنا الحدود وانتصرنا لجهة على أخرى بدون تبرير أو تسويغ.
دائرة الحوار هي دائرة الممكن، دائرة ما يتطلب إنجازه أخذ الآخر بعين الاعتبار متعاونا أو منازعا أو مسترشدا... وخارجها نقتحم خانة المطلقات بادعاء المعرفة الكاملة والسعي لفرضها على الآخرين تحت طائلة العنف أو الإكراه والتهديد...
إن التقري الغائر للحوار يفضي إلى اعتباره انفتاحا تمعن فيه الأطراف الإصغاء إلى بعضها إصغاء بدون نية السيطرة أو الاحتواء "إنه تعرف متواصل على الذات وعلى الآخر في استرسال تفاعلهما، وتقويض لكل نزوع يقضي بتوحيد الذات في ذات واحدة أو بتذويب وعي كل منهما في وعي الآخر"([2])، وعلى هذا الأساس، فانتهاء تجربة حوارية إلى توافق ما لا يشكل اجتثاثا للاختلافات، اعتبارا أنه إحالة خفية على تعدد الذوات وتقطبها Polarité، إن من يسعى إلى قطع دابر الاختلاف لا يعدو كونه ينتج مونولوجا يناجي من خلاله ذاتيته المتقوقعة على هويتها، وحال هذا أنه سيعاود إنتاج حقائقه الجاهزة([3]).
من المتواضع عليه أن الحوار لا يوجد إلا حيث يوجد الاختلاف في طرق البحث، ولئن ثبت بالدليل العلمي أن الحقائق تتغير وتتجدد، لزم تعدد السبل الموصلة إليها "وحيثما وجد التعدد في الطرق فثمة حاجة إلى قيام حوار بين السالكين لها"([4]).
غير خاف أن الحوار بمقتضى طبيعته الاستدلالية يدفع ما لا دليل معه كالعنف، أو ما كان دليله تحكميا كالخلاف، أو ما كان دليله فاسدا كالفرقة([5])، وغير خاف أيضا أنه مع مرور الوقت يسهم الحوار في تقليص شقة الخلاف بين المتحاورين، بحيث يتخلى كل طرف عن إمبرياليته ونظرته الإقصائية، ويتبين أحدهما بالحجة الدامغة ضعف أدلته على منزعه ووجاهة رأي وسداد أدلة خصمه "فإذا أنزل الخلاف منزلة الداء الذي يفرق، فإن الحوار ينزل منزلة الدواء الذي يشفي منه"([6]).
بفضل الحوار تتوسع مدارك العقل الإنساني، فهو نظر من جانبين (مناظرة)، وليس يستوي النظر من جانب واحد مع النظر من جانبين، ولما كان ممارسة تذاوتية (Intersubjectivité)، أفضى إلى بناء أشكال من التفاهم التي لن يكون فيها كل طرف إلا غير ما كان عليه عند انطلاق الحوار.
غاية القول الذي نروم زمه بزمام الاقتضاب هو أن الحوار مطلب إنساني وضرورة حضارية، لا مندوحة من ركوب سبيله لاكتساب المعرفة ودرء آفات التحصيل، ذلك أن إغلاق بابه وسد نوافذه والإخلال بأدبه يؤدي إلى طمس معالم العقلانية والاقتناع بما دونها من الوثوقية والاستعلاء.
تبين من خلال دراسات حديثة أن الجدل والمناظرة والحوار من أهم مميزات الخطاب الكلامي في الإسلام، كما أن البرهان منهج الفلسفة المفضي إلى اليقين ارتياضا عبر الجدل.
فالفلسفة كما هو متداول بنت "اللوغوس"، قضاياها مثبتة بأدلة العقل القاطعة أو بما يسندها من شواهد الواقع الساطعة.
