في البداية لابد من توضيح يتعلق بما المقصود بالسياسة؟ ليس الهدف من طرح هذا السؤال هو البحث عن إجابات أكاديمية حول مفهوم السياسة، بقدر ما هو وضع تعريف مبسط يشكل توطئة لموضوع هذا المقال الذي يتمحور حول مسألة الوضوح السياسي في المشهد السياسي المغربي. يتشكل المجتمع المغربي، مثله مثل جميع المجتمعات، من طبقات وفئات وتكتلات اجتماعية لها مصالح متضاربة ومتعارضة ومتباينة. هذا الوضع يقتضي آلية لتنظيم التفكير والفعل من أجل تدبير الاختلاف الحاصل بين هذه الفئات الاجتماعية بهدف تحقيق استقرار المجتمع واستمراره. وتعتبر السياسة هي هذه الآلية التي تسمح بتدبير سلمي لهذا التعارض في الاتجاهات وصراع المصالح. تعني السياسة إذن فن العيش المشترك والحياة المشتركة ضمن نفس الدولة، حيث إن الاقتناع بالعمل السياسي يفضي بالضرورة إلى النزوع إلى تسوية صراع المصالح وفض النزاعات بأساليب تفاوضية عوض اللجوء إلى العنف والتناحر.
تفترض الممارسة السياسية المبنية على الوضوح أن تكون للأحزاب السياسية رؤية ومواقف واضحة ومعلنة حول كل الإشكالات المطروحة على المجتمع، سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، أو على المستوى الثقافي والبيئي. نظريا توجد ثلاثة اتجاهات سياسية تعتمد مقاربات متباينة اتجاه هذه الإشكالات: هناك الاتجاه الليبرالي الذي غالبا ما تمثله أحزاب يمينية ومحافظة تعطي أولوية محورية لمصالح الفئة المالكة للثروة في اختياراتها الاقتصادية والاجتماعية. وهناك الاتجاه الاشتراكي الذي تمثله أحزاب يسارية وتقدمية التي تميل أكثر إلى حماية مصالح أوسع الفئات الشعبية. وهناك أحزاب وسط يمكن أن ترجح كفة هذا الاتجاه أو ذاك عبر إجراء تحالفات سياسية. بناء على هذا التوضيح النظري نتساءل:هل يتصف مشهدنا السياسي بهذا الوضوح والتباين؟
لا يمكن ادعاء ذلك، حيث تتشكل الأغلبية الحكومية من أحزاب يمينية محافظة ويمكن اعتبارها ليبرالية في توجهها الاقتصادي، ويوجد في صفوف هذه الأغلبية حزب اشتراكي. وتتشكل المعارضة كذلك من أحزاب يمينية وحزب اشتراكي. لماذا إذن هذه الفوضى والتيه السياسي؟ وما العمل للدفع بالأمور في المستقبل في اتجاه بلورة مشهد سياسي واضح ومتباين يعيد المصداقية للفعل السياسي ويعيد الثقة في السياسة التي سوف تشجع على الانخراط في ممارسة العمل السياسي، باعتباره حاجة ملحة تعطي للسياسة معنى وجدوى؟
يمكن تفسير هذا التيه في المشهد السياسي، في جزء منه على الأقل، بهيمنة النزعة الذاتية لدى قادة الأحزاب. وإلا كيف يمكن تفسير وجود عدة أحزاب ليبرالية؟ وكيف يمكن تفسير وجود جزء من هذه الأحزاب في المعارضة والجزء الآخر في الأغلبية؟ وكيف يمكن تفسير وجود حزب اشتراكي في المعارضة وحزب اشتراكي آخر في الأغلبية؟ في الواقع ليس غريبا أن تهيمن النزعة الذاتية في صفوف أحزاب يمينية ليبرالية، لكن غير المتوقع وغير المقبول أن يغزو هذا التوجه قادة الأحزاب التقدمية المنبثقة من رحم القوات الشعبية التي كانت - وأتمنى أن تظل - المعبرة عن أمالها في التغيير والتقدم والعدالة الاجتماعية.
