مرت الكتابة التاريخية بمراحل تدرجت خلالها في تراتبية التطور المعرفي التاريخي، لتصل الغاية التي هي عليها اليوم وأضحت أكثر اتساعا من ذي قبل، فبعد أن كان التاريخ بنفحاته التقليدية، التي لطالما قدمت في اهتماماتها شخصيات من علية القوم كالملوك والقادة العسكريين والسياسيين... وهيمن الحدث السياسي والعسكري من حروب ومعارك... وغلب على التحليل عاملا السرد والوصف التاريخيين. كانت الكتابة التاريخية ومعها التاريخ يسيران بخطى متثاقلة ليس لهما من السبل إلا سبيل السرد الحولياتي )سنة بعد سنة(، والشأن هنا شأن الضفتين معا الشمالية والجنوبية للحوض المتوسط.
لكن وتماشيا مع ما عرفته القارة الأوربية خلال القرن التاسع عشر (قرن العلوم) ستعرف الكتابة التاريخية ما يمكن أن نصفه بالتطاول على القوالب الجامدة من داخل حقل المعرفة التاريخية، حيث سيعرف هذا القرن ميلاد أول مدرسة منهجية في تاريخ الكتابة التاريخية الاوربية "المدرسة الوضعانية الألمانية 1870م"، التي اعتبرت بمثابة أولى الثورات السباقة إلى الرفع من شأن التأريخ، والتي هدف مؤسسوها بقيادة كل من "شارل لنجلوا" و" شارل سينيوبوس" إلى محاولة تحرير الكتابة التاريخية من قبضة الرهبان وغايات الكنيسة، واشترطوا في ذلك مجموعة من القواعد جاعلين في مقدمتها شعار "لا تاريخ بدون وثيقة"[1]، كضرورة لا غنى عنها والتي على أساسها يقطع الطريق عن الهواة. فانغلق التاريخ وانحصر في شعار هذه المدرسة، وظل ما يقارب النصف قرن من الزمن حبيس الوثيقة، ما ضيق الخناق على هذه المعرفة وظلت جامدة مكانها رغم حمايتها، الشيء الذي سيمهد الطريق ويعبدها أمام الثورة المنهجية الثانية في هذا الحقل.
لقد تميزت سنة 1929م بالعديد من الأحداث العالمية لعل أبرزها الكساد الكبير الذي عرفته الولايات المتحدة الأمريكية والذي طال تأثيره جل بلدان العالم زمنئذ. في السنة ذاتها ستشهد فرنسا محطة منهجية ثانية في مسار الكتابة التاريخية، عرفت في المصادر التاريخية ب "مدرسة الحوليات" وهي التي سنوسع شيئا ما القول عند بدايات أحد مكونات نسقها الفكري وهو "التاريخ الذهني".
هدفت المدرسة الفرنسية بقيادة كل من "لوسيان فيفر" و"مارك بلوخ" إلى كسر كل الحواجز التي خلفتها التجربة الوضعانية، والتي حالت دونما تلاقح التاريخ بالمعارف والعلوم المجاورة التي كل بتجربتها، قواعدها وكذا نظرياتها... ستمكن من إضافة الكثير للحقل التاريخي. ليموت مع هذا الانفتاح شعار "لا تاريخ بدون وثيقة"، وأصبح التاريخ ملامسا للعديد من التخصصات المساعدة، وعلى الرغم مما قيل في شأن هذا الانفتاح الذي اعتبره البعض جرأة ومغامرة غير مسبوقة قد تزلق التاريخ في متاهات قوانين العلوم الاجتماعية والإنسانية فيما بعد، حيث وصفت هذه المرحلة بزمن الشك والفوضى بالنسبة للكتابة التاريخية "ازمة التاريخ وازمة وضوح المؤرخين"[2].
إن هذه التجربة المجددة لا من حيث المنهج والمواضيع مع مدرسة الحوليات وعلى الرغم مما قيل في شأنها، قد أكسبت الكتابة التاريخية قوة تحليلية اهتمت بقضايا جديدة لم يكن للمؤرخ عهد بها، لامست ما هو اقتصادي واجتماعي وذهني إلخ. ومن الأسس التي ارتكزت عليها مدرسة الحوليات في رحلتها التطورية هذه توسيع مفهوم الوثيقة التي كانت من قبل محصورة في المكتوبة فقط، حيث سيتم تجاوز هذا المنطق ليصبح كل شيء مصدرا يعتمد في نظر المدرسة الفرنسية، واستطاع مؤرخو الحوليات بانفتاحهم وكذا تطوير أدوات ووسائل عملهم، الرقي إلى صناعة تاريخ اصطلح عليه القول ب "التاريخ الجديد"[3] وأضحى التاريخ بذلك تواريخ فوجدنا تاريخ البنى، تاريخ الهامشيين أو المهمشين التاريخ الذهني... باعتبارها -أي هذه التواريخ- ذات ثقل وحضور في صيرورة التاريخ وفاعل أساسي في مجريات أحداثه.