قد يكون الموضوع الذي يشتغل به الفيلسوف المسلم سببا رئيسيا في نزعته الاستعلائية بل وفي أخطائه، يتعلق الأمر بادعاء الحقيقة المطلقة الثابتة التي جعلت الفارابي مثلا في رسالته "الجمع بين رأيي الحكيمين" (عبر كتاب أتولوجيا المزيف) مقوضا وحائلا أمام رغبة الفقهاء في القول بوجود فلسفات متعددة ومتعارضة([7])، وما يثير دهشتنا حقا هو إلحاح المعلم الثاني على إيجاد أرومة واحدة لتصورات أفلاطون وأرسطو رغم خروج الثاني عن كثير مما دبجه الأول في محاوراته (يقول الأول بالمثل بينما الثاني بالمادة والصورة، يقر أفلاطون بخلود النفس بينما يجعلها أرسطو فانية بتلاشي الجسد...).
بعد موت أرسطو دخلت الفلسفة اليونانية خريفها فتسربلت بسربال الشرح والتوفيق والحشو (الزمن زمن شرح)، ويعد ابن رشد أعظم من اشتغل على النسق الأرسطي بالبيان والتبيين عبر منهجية ثلاثية في الكتابة (جوامع، تلاخيص، شروح كبرى)([8])، كان لها ما بعدها فيما عرف بالرشديات اللاتينية في عدة مراكز أوروبية (باريس، أكسفورد، كراكوفا...) ([9]) (*). ولعل حرصه الشديد على تطهير الأرسطية مما علق بها من شوائب وإضافات الشراح عربا وعجما، كان وراء رفضه للبدائل الأنطولوجية عليها في ظرفية زمنية بخصوصيات مخالفة لما اعتمل في بيئة اليونان (الوحي المسيحي والإسلامي، الفتوحات...). وتكاد سلفيته الدينية المتمثلة في رفضه التأويلات الإنسانية الجدلية للوحي الإلهي، تضارع سلفيته الفلسفية التي وقفت عقبة كؤودا أمام التأويلات الإنسانية الجدلية والفلسفية لفلسفة أرسطو([10]) (إعجابه بنصوص أرسطو جعله يقدسها إلى درجة تفسيرها بعشق وتماه يقوده أحيانا إلى وحدة وجود باعتبارها بوابة نحو الفناء). لذا فالمشروعية تعطى للفكر الفلسفي المتعبد بأرسطو فقط، وخارجه ظنون مهما تمحل أصحابها في إكسابها طابع الصحة. بهذه الطريقة إذن زج الفيلسوف المسلم بنفسه خارج قضايا مجتمعه في تعلقه بالعقل الفعال(**) كأفق تفسيري للظواهر الإينولوجية والأنطولوجية والمنطقية والمعرفية، ويكفي أن نذكر هنا إخفاق ابن رشد في حل معضلة الفعل الإنساني عندما انتهى إلى موقف جبري متأخر بالمقارنة مع نظرية "الكسب الأشعرية"، مع فارق بقائه وفيا للرؤية الطبيعية الأرسطية خاصة وللكوسمولوجية اليونانية عامة([11])، وتقديم طرحه في قالب قياسي منطقي ("الأسباب التي من خارج تجري على نظام محدود وترتيب منضود... بحسب ما قدرها بارئها عليه... إرادتنا وأفعالنا لا تتم... إلا بموافقة الأسباب التي من خارج، فواجب أن تكون أفعالنا تجري على نظام محدود")([12]).
وتأسيسا على ما تقدم يمكن القول بأن الفيلسوف أبعد ما يكون عن الحوارية والانفتاح، وأقرب ما يكون إلى الوحدة التي لا مكان فيها للطعن أو الرد. وحتى لا نتجنى على فلاسفتنا لنمض في بيان حجاجية الخطاب الفلسفي.
