تُعد حضارة الرومان من أهم حضارات أوربا والعالم المتوسطي، حيث كان للرومان دور كبير في تطور الحضارة الغربية بأوروبا. فروما القديمة هي صاحبة الفضل الأول على أوربا في اللغة، وفي القانون والدستور، وفي إقامة تجمعات وقوميات كبيرة، وفي الديانة المسيحية[1]. فاللغة اللاتينية لغة الرومان القدماء؛ هي أساس اللغات الغربية كالإيطالية والفرنسية والإسبانية وغيرها. في حين أن القانون الروماني قدم الأساس للأنظمة التشريعية لمعظم بلدان أوروبا الغربية، وشكلت مبادئ المساواة الرومانية؛ والنظام السياسي الروماني النموذج لإقامة الحكومات في عدد كبير من البلدان الأوربية. بالإضافة إلى اعتبار بعض المنشآت الرومانية كالجسور والطرق والقنوات المائية أمثلة احتذى بها المهندسون لعدة حقب لاحقة. وبفضل الرومان انتشرت الديانة المسيحية بأوربا مع حكم الامبراطور قسطنطين الذي أعلن المسيحية دينا رسميا للدولة[2] عام 324م.
وشكل تقديس الماء أحد الاهتمامات الدينية للشعوب الرومانية قبل المسيحية وحتى بعدها وإن بصيغ مختلفة، فللمياه آلهة، وللمطر رب ولكل نهر رب ولكل نبع مائي رب. وترسخ هذا التقديس بفعل سيطرت الدين على الذهنية الرومانية، وارتباط الحياة والخصوبة بالماء، ووجود طقوس مشابهة محلية في مناطق النفوذ الروماني. فاعتقدوا أن آلهة معينة هي التي تتحكم في المياه، فإما أن يُرضوها فتكون المياه مصدر خير وحياة ونماء وشفاء، أو يُغضبوها فتجعل الماء يجلب الكوارث والشر والموت.
تاريخ طويل ومجال واسع
ينقسم تاريخ الحضارة الرومانية إلى ثلاثة عصور تقليدية[3]، عصر الملوك ويمتد من بناء مدينة روما نحو 754 ق.م[4] حتى عام 509 ق.م، حيث يبدأ العصر الجمهوري الذي استمر إلى أن حوله أوكتافيانوس المعروف بأغسطس[5] Augustus إلى حكم امبراطوري[6] سنة 27 ق.م[7]، وعمرت الامبراطورية أزيد من خمسة قرون إلى أن سقطت روما على يد الغزو البربري سنة 476م.
امتدت الامبراطورية الرومانية في أقصى حد لها أثناء حكم الامبراطور تراجان (98م-117م)[8]، على أكثر من ألفي ميل عرضا، من سور أنطونيونوس[9] والحدود الشمالية لداشيا[10] [شمالا] إلى جبال أطلس ومدار السرطان[11] [جنوبا]. وامتدت طولا لأكثر من ثلاثة آلاف ميل، من المحيط الأطلسي [غربا] إلى الفرات[12] [شرقا]. وشملت كل من إيطاليا وإيبيريا وافريقيا[13] وليبيا والبلقان وسوريا والغال وآسيا الصغرى ومصر ونوميديا وموريطانيا وانجلترا.
الموقع والحرب والقانون والدين مقومات أساسية
تكوّن سكان الإمبراطورية الرومانية من عدة شعوب كانوا بالملايين، وتعددت لغاتهم ولهجاتهم، وتنوعت عاداتهم وتقاليدهم وثقافاتهم، واختلفت أديانهم. ورغم ذلك وحدت هذه الإمبراطورية العالمية الواسعة كل التراث الحضاري للعالم القديم، سواء كان التراث اليوناني أو الشرقي أو السامي أو الغربي[14]، والذي شكل الأرضية التي قامت عليها [حضارة] روما[15]. وقد أثار هذا الإنجاز البارز الاهتمام والإعجاب منذ الأزمنة القديمة وحتى الوقت الحاضر.
إن نجاح روما في اقامة هذه الإمبراطورية المترامية الأطراف، خارج حدودها الجغرافية الأصلية، وبسط سلطانها على كل تلك الشعوب، كانت له أسباب موضوعية، مادية وتنظيمية وخُلقية[16]. ففضلا عن الموقع الجغرافي لروما ولشبه جزيرة إيطاليا، شكلت ثلاثة عناصر أخرى أهم مقومات الحضارة الرومانية وهي الحرب والقانون والدين.