يبدو أن هيمنة النزعة الذاتية على سلوك قيادة هذه الأحزاب التقدمية لها علاقة بما تسرب إليها من قيم دخيلة، تتمثل في النزوع إلى السطو على القيادة عبر التحكم في التنظيم من خلال إنشاء علاقات بين القاعدة والقيادة مبنية على الولاء والتبعية. هكذا عوض أن تفرز القواعد الحزبية قيادتها بناء على اختيار حر مبني على الاستحقاق والحنكة والخبرة السياسية وخاصة بناء على المصداقية كما كان سائدا في الماضي. فعوض ذلك أضحى اختيار القيادة، في جزء هام منه، مبني على الولاءات. هذا ما أدى إلى التصدع والارتباك في صفوف هذه الأحزاب بعد مؤتمراتها الأخيرة، مما انعكس سلبا على مصداقيتها وبريقها لدى المواطنين عامة ولدى المناضلين خصوصا، حيث جمد كثير منهم نشاطهم في صفوف هذه الأحزاب. هكذا فإن النزوع إلى الهيمنة على الحزب يفضي إلى النزوع إلى الهيمنة على قراراته.
يمكن أيضا تفسير هذا التيه السياسي، في جزء كبير منه هذه المرة، بعدم تعاطي المواطنين بشكل واسع إلى العمل السياسي، نظرا لغياب الوعي السياسي لدى غالبيتهم. يقتضي الوعي السياسي أن تعي كل الفئات الاجتماعية بانتمائها الطبقي وبمصالحها المشتركة والمصير المشترك والخصم المشترك والانتماء السياسي المشترك. هكذا تتكتل كل فئة في الأحزاب التي تتطابق اختياراتها مع مصالحها، وتدعمها في معركتها السياسية لإيصالها إلى السلطة قصد حماية مصالحها المشتركة. يبدو أن غياب هذا الوعي ناتج عن عدة أسباب، منها ما هو تاريخي ومنها ما هو ناتج عن ضعف في الـتأطير لدى بعض الأحزاب، ومنها ما هو ناتج عن إرادة لدى البعض الآخر في تضليل المواطنين للاستمرار في الاتجار بذممهم.
في ما يتعلق بالبعد التاريخي، لقد عمل النظام منذ الستينات على إبعاد المواطنين عن التعاطي للسياسة، إذ كان يعتبر من يتعاط إلى السياسة هو ضد الملك. وقد سمعت شخصيا في خطابات الانتخابية للأحزاب "الإدارية" حينئذ، في سنة 1976 ، تصرح أنها ضد السياسة. وقد علقت أيضا جريدة "المحرر" آنذاك تقول أن أحزاب في صلب عملية سياسية يتبرؤون من السياسة ويدعون الناس إلى الابتعاد عن السياسة. إضافة إلى ذلك فإن ممارسة العمل السياسي في سنوات الرصاص كانت تعني مجازفة حقيقية بالحياة، وذلك ما أدى ثمنه غاليا قادة كبار تاريخيين مثل المهدي بنبركة وعمر بن جلون وآخرون. هكذا يبدو أن آثار الماضي ما زالت حاضرة ومؤثرة على العزوف عن العمل السياسي.