لعل أبرز أصناف التاريخ الجديد صنف "التاريخ الذهني" الذي هم دراسة تطور فكر الجماعات البشرية والذي حاول تعليل مجموعة من الظواهر والاحداث التاريخية بطريقة تماشت وفلك فكر هذه الجماعات، حيث أضحت النازلة التاريخية المدروسة تتحكم فيها وفق منطق التاريخ الذهني، ارهاصات فكرية تركبت في مخيال الجماعة لفترات زمنية طويلة ترسخت فيها مجموعة من الطقوس والعادات... وكثيرة هي المواضيع التي توافقت تعليلاتها وفق هذا المنظور حيث وجدنا دراسات في هذا الجانب همت تاريخ الخوف وتاريخ الموت...
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الخوض في مجال الذهنيات ليس بالجديد على الحقل التاريخي، لكن إحياءه كصنف مستقل الذات من داخل المعرفة التاريخية تحقق مع مدرسة الحوليات، فقد كان لمجموعة من الدراسات السبق في هذا الشق التاريخي. إذ عرفت بعض الكتابات الاهتمام بتاريخ المواقف والأحاسيس في وقت مبكر بأروبا هذه الدراسات المبكرة لم تؤثر في المؤرخين إلا في وقت لاحق، فاهتم بها الباحثون الفرنسيون، "كميشيل فوفيل" و"فرانسوا لو بران" و"بيير شوني"، في الحقبة ما قبل الصناعية، ثم المختصون في العصر الوسيط كـ "جاك لوغوف"... لينتقل هذا التوجه إلى بريطانيا ثم إلى أمريكا الشمالية[4].
يعتبر كل من الرائدين "لوسيان فيفر" و"مارك بلوخ" من أبرز الذين ألموا بموضوع الذهنيات، فقد كان لوسيان فيفر أكثر قربا من الاهتمام بهذا الشأن، حيث مهدا بذلك إلى مرحلة مهمة في تاريخ الأفكار وفتح بذلك الباب أمام مجموعة من المؤرخين الذين اقتفوا الأثر بعده نجعل في مقدمتهم فليب أرياس، حيث ألهم علم النفس شغف فيفر في خوض هذا المجال من المعرفة التاريخية، ونادى بتاريخ العواطف والحب والموت والفرح والخوف...إلخ، مبينا أن التطرق لها يجب أن يندرج ضمن دراسة شاملة للحضارة. وقد سمح هذا الانفتاح على علم النفس وخصوصا علم النفس الإستعادي (المستعيذ للماضي) بأن يصنع من داخل الحقل التاريخي تاريخ-نفسي؛ حسب قول فرنسوا دوس الذي يرى من أن هذا التطعيم العلمي الجديد الذي سمح بأن يتكون تاريخ-نفسي أصبح ممكنا نتيجة لفقر اختصاص علم النفس الذي يتنازع ميله للممارسة العلمية ونشاطه النظري[5].
كان فيفر دو استثناء في تحليله لذهنية الجماعات البشرية، فقد وضف طرقا وقواعد في هذا الشأن، فبالإضافة إلى كونه من المتعطشين للغوص في عمق التاريخ، كان تأثره بالعوامل النفسية تأثرا خاصا، دفعه إلى تفعيل مقاربة "تقاطع الفرد مع الجماعة" هذه الخاصية أو القاعدة التي على أساسها بنى فيفر ثوابت دراسة الذهنيات (بالمنطق الفيفري) إن صحة التسمية، فتقاطع الفرد مع العالم الذهني للجماعة يعكس بالضرورة النسق الفكري الذي تسبح فيه عقلية هذه الأخيرة، وهو ما تجلى بشكل واضح داخل ثنايا مؤلفيه: "مصير: مارتن لوثر[6]، و"مشكلة عدم الإيمان في القرن السادس عشر: ديانة رابليه[7].
يقول فرنسوا دوس: «...يعبر ثنائي فرد/جماعة عن نفسه في قالب إشكالية لوسيان فيفر على النحو التالي: ليس الفرد إلا ما يسمح به عصره ومحيطه الاجتماعي. وفي كتابه لوثر وضع لوسيان فيفر وجها لوجه نفسية الفرد، هو لوثر مع المحيط الذهني لألمانيا في القرن السادس عشر...»[8]
وهو الشأن الذي استحضره في مؤلفه "ديانة رابليه" حيث سيتواجه هذا الأخير مع النسق الفكري لفترة القرن السادس عشر وسيخضع كل من رابليه وذهنية عصره لمقاربة فرد/جماعة.