الموقع عامل بالغ الأهمية
إن تاريخ الحضارة الرومانية يرتبط بتاريخ إيطاليا[17] القديمة، الذي هو تاريخ روما نفسها. فإذا كانت طبيعة التكوين التضاريسي لإيطاليا لا تسمح بوحدة سياسية؛ لانتشار سلاسل الجبال الشمالية من ناحية، وجبال الأبنين في وسطها من ناحية أخرى[18]، فإن موقع روما الجغرافي في وسط شبه الجزيرة الايطالية على نهر التيبر الذي يجري في سهل اللاتيوم[19]، مكنها من العمل بحرية وتجاوز الصعوبات التضاريسية التي ساهمت في تكوُّن كيانات اقليمية مستقلة، حتى دنت لها كل شبه الجزيرة الإيطالية[20].
شكل موقع روما في وسط شبه الجزيرة الإيطالية عاملا بالغ الأهمية في بسط سيادتها عليها[21]. كما مكن موقع شبه جزيرة إيطاليا وسط البحر الأبيض المتوسط؛ منفتحة على جزره العديدة؛ وقريبة من شواطئ شمال القارة الافريقية، من أن تلعب دورا كبيرا في تاريخ حوض البحر الأبيض المتوسط[22]، وشاركت شعوبه في صنع التاريخ على امتداد أزيد من ألف سنة.
الحرب تربية وطموح
لم يكن الرومان أصحاب تجارة أو صناعة، فكانت الحرب الوسيلة الوحيدة لديهم للكسب والثراء[23]، ومتى نشبت الحرب توحدت مصالح الجميع[24]، وبسبب استمرارها وعنفها راكم الرومان خبرة فائقة في فنون القتال. ولم تكن الغنائم هي غاية الحرب، بل كانت حصيلة تخطيط سياسي وعسكري لتحقيق أهداف عملية واضحة[25] وواقعية. فالساسة وقواد الحرب في روما تميزوا بالحكمة والواقعية والتفكير العملي، وصلابة مواقفهم، والاستعداد الدائم للتضحية في سبيل المصلحة والمنفعة العامة، وعدم التعصب لأفكارهم، فبعد كل مواجهة؛ كلما وجدوا أن أساليب العدو أنجع من أساليبهم، زهدوا على التو في هذه واعتنقوا تلك[26]. واقتضت العبقرية المتطلعة في روما التضحية بالغرور في سبيل الطموح، وقدرت أنه من دواعي الكياسة والحزم والشرف معا أن تُقتبس الفضيلة والموهبة حيثما وجدتا [سواء] بين الرقيق أو الغرباء أو الأعداء أو المتبربرين[27].
ساهمت الأسرة في تنشئة الروماني على الصمود، وعلى التأهب الدائم للهجوم والدفاع، وعلى الأخلاق العالية. فالطفل الروماني يُعوّد على قوة التحمل ومواجهة المصاعب فيُحمل إلى الأنهار لمواجهة المياه القارسة، ويَسهر الليالي على الصيد وقطع الغابات، ويُدرَّب على الفروسية والرماية، ويَحرث الأرض. ويُربَّى على مبادئ وقيم الاحترام والطاعة والتواضع[28]، والاخلاص وروح الواجب وحب الوطن، ويحافظ عليها طول حياته. وقد أدى تمسك الرومان بمبادئ وقيم نشأتهم ونهضتهم الأولى؛ إلى بلوغ نجاح حقيقي، سواء داخل إيطاليا القديمة أو خارجها وراء البحار، كما أن تخلي روما عن أسرار نجاحها الأولى؛ في القرون الثلاثة التي تلت حكم ماركوس أوريليوس (161م-180م)[29] جعلها تنهار خلقيا، فانهزمت سياسيا وتدمرت عسكريا وتقلصت ممتلكاتها الخارجية حتى اندثرت كليا.
القوانين جوهر وأساس
تعتبر القوانين الرومانية جوهر وأساس حضارة روما الواسعة، وأهم ما خلفته العقلية الرومانية في تاريخها كله[30]، وقد وُلدت بادئ الأمر بدائية لتُنظم الحياة في مدينة صغيرة، ثم تطورت لسد الفجوات التي تظهر مع مرور الوقت واتساع مجال روما؛ لتحقيق المصلحة العامة، ودرء استغلال فئة لفئة، ولضمان حسن سير العلاقات البشرية والجماعات الانسانية[31].
في روما حيث يسود القانون، كان الشعب يرضى أن يُسيّر الشيوخ[32] السياسة[33]، فوحدت القوانين بين الولايات المطيعة[34]، وحرص أغلب الحكام على نشر الحرية والمساواة والتسامح بروح من الحزم والكياسة. فهذه القيم التي أطرتها القوانين والأعراف كانت سبب بروز روما وخروجها من وضعها الحقير[35]، فحتى القاعدون في المدينة كانوا ينالون أيضا حظهم من الغنيمة[36]، وكان الجميع يخضع لقرارات السناتو. ولقد عَززت القوانين الحقوق حتى بات للروماني الحق في استئناف كل الأحكام حتى لو كانت صادرة عن أي حاكم روماني[37].
