للإجابة على هذا السؤال القديم الجديد، أو بالأحرى هذا السؤال المباشر الذي بقدر ما يخيف البعض، بقدر ما يزرع بذرة الحياة في البعض الآخر، لا بد أولا من الخوض في دواعي طرحه بدءا من كانط في ألمانيا إلى ميشيل فوكو بفرنسا، سؤال ما الأنوار؟ يطرح غالبا لسببين رئيسيين، أولهما الوقوف عند حالة القصور بمختلف أنواعه التي يمكن أن تصيب الفرد والجماعة على حد سواء، أي أنه سؤال يرتبط بالخصوصية وليس بالجانب الكوني، يرتبط فقط بالذين انخرطوا في الأنوار وليس مستهدفا نحو عقول الذين لم يستوعبوا الأنوار بعد، بالإضافة إلى الذين تجاوزوه، إنه دعوة لاستيعاب ما يحصل من تغيير إن على المستوى الفكري السياسي أو الاقتصادي... أما السبب الثاني الذي من خلاله نطرح هذا السؤال، فإنه يتجلى في العمل على إيقاظ الذين يعيشون حالة السبات القصوى، على تلقينهم أبجديات الحق والواجب، بيد أن الجامع المانع بين النوعين يكمن في أخراج الفلسفة من طابعها التجريدي الصارم، نحو خوضها في قضايا المجتمع، خاصة فلسفة الحق وفلسفة التاريخ وفلسفة الأخلاق ثم الفلسفة السياسية.
لماذا لم نطرح نحن كذلك سؤال: ما الأنوار؟ ولماذا لم نطرحه بتلك الحدة الفلسفية التي تتجاوز الخصوصيات السياسية والثقافية والدينية؟ خاصة وأن الخوض فيه يجبر واضعه أن يتخلص من كل شيء يشده، أن يكون حياده حيادا مفرطا فيه لدرجة إعادة بناء كل شيء، وعليه فإن أول شرط للإيمان بفعالية هذا السؤال هو التوفر على قدر كبير جدا من الشجاعة، وعلى دراية جيدة بالطبيعة التي سار ويسير عليها تاريخنا المحلي، ناهيك عن التوفر قطع الغيار التي بمكنتها تفكيك الحس المشترك وتحويله إلى منطق الفعالية الخلاقة، بدل الشعور الارتكاسي، لهذا ولهذا فقط فإنه لا مفر من الاستعانة بسؤال ما الأنوار؟ بصيغته الكانطية على مستوى الشكل والحمولة والأمل، مع الأخذ بعين الاعتبار طابع الخصوصية التاريخية من جهة والمجتمعية من جهة ثانية.
إن الانخراط في الأنوار ـ كجواب أولي ـ لن يأتي بداية من السياسة كممارسة، ولا من القرارات العامة باسم المسؤولية، وإنما لا بد أن ينطلق من عقل المفكر والفنان والعالم، لسبب بسيط للغاية، يكمن في أن المفكر هو أول طبيب للمجتمع، هو من يعرف كيف يسير التاريخ وإلى أين، كما أن له دراية ببنية وطبيعة الحس المشترك الذي يتأسس عليه، يتكلم بمنطق الحيادية وخلفيته خلفية تنحو نحو تحقيق النجاح ونحو التسيير بعقلانية، لهذا ليس يأخذنا العجب عندما نعود إلى دعوة كل من أفلاطون والفارابي إلى فكرة أن يكون الفيلسوف على رأس الحكم، ليس طمعا في السلطة وإنما استفادة من المقومات التي يتأسس عليها رأيه، عكس السياسي الذي لا يمكن أن يستوعب سؤال ما الأنوار خوفا على مصالحه ومصالح الذين يحيطون به، بما أن السياسة لا تقف على حال واحد، وعليه فإذا كان سؤال ما الأنوار؟ ينبني على خلفية الواجب والحق، فإن السياسة كما نعلم لا تستقيم إلا بمنطق الحربائية، والحال أن السؤال الذي ينبغي أن نجيب عليه يؤمن بصرامة كبيرة بمنطق التنفيذ وقوة القانون وليس قانون القوة الذي يسود في السياسة.
