كان يقال دوما والعهدة على من روى، أننا سقطنا ومن حيث لا ندري في عصر الانحطاط بعد أمجاد وبطولات قل نظيرها اليوم، كما قيل دوما أن أجدادنا كانوا ذات يوم يتسيدون العالم بإنجازاتهم وعلومهم ومعارفهم، ربما هكذا تم التسويق لفترة لازالت معتمة في تاريخنا، أو لربما أنشأنا وهما من خلاله بررنا ونبرر فشلنا في الحاضر، ونجد له منفذا نحو الماضي بدل التفكير في التخلص منه.
بداية وجب علينا كمنطلق لهذا القول التفريق تمام التفريق بين الحضارة الإسلامية بمختلف مشاربها، والمنطقة العربية بمجموع أنواع سكانها وأصنافهم من عرب بائدة وعاربة ومستعربة وعجمية...، الحضارة الإسلامية استلهمت قوتها الكبيرة من التنوع الثقافي ومن تاريخ الأمم التي سقطت تحت جوانح حكمها، من قبيل الفرس وبابل وشرق أوربا وقرطاج والهند والأندلس، حيث تغذت بما أنتجه تاريخ هاته الأمم بما أنهم كانوا قوم مدن وليسوا أهل انتقال وعدم استيطان، ربما كانت حظوة العرب تتجلى في لغة القرآن ونسب النبي لا غير، ودليلنا على ذلك ليس يكمن إلا في نصوص التاريخ، حيث كانت الدعوة المحمدية وما بعدها من عصر الخلفاء الراشدين، دعوة تتأسس على إدخال الإسلام لغير المسلمين دون التفكير في الصناعات العلمية والأدبية والمعمارية... وذلك راجع إلى طبيعة أهل شبه الجزيرة العربية التي كان يغلب عليها طابع البداوة أكثر من التمدن، لهذا كانت صناعاتهم هاته تكاد تغيب إن لم نقل بعدم وجودها في الأصل، من ثمة كان لا بد لنا من الحديث عن تاريخ جريح قبل الخوض في وهم التفوق، كما إنه لا بد من التفصيل في التمزق العربي قبل النهضة العربية غير المحققة لحد الساعة.
عندما نتأمل حالنا الذي نحن عليه اليوم كما البارحة، نجد أننا نعرف تمزقا على كل المستويات، التاريخ يصنعه الأبطال، والحاضر ترجمة وحصاد لحرث الماضي، والحال أن هاته النتيجة المنطقية ستضعنا لا محالة أمام تناقض شارخ، إذ كيف نفسر فساد الدول العربية مقارنة بالتفوق الذي تصنعه دول أخرى تشاركنا نفس الديانة وتختلف عنا في الأصل من قبيل إندونيسيا وإيران وتركيا والهند شيئا ما؟ الحال أن الدراسات الفلسفية والتاريخية وعندما تعمل على النبش في ماضي أسلافنا بمناهج علمية دقيقة، تجد أن ماضينا كان دوما ماضيَّ الدسائس واللهو والفوارق الطبقية الكبيرة جدا بين حاكم باذخ ومحكوم بائد، من ثمة فلو عرفنا ولو جزءا يسيرا من التحضر في الماضي ما كنا لنعرف انحطاطنا في الحاضر كما هو عليه اليوم، صحيح أن آلة الزمن تدور على الجميع، بيد ان الحضارات العظيمة قد تشيخ وقد تمرض لكنها لا تموت أبدا، والواقع أن أي تصرف منا إن هو إلا تراكم ووراثة أخذناها عمن سبقونا حيث أخذوها عمن سبقوهم وهكذا دواليك.