الدين ركيزة الاستقرار
سيطر الدين على العقلية الرومانية[38]، ولعب دورا كبيرا في حياة الأفراد والدولة، للاعتقاد الراسخ أن الآلهة قادرة على تحقيق الخير لكل من يُرضيها. وعبد الرومان الأوائل كغيرهم من شعوب الحضارات القديمة العديد من الآلهة والقوى الخفية، واعتقدوا أن لكل الظواهر الطبيعية ومجريات الحياة الانسانية آلهة أو قوى؛ تتحكم فيها وتحققها، فإما أن تكون خيرا ينفعهم أو شرا يؤديهم. فتعددت الأرباب بتعدد المظاهر المختلفة التي تتجلى فيها أوامرهم ونواهيهم[39]، ولم يكن الروماني - بحكم براغماتيته - يهتم إلا بتلك الآلهة أو القوى التي يؤثر نشاطها عليه (...) مثل التي تتحكم في المحاصيل والماشية[40]، وكانت بعض [الآلهة] والقوى أعظم شأنا من غيرها[41].
اهتمت الدولة الرومانية بالدين كركيزة للاستقرار[42]، وكانت المشاغل الدينية تعتبر من بين المشاغل الرئيسية في الدولة[43]، فرعت الآلهة؛ وعملت على إرضائها وعدم إغضابها؛ وسعت إلى السلام معها، وجعلتها مستشارا كبيرا لها قبل الاقدام على أي قرار. فالرومان كانوا يتمسكون بالدين وتتحكم فيهم الغيبيات الدينية، مما جعل الدولة تَعتبر الديانة الرسمية فرعا من فروع الإدارة، ووضعت للآلهة نُظما كهنوتية، ووزعت السلطة الدينية على أربعة أجهزة دينية كبرى[44] - ذات وظائف تُشغل مدى الحياة- يرأسها الكاهن الأعظم[45]:
1- مجلس العرافين: يُستشار قبل اتخاذ أي قرار، وكان يحق له معارضة أي قرار بحجة سوء الطالع، وآراؤهم تتقدم كافة أفعال الحياة العامة[46]، مما جعل الكثير من الساسة يسعون إلى الانتماء اليه؛ لأنه يتحكم حتى في القرارات السياسة.
2- مجلس الكهنة: يُشرف على إدارة الشعائر الدينية ويراقبها، ويَضع لوائحها ومواعدها وقواعدها، ويعمل على إرضاء الآلهة تحت رئاسة الكاهن الأعظم.
3- كهنة الولائم: ينوبون عن الكاهن الأعظم في الإشراف على الولائم والاحتفالات الخاصة بالآلهة.
4- كهنة الكتب المقدسة: يعملون على حماية الكتب المقدسة لديهم وتفسير نصوصها.
تأثر الرومان بديانات الشعوب التي احتكّوا بها، مثل الإغريق و المصريين والفينيقيين والفرس والأمازيغ، وأخذوا بعض معتقداتهم الدينية عنها. وكان الروماني يُسلم بكل أديان العالم عن اعتقاد راسخ؛ رغم التزامه الشديد بشعائره وطقوسه [الدينية] الوطنية الخاصة[47]، فلم يكن متعصبا بل كان عادة يرضى أن يترك دينه ليعبد دينا آخر، لاقتناعه بأن مختلف أشكال [الآلهة أو] العبادة إنما تُعاون بنفس القدر على تحقيق نفس الأغراض السليمة[48]. وعلى هذا يمكن أن نقول أن من بين خصائص الرومان الدينية البارزة هي قابلية استقبال إله جديد، بمعنى قابليتهم - التي لا نظير لها في الشعوب القديمة – حيال الآلهة الأجانب. فقد كانوا مستعدين لكل تقارب، معتمدين دون صعوبة [على] ما أسموه "بالتأويل الروماني" أي اكتشاف إله يعرفونه ويعبدونه في الإله الأجنبي[49].