إذن، يمكن القول من أن فيفر قد سن قانونا/قاعدة في مجال تاريخ الذهنيات، هم بالأساس التطور السيكولوجي للفرد وأولى فيه الاهتمام للمواقف الجماعية تجاه هذا الأخير. هذه القاعدة تجعل الراغب من المؤرخين في خوض غمار هذا الشق من المعرفة التاريخية، الالتزام بخطى فيفر وتفعيلها كأساسيات تحمي ذات المؤرخ من فخ الانزلاق في قوانين علم النفس الخاصة بهذا الأخير كعلم مستقل الذات، وتجعل في نفس الوقت المؤرخ متشبثا بخصوصيته التاريخية، حتى لا يقع ضحية ما وصفه "فرانسوا دوس" بالتجربة الانتحارية المزدوجة: إما الذوبان في العلوم الإنسانية أو العودة الاضطرارية للتاريخ التقليدي الوضعاني. وليست قاعدة فيفر الوحيدة في هذه التجربة والتي لا غنى عنها في مجال التاريخ الذهني، بل أضاف مارك بلوخ بتجربته قانونا جديد لهذا الحقل.
لقد خالف مارك بلوخ بطرحه المقدم في مجال التاريخ الذهني، مقاربة زميله لوسيان فيفر-فرد/جماعة-، فعلى الرغم من توحد همهما المشترك تجاه حقل الذهنيات، إلا أنه كانت لكل واحد منهما وجهة نظر تؤسس لها تجربتهم الخاصة. فإذا كانت ذهنيات الجماعة تعكس بالمنطق الفيفري من خلال هذا التقاطع، فإن مارك بلوخ يرى شيء آخر، فهو يذهب القول إلى أن هناك روابط حسية تجمع بين المواقف الدينية والوقائع الاجتماعية وعلى أساس قاعدة جدلية المؤثر-المتأثر يمكن فهم وتجلي الخلفيات الذهنية للجماعة، فالطقوس والعادات هي عبارة عن ممارسات تشكلت على مدى زمني طويل الأمد جمعت بين الصنفين المذكورين، هي الحقيقة الذهنية للجماعة بمنطق بلوخ، وهو ما يتضح جليا من خلال كتابه "الملوك صانعوا المعجزات" بوصف الممارسات الجماعية والرمزية والتمثلات الذهنية غير الواعية لمختلف المجموعات الاجتماعية[9].
أقام مارك بلوك بنيان مقاربته من انفتاحه على علم الاجتماع، الذي استطاع من خلاله بلوغ مرحلة تجسيد لاوعي الجماعة، عبر الطقوس الدينية والممارسة الاجتماعية، التي يمتزج فيها الموروث بالآني: ... يجب مراعاة جاذبية القدسية الدنيوية وثنائيتها السماوية واندفاع صور العقلية الجماعية المتراكمة حولها، فهل بإمكاننا فهم الحروب الصليبية دون التنبه للعقلية الدينية ؟؟[10]
وعليه ووفق منطق هذا القانون تتجلى لنا ذهنية الجماعة بمنطق مارك بلوخ، حيث ستظهر جلية داخل مؤلفه: الملوك صانعوا المعجزات[11]، إذ أرخ بين دفتيه تمثلات ذهنية الجماعة الأوربية زمنئذ تجاه ملوك فرنسا وبريطانيا، والأساطير المنسوبة إليهم من خوارق كشفاء العليل من بعض الأوبئة والأمراض (الطاعون، داء الخنازير...) التي كانت تعصف بالقارة الأوربية من حين لآخر، حينما كانت توصف بكونها سخطا إلهيا في حق الآثام والذنوب المقترفة، فكان الملاذ يومها تجاه هؤلاء الملوك حلا لا بديل له. هذا النموذج للممارسة الجماعية عكس ذهنية هذه الأخيرة بالنسبة لمارك بلوخ، والتي هي بالضرورة نتاج لتراكمات تاريخية (قروسطية) وممارسات ووقائع اجتماعية آنية.
يوضح المؤرخ فرنسوا دوس تجربة مارك بلوك في غمار تاريخ الذهنيات من خلال كتاب هذا الاخير "الملوك صانعوا المعجزات" ما يلي: ... وانطلاقا من هذه التجربة ومن خلال مسيرة تكرارية كان يدعوا إليها مارك بلوخ كنموذج، يسأل الاعتقاد الجماعي في قدرة الملوك على الشفاء ليستخلص بأن المسألة هي (خبر كبير كاذب). ولكن عندما يتناول بالدرس تاريخ الذهنيات فهو يضعه مشروع شمولي شاسع [...] وطويل من خلال المدة الزمنية كما يدمج كل خصائص المجتمع...»[12]. لعل المقاربة التي وظفها "مارك بلوك" حاولت تتبع التطور الفكري والاجتماعي وخصوصا الفكر الديني وذلك وفق قاعدة الأمد الطويل، كمؤثر حاسم في صياغة ذهنية الجماعة.