ومن جانب آخر فإن هذه الأحزاب التي كانت تدعو المواطنين للابتعاد عن السياسة هي الآن المهيمنة عن المشهد السياسي، وما زالت لها نفس القناعة لكنها تمارسها بشكل مختلف، حيث تصهر دائما على إفراغ العملية السياسية برمتها من معناها ودلالتها الحقيقية، وذلك بإفساد الانتخابات من خلال اعتماد المال والقبلية وتوظيف الدين، عوض أن يكون صوت المواطن تعبيرا سياسيا حرا يحدد الخريطة السياسية الحقيقية للمشهد السياسي. وقد ابتدأت، مع الأسف، الأحزاب الاشتراكية تسلك أيضا نفس المنحى، حيث نالت على بعض المقاعد البرلمانية بنفس الأسلوب، عوض الدفع بالأمور في اتجاه أن يصبح صوت المواطن صوتا سياسيا كما كانت تقوم بذلك في الماضي. مما جعل المواطن يحتقر أكثر العمل السياسي ويعتبره لعبة لا جدوى منها.
الآن ورغم أننا تجاوزنا مرحلة الخوف من ممارسة العمل السياسي، غير أننا ما زلنا في مواجهة التضليل والتمويه وتوظيف النفوذ المالي والقبلي والديني من أجل فرز خريطة سياسية لصالح الفئة المالكة للثروة كونها الفئة الأكثر وعيا بمصالحها، وبالتالي الأكثر اهتماما بالسياسة، لأنها أدركت أن حماية مصالحها تفرض امتلاك السلطة. لذلك فهي توظف كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة للبقاء في مواقع القرار السياسي. هذا الوعي ما زال غير حاضر بقوة لدى الفئات الواسعة من الشعب المغربي وبالتالي فهي غير متحمسة للممارسة العمل السياسي، وبالتالي ستظل مصالحها معرضة للضياع.
يبدو لي أن الوقت قد حان لإيقاظ الوعي السياسي لدى المواطنين، وإعادة الاعتبار للسياسة باعتبارها حاجة ملحة تصون الحقوق والكرامة وتعطي معنى للمواطنة، بل كما كان يرى أرسطو ‹‹أن الإنسان كائن سياسي›› لا يستطيع صيانة إنسانيته دون سياسة. غير أن السؤال الجوهري يتمثل في من ينبغي أن يقوم بهذا الدور التعبوي؟ تعود المسؤولية الأولى بالضرورة للدولة، لأنها تملك وسائل هائلة للقيام بذلك، باعتبار أن المشاركة السياسية الواسعة تعني الاستقرار والمصداقية. كما ينبغي أن تناط هذه المهمة التعبوية بالفئة المتعلمة والطبقة المتوسطة لمواجهة التضليل التي تمارسه الفئة التي ليست لها مصلحة في انتشار الوعي السياسي، كون الطبقة المتوسطة سبق أن نجحت في لعب هذا الدور في السبعينات والثمانيات، حيث كانت السند الرئيسي للأحزاب التقدمية التي خاضت معركة النضال الديمقراطي في ظروف أصعب من الوضع الحالي بكثير.
إن إحياء هذا الحماس والدينامية أمر ممكن عندما نقر، من جهة، بأن الرصيد النضالي الذي تراكم عبر عقود لا يمكن أن يظل عرضة للضياع والتلاعب، لأنه إرث للمغاربة جميعا تركه مناضلون قدموا كثيرا من التضحيات في سبيل ذلك، وفي طليعتهم قادة كبار تاريخيون من قبيل المهدي بنبركة وعبدالرحيم بوعبيد وعمر بن جلون وعلال الفاسي وعلي يعتة وعبدالرحمان اليوسفي وغيرهم. ونقر من جهة أخرى أن تحسين أوضاع الطبقة التي ننتمي إليها سوف لا يتحقق بالسب والشتم الدائمين للفاعلين السياسيين أو بالصراخ، بل ينتزع عبر النضال العملي والفعلي لنشر الوعي في صفوف المواطنين للتصدي لمحاولات استمالتهم من طرف تجار الانتخابات، وإيقاظ الوعي في صفوف المناضلين للتصدي لبعض الانحرافات التي قد تشل الأحزاب التقدمية من الداخل كما هو قائم اليوم. هل هذا ممكن في المستقبل المنظور؟ "سؤال ما عرفتش جوابو" كما تقول الأغنية.