وهكذا اعتقد الرومان ببعض آلهة الحضارات الأخرى بكل أسرارها وطقوسها، وخلعوا عليها أسماءها الأصلية وأسموها بأسماء رومانية. فقد أخذوا عن الإغريق العديد من الآلهة، منها "زيوس" أب الآلهة والبشر الذي عبدوه تحت اسم "جوبيتر"، وعبدوا "آريس" إله الحرب تحت اسم "مارس"، وقدسوا "بوسيدون" إله الماء والبحر تحت اسم "نبتون". بينما نجد أن أبرز ما أخذ الرومان من الآلهة المصرية؛ الإلهة "إيزيس" ربة القمر والأمومة التي انتشرت عبادتها في جميع أجزاء الامبراطورية الرومانية، وعُثر على صورها المقدسة على ضفاف نهر الدانوب[50] والسين[51]؛ كما كُشف على آثار معبد لها في لندن[52]، وكذا "أوزيريس" إله الزراعة "ومراميس" إله الشفاء[53]. في حين أن أشهر ما أخذوا عن الفينيقيين "بعل آمون" إله الخصوبة والزراعة وقدسوه تحت اسم "ساتورن". وأشهر ما أخذوا عن الفرس "مثرا" إله الشمس الذي ظهر في روما على أنه الشمس التي لا تقهر، وقد لاقت عبادته رواجا كبير بين الرومانيين وخاصة الجنود العسكريين[54]. أما عند الأمازيغ فقد نقل الرومان الإلهة "أفري" أو "أفرو" وهي إلهة يشير اسمها في اللغة الأمازيغية إلى الكهف، وكانت تعتبر حامية بلاد الأمازيغ، وظهرت هذه الإلهة على نقود نوميدية منذ القرن الأول قبل الميلاد، وعندما سيطر الرومان على افريقيا ونوميديا وموريطانيا اتخذوها حامية لهم.
الماء والآلهة الرومانية
نبتون كبير آلهة الماء
اعتبر الرومان أن الطبيعة مثقلة بالقداسة والقيم الدينية، لأن الكون إبداع صنعته الآلهة، فجميع الظواهر الطبيعية الكونية تحركها الآلهة في نظام وانسجام يُبهر الإنسان، لذلك اتخذوا لكل ظاهرة طبيعية إلها يقدسونه. ولما كان الماء أحد أهم هذه الظواهر الطبيعية، فهو ينزل من السماء ويتفجر من الأرض، ويملأ البحار ويُنبت الزرع، وقد يجلب الشر. فالماء يرتبط بالحياة ارتباطا وثيقا، فتم تقديسه، شأنهم في ذلك شأن كل الحضارات القديمة، وشغل حيزاً كبيرا من العقل الروحي والديني للرومان.
كان "نبتون" أكبر آلهة الماء عند الرومان، وكان يُجسَّد عادة في هيئة رجل واقف وعار، ذي لحية وشعر كثيف، ويحمل شارته المذراة في يده. وقد حضي الإله "نبتون" بشعبية كبيرة، ونال قداسة عبروا عنها بتقديم الهدايا والقرابين وتخصيص المعابد له، فكان يستعاذ به من غضب نهر التيبر[55]، فهو على الأرض إله الماء العذب وحامي الأنهار والعيون والنافورات[56] وكل المياه، وهو على السواحل إله البحر والأمواج وحوريات البحر[57]. وبالإضافة لخاصيات الإله "نبتون" كإله للمياه العذبة والمالحة، كان له دور كإله يمنح الشفاء[58]، فقد عثر في مواقع أثرية رومانية مختلفة على نقوش تتضمن صورة الإله "نبتون" إلى جانب ثعبان رمز التطبيب.
وإلى جانب "نبتون" إله الماء الكبير، حظيت آلهة مياه ثانوية بالعبادة، فكان لكل نهر ولكل نبع[59] إلهة تتمثل في جنية أو حورية. ولقد نمت حول بعض المنابع والأنهار عبادات استشفائية مرتبطة بجنة وحوريات المياه، وارتقت تلك الأماكن إلى مرتبة المعابد، وهي متناثرة في أغلب المناطق التي خضعت للنفوذ الروماني، في أوربا وغرب آسيا وشمال افريقيا، فكان الحجاج يسعون من خلال طقوس العبادة التي يقيمونها فيها؛ إلى التخلص من بعض الأمراض بفضل تلك المياه المقدسة[60].
في افريقيا الشمالية يعود تقديس الماء لفترة ما قبل التاريخ، ويمكن الحديث عن إرث ديني لوبي محض[61]، استمر حتى خلال الفترة الرومانية، يتجلى في العبادة المتعلقة بجنة المياه المذكورة سلفا، والتي حلت محلها آلهة رومانية. ورغم صعوبة تحديد المعتقدات الدينية المرتبطة بالماء في الفترة السابقة عن الوجود الروماني، فقد عُثر على مجموعة من اللقى قرب عين ماء بموقع "الكطار"[62] بتونس يعود تاريخها إلى مائة ألف سنة، الشيء الذي يرجح أنها أولى التمظهرات المرتبطة بعبادة الماء[63]. وتؤكد شواهد أركيولوجية أخرى عديدة تعود إلى الحقبة الرومانية، أن لجنة وحوريات الماء والنافورات وظائف دينية باعتبارها آلهة إلى جانب الإله "نبتون"، يتم التضرع إليها تحت اسم مركب من لفظة Aqua (حامة) متبوعة باسم المنطقة.
