لست مؤهلا للحديث عن الأستاذ محمد عابد الجابري (1936-2010) إلا بالغيب، أما بالشهادة، فهناك من هو أقدر مني على الحديث عنه بالحضور والذات. لا تشفع لي بعض لمع من تقاطع زماني بيننا، للحديث عنه من منطلق العارف؛ حينما استمعت إليه مرة في كلية الآداب بالرباط في إحدى الأقسام القصية لما كنت طالبا في شعبة الفلسفة بآداب فاس عام 1985، أو لاحقا لما كنت أتوصل منه بنسخ من مجلة "فكر ونقد" التي كان يشرف عليها، وبلغني بعد حين، أنه كان يقرأ باهتمام بالغ ما كنت أنشر فيها من مقالات، فمهما بلغت هذه التقاطعات الشخصية المباشرة من أهمية، إلا أنها تظل قاصرة عن سلوكي في رتبة العارفين بسيرة وفكر الرجل.
لكني، بالمقابل، أستطيع أن أتحدث عن طرف من رتبة الرجل في المحافل الفكرية الإسبانية والأمريكولاتينية تختلط، في معظمها، بمفارقات عجيبة، على الفكر المغربي المعاصر أن يتأملها بتمعن، ويجعل منها المناسبة الطيبة لشق طريق جديد في تداوله الفكري.
ولأبدأ بالمفارقة الأولى: في أغلب المناسبات الفكرية والعلمية التي شهدتها في البر القشتالي، كان اسم الجابري يتداول بكثرة كعلامة بارزة على الفكر المغربي؛ فهو المفكر المغربي الوحيد الذي يكاد يعرفه الفكر الإسباني المعاصر في الوقت الحاضر، إلى جانب مفكرين أندلسيين آخرين أمثال ابن رشد وابن حزم وابن طفيل وابن باجة في من القدامى. ويكاد يذكر اسم الجابري دائما إلى جانب اسم ابن رشد، حتى كاد يطرد معه اطراد العلة مع المعلول؛ وهذا ليس بالغريب، فقد كان للرجل الباع الطويل في إثراء المتن الفكري حول أبي الوليد، تحقيقا لنصوصه، ودراسة لها.
المفارقة الثانية، هي أن الجابري لم يبدأ في التعرف عليه تقريبا في إسبانيا إلا منذ عام 1995 لما كتب المستعرب الإسباني "بدرو مونطافيث" مقالة تنويهية بفكره، مع أن الرجل ارتقى في رتبة التقدير الفكري درجات رفيعة في العالم العربي منذ الثمانينات.
المفارقة الثالثة، أن مفكرا مغربيا رفيع القدر والمستوى في الفكر المغربي، وأقصد به الأستاذ عبد الله العروي (1933- )، لم يحظ بنفس الشهرة في الفكر الإسباني إلا بعد سنوات؛ لما حصل على الجائزة الدولية الثانية عشرة لحكومة كطالونيا ببرسلونة في حفل بهيج يوم 13 يونيو عام 2000، مع أن الأستاذ العروي سبق تداول اسمه في الأوساط الفكرية قبل المرحوم الجابري. ولست أحتاج إلى القول إن الهوى الفرنسي للكطلانيين معلوم، فقد تعرفوا على صاحب كتاب "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" مباشرة في أصله الفرنسي.
المفارقة الرابعة أن مفكرا مغربيا آخر، راسخ القدم في الفكر المغربي بمؤلفاته الفلسفية والأدبية في اللغات العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية، وهو المرحوم محمد عزيز الحبابي (1923-1993)، لا يكاد يعرفه إلا بضعة أشخاص في إسبانيا: المستعربون الإسبان "خواكين لومبا فوينتيس"، مترجم ابن باجة إلى القشتالية، و"بدرو مونطافيث"، و"كروث إيرنانديث"، و"خوان باشيكو"، و"خوان كارلوس فيلا ألونسو"، وعراب الشخصانيين الإسبان الأستاذ "كارلوس دياث". وقد سمعت تأكيد ذلك من جميعهم (باستثناء "مونطافيث" و"دياث" ) في مؤتمر علمي للمستعربين الإسبان في مدينة "البسيط". بالنسبة للأستاذ " مونطافيث"، الذي تعرفت عليه في نفس المدينة عام 2008، ولمست لديه محبة وتقديرا عظيمين للفكر العربي ولرجاله، فأقدر أنه كان على صلة وثيقة بالحبابي من خلال أعماله بالعربية أو بالقشتالية أو بالفرنسية، لعلمنا بمنزلة الرجل في مضمار الاستعراب الإسباني. أما الأستاذ "كارلوس دياث"، فقد حدثني صديقي "خوان كارلوس فيلاّ" أنه كان يعرف شخصيا صاحب "الشخصانية الإسلامية"، وأراني نسخة الكتاب التي سلمها له عراب الشخصانيين في إسبانيا لما استضفناه في "الجمعية الفلسفية التطوانية" لتقديم محاضرة حول "فلسفة الحبابي الشخصانية" خلال عام 2010.