كل ما يصاغ باللغة الطبيعية يحمل خاصية حجاجية، تدنو الفلسفة -وهي جنس حواري في الأصل بدليل أن السقراطية والأفلاطونية نسجت لحمتها من خلال الحوار مع الآخر للوصول إلى الماهيات- من العلم الدقيق الذي أبدعته الذات فصار من دون ذات، لكن لا مناص من إشاريات اللغة عند عرض الأطروحات وإقناع الغير بها "فالفلسفة الواعية بأصولها الطبيعية والتداولية لا تبغي بمسالك الحجاج بديلا، لأنها وحدها الكفيلة في إطار مجال التداول ومقتضياته التفاعلية بأن تحصل الإقناع وتدفع إلى العمل"([13]).
تتعدد الأسباب لتبرير التحصن ببرهانية الفلسفة (فلاسفة كثر توسلوا بآليات تخييلية في التبليغ كحال ابن طفيل في رائعته "حي بن يقظان"، وغيره، الذين وظفوا جوانب أسطورية ككانط Kant في توسله بأسطورة Gygès لبيان صفاء الواجب الأخلاقي المنزه عن كل غرض، وأفلاطون بقصة الكهف...أصحاب الكتابة الشذريةAphoristique ...) منها الاعتقاد في علمية المقال الفلسفي وتسليط أدوات المنطق على القسم الميتافيزيقي منه، والاحتماء بالبرهانية تلافيا لضربات الفقهاء... ([14])، وبالعودة إلى أرسطو نجده قد أخفق في مسعاه لتأسيس الفلسفة على البرهان، فعمليا وعكس ما كان يصرح به لا نصادف إلا جدلا ومدافعة([15])، مرد ذلك إلى طبيعة المواضيع التي تدرسها الفلسفة والتي تتسم بالكلية (لا علم إلا بالكليات) لاسيما في الإلهيات فلا يقين بصدد الموجود بما هو موجود (اليقين صفة العلوم الجزئية المتخصصة في قطاع ما) "لأن العقل البشري يحكم على الأشياء من خلال مقولات وأجهزة وحواس وأسماء وتعاريف وبراهين... وهذا لا يجوز ولا يليق أبدا بمعرفة المبدأ الأول، فهو خارج عن المقولات واللغة والبرهان والتعاريف"([16])، وهذا بالضبط ما أكده صاحب الفلسفة النقدية (Kant) في تمييزه بين النومينNoumènes والفينومينPhénomènes ، ذلك أن العقل خارج إطار الحدوس الحسية لا ينتج إلا المفارقات والنقائض، ولذا فمواضيع الله، النفس، والحرية مسلمات لقيام تجربتنا الأخلاقية (مواضيع نفكر فيها دون أمل معرفتها).
لا تخطئ العين الفاحصة كون ابن رشد جسد نموذجا للانفتاح الحضاري في دعوته للامتياح من مكتسبات السابقين([17])، وفي دفاعه عن ضرورة التعدد والاختلاف في فهم المتشابه من آي القرآن، لكن متى علمنا أنه كان يسوي بين البرهان والتأويل، تفطنا إلى أن دعوته تصير لاغية، لأن البرهان شأن الخاصة، هذا علاوة على أنه لا يسمح إلا بحقيقة واحدة لا مجال لتعدد الآراء فيها([18]). ويذهب أبو الوليد أبعد من ذلك في تحريمه النظر العقلي على غير الخاصة وتكفيره لكل من أذاع القضايا النظرية في الكتب الموجهة للجمهور ونشرها بينهم كما فعل الغزالي مثلا([19]). بهذه الكيفية إذن حصر العقل النظري في قلة من الناس تستطيع من خلال الاتصال بالعقل الفعال نيل السعادة دون غيرها. وغني عن القول أن انقسام الشرع إلى باطن وظاهر عائد إلى تباين فطر الناس واختلاف قرائحهم في التصديق.
مقتضى ما سبق أن ابن رشد لم يكن محققا للمجتمع المفتوح في الإسلام "إلا بقدر ما كان يتنفس بخياشيم المتكلمين في كتبه الجدالية والسجالية" التي انتقد فيها بالخصوص الأشاعرة([20]).