تميزت العبادات المائية في شمال افريقيا وخصوصا المتعلقة بالمنابع الاستشفائية بالاستمرارية، ولم تستطع الثورات الدينية التي عرفتها المنطقة القضاء عليها بشكل تام، بل كانت هذه العبادات تتكيف مع كل ديانة جديدة. فالعقلية الدينية لشعوب شمال افريقيا تتميز بسيرة متناقضة، فهي تميل إلى المحافظة في نفس الوقت الذي تبدو فيه قابلة للتجديد بل وساعية إليه، مما جعل هذه الشعوب قادرة على احتواء الديانات الجديدة الوافدة من مختلف المناطق وتكييفها مع المعطيات والعقائد المحلية[64]. وهكذا لم تنجح كل الديانات القادمة إلى المنطقة القضاء على تلك العبادات، وحتى الإسلام لم يلغيها كليا واستمرت مع تغيير بسيط، حيث عُوضت آلهة الجِنة والحوريات بالولي الصالح، ومن أمثلتها نذكر في المغرب ضريح سيدي حرازم بحامة سيدي حرازم وضريح مولاي يعقوب بحامة مولاي يعقوب، وبالجزائر ضريح سيدي مسعود بحمام الصالحين وغيرها كثير في المنطقة.
معابد مياه رومانية في إفريقيا
نال "نبتون" قداسة دينية كبيرة، وكان دور جِنة وحوريات المياه كآلهة ثانوية هو حماية العيون الطبيعية بصفة عامة، والمنابع المائية ذات المياه المعدنية بصفة خاصة. هذه الأخيرة حظيت بعناية الرومان، وتم تقديسها، وأقيمت عليها معابد وحامات وحمامات؛ في مختلف مناطق الإمبراطورية تفنن الرومان في عمارتها.
أقام الرومان والأفارقة المترومنون لـ"نبتون" كبير آلهة الماء، ولحوريات وجِنة المياه منشآت تعبدية، تباينت من حيث العمارة، وهي في غالب الأحيان مركبات ضخمة تُزَيَّن بتماثيل وفسيفساء تُجسّد الإله "نبتون" بكل صفاته. ولقد تم اكتشاف العديد من المعابد المائية بشمال افريقيا، فعلى سبيل المثال لا الحصر تم العثور على معابد مائية في كل من توجا[65] وكالاما[66] وقرطاج وتيمقاد[67] وزغوان[68] وغيرها.
في توجا اُكتشف معبد صغير يحتوي مدخله على نقش يصف الإله "نبتون" سيد المياه وأبو الحوريات. وفي زغوان يوجد معبد يُعدّ من أكبر المعابد المائية التي بُنيت، كما أنه من أكثر المعالم الدينية الرومانية التي حافظت على صبغتها الأولى منذ نشأتها. تَم الاعتماد في تشييده على حجارة جبال زغوان وضواحيها، بالإضافة إلى استعمال الرخام المصري واليوناني والإيطالي للزخرفة. ويتكون المعبد من أدراج على اليمين وأخرى على اليسار، تُوصل الزائر إلى "بيت المقدس" أو "المعبود" "نبتون" إله المياه، ويضم أيضا صحنا ورواقا مُخصصا للتعبد، وحوضا تتجمع فيه المياه قبل السفر في رحلة عبر الحنايا[69] نحو مدينة قرطاج القديمة[70].
شُيّدت للحوريات الرومانية وريثة جنة المياه اللوبية[71]، معابد مُكرسة لآلهة المياه، وهي أماكن مخصصة للحوريات يمكن أن تكون غارا طبيعيا أو اصطناعيا عند منبع مائي. في مدينة تیمقاد الأثرية بالجزائر يوجد أحد هذه المعابد يسمى حسب الأركيولوجي الفرنسي Leschi Louis بأكوا سيبتيميانا فيليكس[72] (Aqua Septimiana Felix)، وهو منبع مائي یُزود خزانا يجمع المياه اللازمة لتموين المدينة، كان يحج إليه المتعبدون، ويُعتقد أن القداسة التي حضي بھا هذا المنبع، يرجع تاریخھا إلى فترة ما قبل الوجود الروماني. وفي خميسة[73] المدينة الأثرية الرومانية غار للحوريات، شُيِّد عند نبع يزود المدينة بالماء. ويتوزع هذا الصنف من المعابد بشكل غير عادل في شمال افريقيا، فحضورها مهم في نوميديا، بينما هو ضعيف في موريطانيا الطنجية[74].