تعاني اليوم كل الدول العربية من مشكل التمزق، كما تتخبط في جراحاتها التي ما إن تنتهي حتى تبدأ من جديد، فكرنا فكر مثقل كثيرا بالعقم حيث لا ينتج إلا العقم، وسياستنا هي الأخرى أبت أن تخرج عن منطق الحتمية التاريخية لصالح إرادوية الفرد فباتت بركونها هذا أتعس مما كانت عليه، وقس على ذلك في مجالات شتى، والحق أن هذا الأمر سيؤثر لا محالة على الشخصية العربية أكثر مما عليه الآن، لهذا فإنه من المنطقي أن نعيش في ظل واقعنا الحالي، كما إنه ليس من المنطقي أن نكون اليوم أكثر حظوة من ذي قبل، من جانب آخر فإنه ومن أجل الوقوف جيدا على تيمة قولنا هذا، سنحاول أن نحصر أبعاد التمزق العربي وجراحه في بعدين على سبيل المثال لا الحصر، أولهما البعد الفلسفي، وثانيهما البعد الأدبي.
ربما إنه لا داعي للبحث عن بنية أمة ما، بتلك الطريقة الكلاسيكية التي تدرس كل ثقافة عن طريق المعاينة المباشرة، صحيح أن في ذلك أهمية كبرى لكنها غير محدودة، وعليه فقد وجب الوقوف عند ثقافة ما عن طريق الاطلاع على برامج ومشاريع مفكريها، المفكرون مرايا مجتمعاتهم بصريح العبارة، وما اهتماماتهم سوى انعكاس مباشر لبنية فضاءهم وواقعهم المعيش، ومنه فإن تمزق الشخصية العربية يتأسس على تيمة الخوف من الخوض في إشكالاتنا الفكرية وتعويضها في اجترار ما سبقنا إليه غيرنا، إذ هل بإمكاننا أن ننتج قولا صريحا حول الإنسان كذات عدمية ونحن لم نكن سوى شعوبا مستعمرة خلال القرنين الفائتين؟ وكيف يمكننا أن نتحدث عن الإنسان العربي وفي مجتمعنا لا زلنا لم نعرف بعد مفهوم الإنسان كذات مسؤولة ومريدة وفاعلة وقادرة، لها حقوق وعليها واجبات؟ الحال أن النزر القليل الذي كتب حول الذات العربية جلد الذات أكثر مما قدم حلولا عملية، وما جلد الذات من طرف أطباء الحضارة إلا أمّارة على الضرب العميق للتمزق فينا فما بالك بالمواطن العادي.
في نفس المعرض تكمن أشكال ومظاهر تمزقنا على المستوى الفكري أيضا، تكمن في سقوطنا المدوي في مشكلة المقارنة التباينية أي تلك المقارنة التي تخلق فوارق جد شاسعة بين المقارَن والمقارن عليه، وهو ما يولد فينا الإحساس بالوهن والضعف والدونية، والحق أن السير على هاته الشاكلة قد يضعنا أمام معضلة الشعور بالتشظي، كما ينمي فينا مرض الهوية الممزقة، فلنعد إلى أهم العناوين المؤسسة للفكر العربي المعاصر والتي تدور أغلبها حول سؤال الحداثة من بعدها النظري، مثلما تتأسس أيضا على إشكالية الهوية والاختلاف من نظرة أرسطو أو انطلاقا من نقد فلسفة نيتشه، دون التمكن من اكتساب شجاعة الإبداع الفكري الخاص الذي يساهم في العالمية والكونية.
عندما نعود إلى أهم الروايات وإلى أهم الدواوين الشعرية لا نكاد نعثر على عمل أدبي يحتفل بالحياة على غرار كتابات كونديرا وبيكيت، أو مؤلفات تنحو إلى إضفاء طابع إشكالي على الكينونة مثل ما قام به كامي أو همنغواي أو أندري جيد، إن أهم عناوين الأدب العربي لا تكاد تخرج عن دائرة البطل المأساوي، البطل الذي يصارع النسيان ويحاول أن يجعل من تضحياته بطولة تتغنى بها الأجيال، ربما هذا حال زماننا وحال واقعنا كذلك، بيد أن كل أدب غير مغامر إنما مصيره النسيان، لهذا فإنه ليس من العيب أن تتسيد الشخصية الممزقة كتاباتنا، العيب كل العيب هو عندما نحتفي بها كحالة تميزنا، أو لما نقوم بتكريسها كشيء عادي تماما، أو عندما ننسى أنها ديدن واقعنا، وهو ما يدل على وصول المرض إلى آخر الأعضاء السليمة في انتظار موت محقق لا محالة.