يفيدنا علم الكلام حقيقة كبرى مؤداها احتفاؤه بالاختلاف داخليا وخارجيا في تنقيح وتعديل مستمر لخواطر الفكر. ولعل هذه التعددية لا تطعن في الدين في شيء مادام الاجتهاد الكلامي تأويلا بشريا للقول الإلهي، وإلا انطبع بطابع القداسة التي سرعان ما تصير مدنسة عند تدخل الحسابات السياسية والإيديولوجية.
لا غضاضة في القول بأن النص الكلامي نص جدلي بامتياز، فلا يجترح المتكلم نمطا إبداعيا إلا وفي ذهنه حضورا للآخر (الفيلسوف نظر إلى الآخر باعتباره قاصرا بالمعنى الكانطي للكلمة)، ولذلك يسلك أحد أمرين إما الهدم (إبطال حجج الخصم) أو البناء (إيراد حججه هو) مع العلم أن ما يخوض فيه يقيني وليس ظني (مجال الفقه)([21])، إن الحق واحد ومن الواجب الاحتجاج له بما يناسب. ومتكلمة الإسلام كانوا في حرص شديد على التمييز في الحكم على المخالف للمذهب بين التخطيء والتكفير، فالأول حكم عقلي والثاني شرعي.
تحصل أن علم الكلام خطاب حواري رائد لذا وجب القيام بإحيائه وتفعيل دوره في المجتمع العربي المسلم "فهو وحده القمين بوقف امبريالية التطرف العلماني من جهة، والتطرف الإسلامي الذي يدب في أوصال الحركات الإسلامية المعاصرة التي تلتقط ذبذبات الدعوة الوهابية السلفية... الحنبلية النقلية المحافظة"([22]).
ورغم التفاوت في تحقيق الحوارية فلسفيا وكلاميا، فإن ما ينبغي التشديد عليه هو تجنب القراءات الإسقاطية والإيديولوجية التي تتم لنصوص التراث، إذ تظهرها في صيغة مشوهة وجبة مرقعة لا تخدم إلا حقائق جاهزة سلفا.
من بين القضايا التي اعتمدت مادة حوارية بين الفلاسفة وعلماء الكلام مسألة الاستدلال، ولئن كنا قد بينا سابقا حدة توهين الفلاسفة لمنهج المتكلمين "قياس الغائب على الشاهد" القائم على أساس التمثيل، فإننا نطمح إلى فحص مصداقية هذا الادعاء عند ابن رشد، فكيف ذلك ؟
كشفت الدراسات المنطقية واللسانية المعاصرة عن استحالة الاستغناء عن قياس التمثيل(*) لكل من يتصدى خاصة للقضايا الفلسفية والكلامية، بحكم تجذره في بنية اللغة الطبيعية، وهذا ما يجعله حاضرا بالضرورة ومتداولا ليس بين المتكلمين فحسب، بل بين أشهر معارضيه ومنتقديه من الفلاسفة([23])، ولا أدل على ذلك من أن أبا الوليد في نقده لدليلي المتكلمين (دليل الحدوث ودليل الجواز) لجأ إلى الشاهد لتحصيل معرفة ما بالغائب (دليلي العناية والاختراع) (**). إن المتصدر لمسألة الألوهية ليس أمامه غير موقفين اثنين، إما نفي إمكانية كل معرفة إيجابية بها وإما القول بهذه الإمكانية وإثباتها (معرفة إثبات بلا كيف)([24]). لا يني الفلاسفة المتحمسون لمنطق بالبرهان في التفكير تمثيليا أثناء تحليل الظواهر الثقافية والحضارية، فالفارابي مثلا وهو يفكر في المدينة يقارنها بالمنزل والبدن، كما أن الاجتماع البشري يكون فاضلا إلا إذا كان على غرار نظام العالم، وقل مثل ذلك في خصائص الرئيس الفاضل الذي يجب أن يقتدي بعمل مدبر العالم. أما بالنسبة لابن رشد فنلفيه يستخدم كل أشكال القياس التمثيلي(*) في كتيبه "فصل المقال" مثل "قياس المساواة": ضلال بعض الفلاسفة كقلة تورع بعض الفقهاء([25])، و"قياس الأولى" "ليس من الصنائع صناعة يقدر أن ينشئها واحد بعينه، فكيف بصناعة الصنائع وهي الحكمة([26])"، هذا علاوة على استثمار مختلف وسائل اللغة المفيدة للتمثيل (كاف التشبيه، بالحري، بالأولى، إنما كان هذا التمثيل يقينيا...). واستنادا إلى ذلك تراجع ابن رشد عن التمثيل بالصناعات النظرية (علوم التعاليم) لفائدة التمثيل بالفقه، فكيف يحتاج علم أعلى (الفلسفة) إلى علم أدنى لتبرير مشروعيته وقيمته؟ إنه يحتاج إلى مثل ذلك لأن المخاطب جمهور إسلامي([27]).
إذا كانت الفروقات بين التمثيل والبرهان صارت من قبيل المشهورات، فإن الانتصار للبرهان معناه الاعتقاد في معقولية العالم وقدرة الإنسان على صياغة قوانينه في استقلال تام عن الشريعة، أي إمكان قيام انطولوجيا يشترك فيها الجميع (إثبات حق العقل في تأسيس مجاله المعرفي الخاص به المستقل بأدواته ومناهجه وموضوعاته عن مجال العلوم الشرعية)، وعلى النقيض من ذلك، لا تسمح الرؤية التمثيلية للعالم (المعتمدة الخيال والتناسب والاشتراك في الاسم أدوات أساسية لها) إلا بقيام علم خاص له موضوعه الوجود الإلهي (علم الكلام)، بالإضافة إلى نسبة الفعل والوجود والإرادة والقدرة لله فقط وما يترتب عن ذلك من إلغاء للسببية الطبيعية والضرورة العقلية والإرادة البشرية، فينتج عن ذلك استحالة قيام أي علم من العلوم([28]).
تولى ابن رشد الرد على السوفسطائيين والحكماء الذين سبقوا أرسطو، وعلى شراحه كتامسطيوس... والفارابي وابن سينا اللذين دمجا الكلاميات والأفلاطونيات في الفلسفة الأرسطية، وجاء برد منسق على المتكلمين عموما وعلى الأشاعرة منهم خصوصا، وعلى الغزالي من هؤلاء بالأخص. في هذا السياق تنتضد مراتب التشنيع الرشدي من أدنى إلى أعلى: تشنيع فكري استحقه الفلاسفة في مزجهم لفلسفة أرسطو بأصول أخرى، تشنيع عقدي لمن خاض في قضايا العقيدة متعمقا ناقلا خوضه إلى الجمهور، فأساء إلى معتقداتهم مفرقا إياهم في شيع (الأشاعرة)، تشنيع مركب استحقه من عارض الاشتغال بالفلسفة وحمل على أهلها مصرحا للجمهور بأدلة حملته العقديـة على الفلاسفـة (الغزالي الذي أفصح عن حب أفلاطوني للفلسفة وعن كره للفلاسفة)([29]). وبما أن المضمون الفلسفي لا يتولد ولا يتوالد إلا بآليات حجاجية، فقد وظف ابن قرطبة التقنيات الاعتراضية التي مارسها المتكلمون من نقض ومعارضة وتسليم جدلي وتفريق... ([30]) سالكا مسلك التشنيع في عدة ألفاظ وعبارات (الحماقة والجهالة والهذيان والتمويه والتفاهة والبدعة والكفر...)([31]) تخرم أصول التناظر والسجال العقلي، وعلى ذات النحو، استخدم ابن حزم في موسوعته "الفصل" التجريح بكثافة (أوصاف قدحية كالتخليط والحمق والجنون والفحش...)، لتهفيت دعاوى الخصوم وإنتاج التناقض فيها، وفي هذا التعصب ضرب لمبدأ النسبية في الأفكار خلافا للشهرستاني في "الملل والنحل" الذي عرض لمذاهب الفكر والدين بحد من الموضوعية معتبر([32]).