خـاتمــة
لقد حضي الماء بالتقديس عند الرومان وفي كل المناطق التي بسطوا عليها سلطتهم، ونال الإله "نبتون" كبير آلهة الماء النصيب الأوفر من التعظيم، فشيدوا له المعابد الكبيرة. وعبدوا نفس آلهة الماء الأخرى، وجعلوها حامية لكل نبع مائي أو نهر يجري، فالحوريات وجِنة المياه وربات النافورات آلهة مائية ثانوية، لها نفس الوظائف الدينية، لكن بنعوت محلية متطابقة والذهنيات الدينية المختلفة للشعوب الرومانية.
في شمال افريقيا وجد الرومان أن الشعب اللوبي كغيره من الشعوب القديمة يقدس الماء، سواء منه ما تدفق على الأرض من ينابيع صالحة للشرب، أو ما كان معدنيا صالحا للاستشفاء والاستحمام[75]، فاستمر ذلك التقديس مع بعض التكيّف الذي تطلبه تقديس الإله "نبتون" الوافد الجديد مع الرومان.
المراجع
ـ أحمد سراج، حول استمرارية أحد مظاهر الديانات المائية القديمة بمغرب العصر الوسيط، ضمن ندوة الماء في تاريخ المغرب، مطبعة المعارف الجديدة، 1999.
ـ أحمد علي عجيبة، دراسة في الأديان الوثنية القديمة، دار الآفاق العربية، ط1، 2004.
ـ إدوارد جيبون، اضمحلال الامبراطورية الرومانية وسقوطها، الجزء الأول، ترجمة محمد علي أبو درة، الطبعة 2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997.
ـ أندريه ايمار وآخرون، تاريخ الحضارات العام 2: روما وامبراطوريتها، تعريب فريد م.داغر وفؤاد ج.أبوريحان، منشورات عويدات، الطبعة الثانية، 1986.
ـ شارل سنيوبوس، تاريخ حضارات العالم، تعريب محمد كرد علي، الدار العالمية للكتب والنشر، الطبعة الأولى، 2012.
ـ عبد الرزاق الموحي، العبادات في الديانات القديمة، صفحات للدراسة والنشر، الطبعة الثانية، 2007.
ـ عبد العزيز بالفايدة، "آلهة الماء وعروسة المطر"، ضمن ملف تاريخ العبادات والديانات التي شهدها تاريخ المغرب، مجلة زمان، عدد مزدوج غشت/ شتنبر 2014.
ـ عبد العزيز بالفايدة، الماء المقدس في شمال افريقيا ما قبل الإسلامية على ضوء النقائش، ضمن ندوة الماء في تاريخ المغرب، مطبعة المعارف الجديدة، 1999.
ـ علي عكاشة وآخرون، اليونان والرومان، دار الأمل للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1991.
ـ محمود ابراهيم السعدني، تاريخ روما القديم، دار النشر نهضة الشرق، القاهرة،1997.
ـ مصطفى العبادي، الامبراطورية الرومانية، دار المعارف الجامعية، مصر، 1999.
ـ ميرسيا إلياد، تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية، ترجمة عبد الهادي عباس، الجزء 2، دار دمشق، ط1، 1986.
ـ محمد أبو زهرة، مقارنة الأديان: الديانات القديمة، معهد الدراسات الإسلامية، 1965.
ـ مونتيسكيو، تأملات في تاريخ الرومان، تعريب عبد الله العروي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 2011.
ـ يسري وناس، معبد المياه بزغوان نبع روماني يروي تونس منذ 19 قرنا، صحيفة العرب، العدد 9965، 01/07/2015.
-L. Leschi, Découvertes récentes à Timgad; Aqua Septimiana Felix, dans CRAI (1947).
[1] محمود ابراهيم السعدني، تاريخ روما القديم، دار النشر نهضة الشرق، القاهرة،1997، ص 10..
[2] مصطفى العبادي، الامبراطورية الرومانية، دار المعارف الجامعية، مصر، 1999، ص 12.
[3] مصطفى العبادي، المرجع نفسه، ص 11.
[4] ميرسيا إلياد، تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية، ترجمة عبد الهادي عباس، الجزء 2، دار دمشق، ط1، 1986، ص 117.
[5] أغسطس: اسمه الحقيقي غايوس أوكتافيانوس، ولد في روما سنة 63 ق.م، وهو مؤسس الإمبراطورية الرومانية وحاكمها من عام 27 ق.م حتى وفاته سنة 14 م.
[6] مصطفى العبادي، مرجع سابق، نفس الصفحة.