وقد أتيحت لي فرصة التأكد من جهل الفكر الإسباني بالحبابي في مناسبة علمية بالعاصمة الإسبانية؛ حيث اعترف لي الأستاذ "خوان مانويل بورغوس"، رئيس "الجمعية الشخصانية الإسبانية"، ومؤرخ الفكر الشخصاني في إسبانيا، بأنه لا يعرف أي فيلسوف شخصاني في العالم الإسلامي، فأحرى في المغرب.
المفارقة الرابعة، هي انه لما قمت بواجبي الفكري والأخلاقي في نعي المرحوم الجابري إلى أصدقائي في إسبانيا وأمريكا اللاتينية، وردتني رسائل عديدة ومؤثرة وقاسمها المشترك الأسف على فقدان هذا العلم البارز في حياتنا الفلسفية والحاجة الملحة للتعرف على الجابري وصحبه في الفكر المغربي المعاصر. وأذكر على سبيل المثال، رسالة "الجمعية الفلسفية بمنطقة مرسية" في إسبانيا، ورسالة البروفيسور "خوستافو فلوكينا كيلوبانا" من البيرو، و"اوبدوليو باندا" من الأرجنتين. وبالمناسبة، فإن اسم الجابري يحظى بتقدير عظيم لدى مفكري أمريكا اللاتينية، وخصوصا منظر فلسفة لاهوت التحرير الأستاذ "إنريكي دوسيل" – وقد حل ضيفا على بلادنا مؤخرا- الذي يحلل واقعة التداخل الثقافي في العالم العربي انطلاقا من أعمال صاحب "نقد العقل العربي".
المفارقة الخامسة، ولكنها ليست الأخيرة في سلسلة تداولنا الفكري لدى الآخر، هي أنه لولا العمل الجبار الذي قام به الأستاذ أحمد محفوظ رحمه الله، وصحبه، لما ُعلم أي خبر عن المرحوم الجابري بالكيفية التي نعلمها؛ خاصة كتابه عن "نقد العقل العربي" الذي ترجمه إلى الفرنسية بالاشتراك مع "مارك جيوفري"، وأصدرته دار "لاديكوفيرت" عام 2004 بباريس، أو تقديمه للترجمة الفرنسية لكتاب "العقل السياسي العربي" التي أنجزها بويسف الواسطي وصدرت عن نفس الدار عام 2007.
وقد أشار إلى هذا المعنى الأستاذ "أندريس مارتينيث لوركا" في رسالته إلي يوم 10 ماي 2010 لما نعيت إليه صاحب "الخطاب العربي المعاصر". والأستاذ "مارتينيث لوركا"، للتذكير، هو المشرف على سلسلة "الأندلس: نصوص ودراسات" في دار نشر طروطا المجريطية التي أصدرت الترجمة القشتالية لكتاب الجابري "نحن والتراث" المنجزة من لدن الأستاذ "مانويل غرسية فرية" عام 2001 في طبعتين إلى حد الساعة (2001 و 2006).
هذه المفارقات وغيرها كثير -مما يمكن أن نتحدث عنها في مناسبة أخرى- تفضي بنا إلى طائفة من الخلاصات:
- تأكيد الأهمية الكبرى والبديهية التي نهضت، وتنهض بها الترجمة على مر التاريخ؛
- النهوض بمهمة الترجمة بروح رسولية بكافة اللغات التي يحسنها المتداولون للفكر المغربي؛
- ترجمة الأعمال الفكرية-وبخاصة ثمرات الفكر المغربي الفلسفي- إلى اللسان القشتالي ضمانا لانتشاره الذري في أوروبا والعالم الجديد؛
- النهوض بالتعريف بثمار الفكر المغربي والعربي بأية لغة أجنبية كانت؛ حتى ينهض ما يسمى بالحوار الفكري والفلسفي بين الثقافات على أسس صلبة، فيحقق غاياته الثقافية وينال مقاصده الحضارية المرجوة.