يصح القول على هدي النماذج التناظرية والجدلية في الإسلام أن الحوار ليس منظومة متعالية من المعايير والأخلاقيات يحرص المتفاعلون على أن تكون محاوراتهم متطابقة معها بنحو من الأنحاء. التناظر أساسا ممارسة تفضي إلى مآلات تفصح عن رؤية للوجود تبعا لتفاوت الشروط والاعتبارات التي تستحكم في المتحاورين، وتبعا لتباين مقاصدهم.
وصلا بما سلف وفي سياق إبراز العلاقة بين المنطق اليوناني والمنهجية الأصولية. عمل الباحث المغربي حمو النقاري على تدقيق القول في موقفي الغزالي وابن تيمية من منطق أرسطو، فمطالبة حجة الإسلام بتوظيف القياس اليوناني انصب بالأساس على النظرية القياسية التحليلية غافلا عن قواعد التدليل في الخطابة والجدل. وهو ذات الأمر ينطبق على ابن تيمية في اعتراضه على الأورغانون، ذلك أنه لو رجع إلى قواعد التدليل الجدلية والخطابية الأرسطية لأدرك موافقة هذا المنطق النسبية (جانبه الجدلي والخطابي) للمنهجية الإسلامية في تقنين الاستدلال الشرعـي([33]) (*)، ومن هذه الزاوية يجوز اعتبار تقويم الجابري لمنطق العرب بالبيانية في مقابـل برهانية الفكر اليوناني حكما استقرائيا عاما، فقياس التمثيل ممارسة طبيعية بين جميع الشعوب وليس خاصا بالعرب وحدهم.يقول دوركايــم Durkheim:
L’analogie et une forme légitime de la comparaison, et la comparaison est le seul moyen pratique dont nous disposions pour arriver à rendre les choses intelligibles([34]).
إذا كان الفلاسفة (أفلاطون، أرسطو، الفارابي، بيرلمان...) قد ميزوا بين أنواع الخطاب كيما يحددوا أيا منها يهدف إلى الحقيقة أو إلى الزيف والضلال، فإن المستقر الآن أن أنظمة التواصل تغيرت كثيرا، إذ نحن أمام حدث تاريخي يجسده تراجع دور اللغة والكلمة وظهور أشكال ما بعد اللغة، لاسيما الثقافة البصرية في ظل الثورة الرقمية كإبدال جديد في حياة الإنسان (من الكتابة الحجرية إلى الطباعة فإلى الرقم). استعاض المعاصرون عن سكونية اللغة في الإقناع بدينامية الصور، فالأخيرة تحتوي على مكونات أيقونية تشتمل على عناصر تصورية (Conceptuelles) بمثابة وسائط (Médiations) للاستمالة لصالح النتيجة المتوخاة. فحيث يكون التواصل يكون الحجاج([35]).
حاصل القول في هذا المقال: لا برهانية الفلسفة، لاحواريتها إلا بقدر ما نسجت على منوال علم الكلام، خصوبة القول الكلامي وحواريته داخليا وخارجيا، اشتراك المتكلمة والمتفلسفة عمليا في الإخلال بقواعد التحاور.
[1] - محمد أيت حمو، ابن خلدون بين نقد الفلسفة والانفتاح على التصوف، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة 1، نونبر 2010، ص: 105.
[2] - محمد الحيرش، "الحوارية أفقا للتفكير". www.fafsafiatbac.blogspot.com. روقب يومه 29/11/2011.