[7] أحمد علي عجيبة، دراسة في الأديان الوثنية القديمة، دار الآفاق العربية، ط1، 2004، ص 177.
[8] أحمد علي عجيبة، مرجع سابق، نفس الصفحة.
[9] سور أنطونيونوس: سور روماني قديم بني في اسكتلندا في عهد الامبراطور أنطونيونوس بيوس (138م-161م) لصد هجمات قبائل البكتيين
أو البكتاش.
[10] داشيا: منطقة جنوب جبال الكربات برومانيا الحالية.
[11] إدوارد جيبون، اضمحلال الامبراطورية الرومانية وسقوطها، الجزء الأول، ترجمة محمد علي أبو درة، الطبعة 2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997، ص55.
[12] إدوارد جيبون، مرجع سابق، نفس الصفحة.
[13] افريقيا: اسم أطلقه الرومان على قرطاج تونس حاليا.
[14] أحمد علي عجيبة، مرجع سابق، ص 177.
[15] علي عكاشة وآخرون، اليونان والرومان، دار الأمل للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1991، ص 142.
[16] مونتيسكيو، تأملات في تاريخ الرومان، تعريب عبد الله العروي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 2011، ص15.
[17] لم تكن ايطاليا تسمى بهذا الاسم في الماضي البعيد، وأول من استخدم هذا الاسم هو هيرودوت، وأطلقه على مقاطعة كالابريا، وفي حوالي القرن الأول ق.م عم هذا الاسم على مجموع شبه جزيرة إيطاليا. أنظر علي عكاشة وآخرون، اليونان والرومان، دار الأمل للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1991، ص 142.
[18] محمود ابراهيم السعدني، مرجع سابق ، ص 33.
[19] علي عكاشة وآخرون، مرجع سابق، ص 140.
[20] محمود ابراهيم السعدني، مرجع سابق، ص 33.
[21] محمود ابراهيم السعدني، مرجع سابق، ص 34.
[22] علي عكاشة وآخرون، مرجع سابق، ص 141.
[23] مونتسكيو، مرجع سابق، ص 26.
[24] مونتسكيو، مرجع سابق، ص 43.
[25] محمود ابراهيم السعدني، مرجع سابق، ص 40.
[26] مونتسكيو، مرجع سابق، ص 22.
[27] إدوارد جيبون، مرجع سابق، ص 60.
[28] محمود ابراهيم السعدني، مرجع سابق، ص 51.
[29] أحمد علي عجيبة، مرجع سابق، ص 177.
[30] محمود ابراهيم السعدني، مرجع سابق ، ص 111.
[31] محمود ابراهيم السعدني، المرجع نفسه .
[32] المقصود مجلس الشيوخ الروماني المسمى بالسناتو أو السناتوس، وهو أعلى سلطة تشريعية في روما.
[33] مونتسكيو، مرجع سابق، ص 43.
[34] إدوارد جيبون، مرجع سابق، ص 56.
[35] مونتسكيو، مرجع سابق، ص 39.
[36] مونتسكيو، المرجع نفسه، ص 26.
[37] محمود ابراهيم السعدني، مرجع سابق، ص 111.
[38] محمود ابراهيم السعدني، المرجع نفسه، ص 110.
[39] شارل سنيوبوس، تاريخ حضارات العالم، تعريب محمد كرد علي، الدار العالمية للكتب والنشر، الطبعة الأولى، 2012، ص 144.
[40] أحمد علي عجيبة، مرجع سابق، ص 179.
[41] أندريه ايمار وآخرون، تاريخ الحضارات العام 2: روما وامبراطوريتها، تعريب فريد م.داغر وفؤاد ج.أبوريحان، منشورات عويدات، الطبعة الثانية، 1986، ص 199.
[42] عبد الرزاق الموحي، العبادات في الديانات القديمة، صفحات للدراسة والنشر، الطبعة الثانية، 2007، ص 35.
[43] أندريه ايمار وآخرون، مرجع سابق، ص 210.
[44] تمت اضافة جهاز ديني خامس بعد اعتماد عبادة الأباطرة ضمن العبادات الرسمية في الديانة الرومانية يسمى هيئة عبادة الأباطرة.
[45] أحمد علي عجيبة، مرجع سابق، ص 181.
[46] أندريه ايمار وآخرون، مرجع سابق، ص 206.
[47] إدوارد جيبون، مرجع سابق، ص 57.
[48] إدوارد جيبون، نفس المرجع، ص 59.
[49] أندريه ايمار وآخرون، مرجع سابق، ص 201.
[50] ثاني أكبر أنهار أوربا، ينبع من الغابة السوداء في ألمانيا ويصب في البحر الأسود.
[51] نهر يجري عبر الحوض الباريسي شمال فرنسا.