إن أول شرط لاستيعاب سؤال ما الأنوار؟ هو انفصال السياسة على تبنيه، حيث ستلعب فقط دور المنفذ فقط، لكن التنفيذ هنا لن يتم إلا تحت قوة القانون وصرامة الفكر، بما أن غرض الفكر هو تحقيق الأنوار، أما غرض السياسة فهو تحقيق الأنوار لكن بشروط تأخذ بعين الاعتبار المصالح الضامنة لبقاء نظام سياسي بعينه، السياسة مريضة بغريزة البقاء عكس الفكر الذي يقتل نفسه كي يحيا من جديد، أما الأنوار فإنها تكاد تكون فكرا وليس سياسة لأنها لا تخاف من الموت بقدر ما تخاف من الجهل، عكس السياسة التي يمكن أن تضحي بالتقدم وأن تكرس الجهل كي تبقى.
بماذا يتميز مجتمعنا؟ وهل هو قابل اليوم لاستيعاب هذا السؤال؟ الحق أننا طرحنا سؤال ما الأنوار؟ ليس لإتمام ما تم بناؤه، وإنما لإيقاظ ما يجب بناؤه، من ثمة فالأنوار عندنا هي التخلص من منطق الطاعة لحساب روح الرفض، علينا أن نرفض كل الأشياء التي يجب رفضها، لسبب بسيط هو أن الأنوار يرفض التبعية العمياء وبنية مجتمعنا لا تستقيم إلا بهاته التبعية، إننا لا نقبل من يرفض ما نريد، إننا نريد أن نكون وأن نبقى متشابهين دوما، في حين أن الأنوار تريد منا أن نؤمن بفعالية الفرد أولا كي يؤسس لفعالية الجماعة خضوعا لمنطق تقسيم العمل وليس لمنطق أن يقوم الكل بالكل، حيث يصعب أن نعثر على من تجب محاسبته، إذ بدل المحاسبة نبحث على كبش فداء ثم ينتهي الأمر.
مجتمعنا أيضا تغيب فيه ثقافة القانون غيابا تاما، والأنوار هي الإيمان بالقانون قبل الإيمان بأي شيء، لأن القانون هو ما يمكن أن يجمع، وهو الشيء الوحيد الذي بإمكاننا العيش تحت يافطته، بما أنه لا يفرق بين هذا وذاك، قد نختلف عرقيا ودينيا وثقافيا لكننا لا نختلف قانونيا، وبما أننا ننتصر إلى قوة الجاه والحسب والنسب فإن الأنوار هو الطبيب الأول والأخير للحد من هذا التمييز الأرعن، بنية مجتمعنا أيضا تخاف من السؤال، والمجرم طبعا هو من يخاف من الأسئلة، وبما أننا كذلك، فإن جرائمنا تجاه المجتمع وتجاه أنفسنا لا تعد ولا تحصى، لهذا فإن سؤال. ما الأنوار؟ هو من سيعري على كل ما نستره حيث يجب أن نعري كل شيء كي نعرف ما قمنا به، وما يجب أن نقوم به.
الأنوار إذن هي التخلص من التبعية للمجتمع باسم المصلحة أو الخوف، وإلى من يكبرنا سنا باسم الطاعة، وإلى من يتولى أمرنا باسم التملق، الأنوار هي الانتصار للقانون حتى ولو كان على حساب نفسي، والأنوار أيضا هي الانعتاق من الوصايات التي يسقط فيها الإنسان، كما أن الأنوار يجب أن تتأسس بالقوة وبالفعل على محاسبة من تجب محاسبته، بما أن الأنوار لا تعرف إلا الواجب ولا تريد إلا تغيير المجتمع نحو تحقيق القوة والتقدم.