[3] - المقالة نفسها والموقع نفسه.
[4] - طه عبد الرحمان، في أصول الحوار، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة، 2007.، ص: 20.
[5] - طه عبد الرحمان، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المركز الثقافي العربي، الطبعة 2، 2006، ص: 47.
[6] - طه عبد الرحمان، في أصول الحوار، م.س، ص: 20.
[7] - محمد أيت حمو، أفق الحوار في الفكر العربي المعاصر، م.س، ص: 223.
[8] - جمال الدين العلوي، المتن الرشدي، دار توبقال للنشر، ط1، 1986. ص: 136.
[9] - المصباحي، تحولات في تاريخ الوجود والعقل، بحوث في الفلسفة العربية الإسلامية، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1995، الفصل الثالث من ص: 67 إلى 91.
* - بداية العقل الرشدي في العطاء معرفيا عند اللاتين توازيه نهاية له في حضارتنا، ولذا لا يمكن الحديث عن نهاية مطلقة وذاتية للعقل الرشدي وإنما عن نهاية عرضية، أو قل إن النهاية كانت مكانية وليست زمانية. المصباحي، مع ابن رشد، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 2007. ص: 11.
[10] - محمد أيت حمو، أفق الحوار، في الفكر العربي المعاصر، منشورات الاختلاف، الطبعة 1، 1433هـ/2012م. ص: 226.
** - لا يتردد المصباحي في القول بأن نظرية العقل الفعال حالت دون ظهور الشرط الأساسي للأنا أفكر وهو الشك، فلا معنى للشك أمام العقل الفعال الذي يضمن صدق وجود الأشياء والمبادئ والمقدمات العلمية. المصباحي تحولات في تاريخ الوجود والعقل، م.س، ص: 32. مع فلاسفة الحداثة صارت الذات هي المشرع للطبيعة لا قارئة لمعقوليتها المبثوثة من أعالي العقل الفعال أو الموجودة بالاستعداد في العقل الهيولاني. نفسه، ص: 34. وحتى إذا ما افترضنا استخلاص كوجيطو من فلسفة الفارابي فسيكون: أنا أفكر إذن العقل الفعال موجود. محمد أيت حمو، الدين والسياسة في فلسفة الفارابي، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة 1، 2011، ص: 249.
[11] - عبد المجيد الصغير، "مستويات الخلاف ومراتب الإقناع في ثلاثية ابن رشد"، ضمن آليات الاستدلال في العلم، تنسيق عبد السلام بن ميس، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 84، ص: 180.
[12] - ابن رشد، الكشف، أو نقد علم الكلام ضدا على الترسيم الإيديولوجي للعقيدة ودفاعا عن العلم وحرية الاختيار في الفكر والعمل، مع مدخل ومقدمة تحليلية وشروح للمشرف على المشروع محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة تموز- يوليوز، 2007، ص: 189.
[13] - طه عبد الرحمان، في أصول الحوار، م.س، ص: 66.
[14] - نفسه، ص: 62.
[15] - محمد أيت حمو، أفق الحوار، م.س، ص: 234.
[16] - نفسه، ص: 236.
[17] - ابن رشد، فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال أو وجوب النظر العقلي وحدود التأويل (الدين والمجتمع) مع مدخل ومقدمة تحليلية للمشرف على المشروع، د. محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة 4، بيروت، أبريل 2007، ص: 90-91-93-94.
[18] - محمد أيت حمو، أفق الحوار، م.س، ص ص: 255-256.
[19] - ابن رشد، الفصل، م.س، ص: 119.
[20] - محمد أيت حمو، أفق الحوار، م.س، ص: 256.
[21] - محمد أيت حمو، "الجدل واستيلاد اليقين"، مجلة المنهاج، عدد 59، السنة 15، خريف 1431هـ/2010م ، ص ص: 195-196.