[52] أحمد علي عجيبة، مرجع سابق، ص 190.
[53] محمد أبو زهرة، مقارنة الأديان: الديانات القديمة، معهد الدراسات الإسلامية، 1965، ص 114.
[54] أحمد علي عجيبة، مرجع سابق، ص 190.
[55] ثاني أطول أنهار إيطاليا، يجري في سهل اللاتيوم ويعبر مدينة روما قبل أن يصب في البحر الأبيض المتوسط.
[56] عبد العزيز بالفايدة، الماء المقدس في شمال افريقيا ما قبل الإسلامية على ضوء النقائش، ضمن ندوة الماء في تاريخ المغرب، مطبعة المعارف الجديدة، 1999، ص 35.
[57] عثر في موقع سبيطلة Sbeïtla في تونس على شاهد نذري يصف إله "ملك الموجات، أبو النيريدات (أي حوريات البحر) وسيّد المياه ".
[58] عبد العزيز بالفايدة، مرجع سابق، ص 36.
[59] شارل سنيوبوس، مرجع سابق، ص 144.
[60] اكتشف في حمام الصالحين بنوميديا (الجزائر حاليا) عدد كبير من النقوش تثبت خاصية الحمام الاستشفائية، منها نقش منذور إلى تنين يشبه أفعى (ثعبان) رمز الشفاء.
كما عثر في منطقة الظهرة التونسية على مذبح قرب حوض داخل حامة، ويحمل نصا منقوشا وصورة للإله [نبتون] إلى جانب ثعبان رمز التطبيب. أنظر أحمد بل الفايدة، الماء المقدس في شمال افريقيا ما قبل الإسلامية على ضوء النقائش، ضمن ندوة الماء في تاريخ المغرب، مطبعة المعارف الجديدة، 1999، ص 36.
[61] عبد العزيز بالفايدة، مرجع سابق، ص 34.
[62] موقع أثري جنوب تونس يبعد بحوالي ستة كيلومترات عن مدينة قفصة.
[63] عبد العزيز بالفايدة، "آلهة الماء وعروسة المطر"، ضمن ملف تاريخ العبادات والديانات التي شهدها تاريخ المغرب، مجلة زمان، عدد مزدوج غشت/ شتنبر 2014.
[64] أحمد سراج، حول استمرارية أحد مظاهر الديانات المائية القديمة بمغرب العصر الوسيط، ضمن ندوة الماء في تاريخ المغرب، مطبعة المعارف الجديدة، 1999، ص 158.
[65] تسمى حاليا بمدينة دقة الأثرية، وتقع على بعد 108 كيلومتر جنوب غرب مدينة تونس العاصمة، وھي أول عاصمة لمملكة نومیدیا قبل الحقبتين القرطاجية والرومانية، وقد ازدهرت خلال الفترة الرومانية.
[66] تسمى حاليا قالمة وهي مدينة شمال شرق الجزائر، تتميز بحماماتها المعدنية وآثارها الرومانية.
[67] مدينة أثرية رومانية شمال شرق الجزائر حاليا.
[68] مدينة تونسية تقع في الشمال الشرقي لمدينة تونس العاصمة حاليا، وتبعد عنها بحوالي ستون كيلومترا.
[69] جسور معلقة تعلوها سواق تنبسط فوق أقواس وأعمدة شاهقة، شُيّدت في العهد الروماني لنقل المياه، على مدى 60 كلم بين زغوان وقرطاج.
[70] يسري وناس، معبد المياه بزغوان نبع روماني يروي تونس منذ 19 قرنا، صحيفة العرب، لندن، العدد 9965، 01/07/2015
[71] عبد العزيز بالفايدة، الماء المقدس في شمال افريقيا ما قبل الإسلامية على ضوء النقائش، ضمن ندوة الماء في تاريخ المغرب، مطبعة المعارف الجديدة، 1999، ص 37.
[72] L. Leschi, Découvertes récentes à Timgad; Aqua Septimiana Felix, dans CRAI (1947).
[73] مدينة أثرية رومانية أقيمت في عهد الإمبراطور، تقع بأقصى شمال شرق الجزائر حاليا.
[74] عبد العزيز بالفايدة، مرجع سابق، ص36.
[75] عمار المحجوبي، المياه والديانات الوثنية في المقاطعات الافريقية، ملتقى زغوان حول المحيط والمياه، المياه والانجراف بولاية زغوان، تونس، 1984، ص 231. عن أحمد بل الفايدة، الماء المقدس في شمال افريقيا ما قبل الإسلامية على ضوء النقائش، ضمن ندوة الماء في تاريخ المغرب، مطبعة المعارف الجديدة، 1999، ص 34.