وعليه، سيعرف حقل الذهنيات بعد كل من مارك بلوك ولوسيان فيفر نضجا مع مجموعة من المؤرخين الحولياتيين من أمثال: فيليب أرياس، جاك لوغوف، ميشيل فوفيل الذين قدموا طروحات جديدة في هذا الشق من المعرفة التاريخية، إلا أننا ارتأينا فيما قدمناه الوقوف عند بدايات هذا الصنف وكذا توضيح قواعده ووسائله التي اعتمدت وفعلت فيه.
لنقل بإيجاز من أن المعرفة التاريخية قد تطورت من الخضوع لغاية الإكليروس/اللاهوتيات، وهي المرحلة التي تعرفها في المصادر التاريخية بالمرحلة التقليدية، مرورا بتقديس الوثيقة خلال عهد المدرسة الوضعانية والانحصار داخل رقعة هذا الأخيرة، وصولا إلى مرحلة الانفتاح الحولياتي، وصياغة مفاهيم ومعارف جديدة لعل أبرزها حقل الذهنيات، ووقوف عند زمن الشك والفوضى والشك. لننظر بناء على هذا المسار التراكمي إلى التاريخ بأروبا على أنه سلسلة من التجارب الإبستمولوجية التاريخية التطورية الحاسمة. الشيء الذي يجعلنا نتساءل عن ماهية إهمال هذه المعرفة بالضفة الجنوبية؟ أم أن هذا العزوف فرضته التطورات السياسية التي كانت تعرفها الضفة الجنوبية الشيء الذي لم يسعف المجال أمام هذا النقاش المعرفي التاريخي كما هو الشأن بالنسبة للشمال، لتبقى مع هذا التساؤل إجابات عدة معلقة.
البيبليوغرافيا
· خالد طحطح، الكتابة التاريخية، الدار البيضاء، دار توبقال، 2012م.
· محمد حبيدة، كتابة التاريخ، قراءات وتأويلات، الرباط، دار أبي رقراق، 2013م.
· عثمان حسن، منهج البحث التاريخي، القاهرة، دار المعارف، الطبعة الثامنة، م2000.
· إشراف جاك لوغوف، التاريخ الجديد، ترجمة محمد الطاهر المنصوري، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2007م.
· فرنسوا دوس، التاريخ المفتت، من الحوليات إلى التاريخ الجديد، ترجمة محمد الطاهر المنصور، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2009م.
· [1] Bloch (M.), Les Rois thaumaturges : Etude sur le caractère surnaturel attribué à la puissance royale particulièrement en France et en Angleterre, nouvelle édition, Paris, Colin, 1961.
· Febvre (L.), Un destin, Martin Luther. Presses universitaires de France, Paris, 1968.
· Febvre (L.) Le problème de l’incroyance au XVIe siècle La religion de Rabelais, Éditions Albin Michel, Paris, 1947.
[1] عثمان حسن، منهج البحث التاريخي، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثامنة، 2000، ص 117.
[2] خالد طحطح، الكتابة التاريخية، الدار البيضاء، دار توبقال، 2012، ص 110.
[3] إشراف جاك لوغوف، التاريخ الجديد، ترجمة محمد الطاهر المنصوري، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2007م. ص 84.
[4] محمد حبيدة، كتابة التاريخ، قراءات وتأويلات، الرباط، دار أبي رقراق، 2013م، ص 52.
[5] فرنسوا دوس، التاريخ المفتت من الحوليات إلى التاريخ الجديد، ترجمة، محمد الطاهر المنصوري، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، ص130.
[6] Febvre (L.), Un destin, Martin Luther. Presses universitaires de France, Paris, 1968
[7] Febvre (L.) Le problème de l’incroyance au XVIe siècle La religion de Rabelais, Éditions Albin Michel, Paris, 1947.
[8] فرنسوا دوس، ن م، ص132.
[9] نفسه، ص131.
[10] محمد حبيدة، من أجل تاريخ إشكالي، ترجمات مختارة، القنيطرة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 2004 ص120.
[11] Bloch (M.), Les Rois thaumaturges: Etude sur le caractère surnaturel attribué à la puissance royale particulièrement en France et en Angleterre, nouvelle édition, Paris, Colin, 1961.
[12] فرنسوا دوس، ن م، ص141.