[22] - محمد أيت حمو، فضاءات الفكر في الغرب الإسلامي، دراسات ومراجعات نقدية للكلام، دار الفارابي، بيروت لبنان، ومنشورات الاختلاف، الطبعة 1، 2011، ص ص: 148-149.
* - تلعب العمليات التمثيلية دورا بنائيا في العلم، لأنها تقيم قناطر بين ميادين البحث المتقاربة، فيلقح بعضها الآخر، خصوصا في فترات تكون العلوم أو تحولها من إطار نظري إلى آخر. بناصر البعزاتي، الاستدلال والبناء، ط 1، 1997، دار الأمان الرباط، ص: 414.
[23] -عبد المجيد الصغير، "المصطلح الكلامي في الإسلام بين المصدر الاشتقاقي والتداول الاصطلاحي"، ضمن المصطلح في الفلسفة والعلوم الإنسانية، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 42، 1995، ص: 14.
** - دليل العناية لا يفوق دليل الجواز من حيث وصفه التبليغي والتداولي، كما أن دليل الاختراع لا يقل عن دليل الحدوث من حيث عسر إدراكه وخروجه عن طاقة الجمهور، لذلك فقد دخل عليهما ما يدعي ابن رشد دخوله على الدليلين الكلاميين من آفات. طه عبد الرحمان، تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، الطبعة 3، 2007.ص: 168.
[24] - عبد المجيد الصغير، "المصطلح الكلامي في الإسلام بين المصدر الاشتقاقي والتداول الاصطلاحي"، م.س، ص: 15.
* - يجدر التنبيه إلى أن "قياس الغائب على الشاهد" لا يشكل قاعدة ثابتة لدى الأشاعرة ما داموا قد خرجوا عليه بوضوح في عدة طروحات لهم، كتلك المتعلقة بمشكلة الرؤية ومفهوم العدل والسببية وخرق العادات، وهي قضايا قائمة على أساس التمييز والفصل التام بين الغائب والشاهد ونفي المماثلة بينهما. ع. المجيد الصغير، "المصطلح الكلامي في الإسلام"، م.س، ص: 14.
[25] - ابن رشد، الفصل، م.س، ص ص: 94-95.
[26] - نفسه، ص: 93.
[27] - فؤاد بن أحمد، "التمثيل بالعلوم للعلوم عند ابن رشد"، مجلة ثقافات، كلية الآداب، جامعة البحرين، العدد 24، 2011، ص: 63.
[28] - المصباحي، مع ابن رشد، مرجع سابق، ص: 92.
[29] - طه عبد الرحمان. تجديد المنهج في تقديم التراث، م.س، ص: 197.
[30] - نفسه، ص: 196.
[31] - ابن رشد، الكشف، م.س، ص: 134-157-177-195...
[32] - محمد أيت حمو، فضاءات الفكر، م.س، ص: 216.
[33] - حمو النقاري، المنهجية الأصولية والمنطق اليوناني من خلال أبي حامد الغزالي وتقي الدين بن تيمية، رؤية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2010، ص: 224.
* -يذهب الأستاذ النقاري إلى اعتبار الاستدلال الشرعي نوعا مخصوصا من الاستدلال الجدلي للأسباب التالية: الاستدلال الشرعي يعتمد على خطاب المشرع الحكيم والمنزه عن العبث، والاستدلال المعتمد على آراء الحكماء أو على آراء من يعتد به منهم استدلال جدلي. الاستدلال الشرعي إثبات لدعوى عملية. والاستدلال المثبت للدعاوى العملية بصفة عامة استدلال جدلي. المرجع نفسه، ص: 234.
[34] - Emile, Durkheim, sociologie et philosophie. Presses Universitaires de France. 1951. p: 24.
[35] - ريجيس دوبري، حياة الصورة وموتها، ترجمة فريد الزاهي، أفريقيا الشرق 2002، انظر التصدير ص: 9-10-11-12.