[أ]
«يَا أُمَّةً ضَحِكَتْ مِنْ جَهْلِهَا الأُمَمُ» [أبو الطيب المتنبي]
[ب]
«وليس يكفي أن يُقالَ للنَّاس كُلوا ليأكُلوا ويأْمَنُوا شرَّ الجوع، وليس يكفي أنْ يُقالَ للنَّاس تعلَّمُوا ليتعلَّمُوا ويَأْمَنُوا شَرَّ الجَهْل، وإنَّما ينْبَغِي أنّ يُهَيَّأَ الطَّعامُ على قَدْر الطَّاعِمِينَ وأنْ يُهَيَّأَ العِلم على قدر المُتَعَلِّمِين، فإن لم نفْعَل كانتْ دَعْوَتُنا إلى الطَّعام وإلى العِلْم أشْبَه بِعَبَث جُحا حين أرادَ أن يُقَسِّمَ تسع عشرة إوَزَّةً على عشرين رَجُلاً قِسْمَةً سواء» [طه حسين]
[ج]
لعل من بين المُعْضَلات الكبرى التي حَاَقَتْ بنا، وأصبحنا فريسةً لها، ولِما يترتَّبُ عنها من نتائج خطيرة، هي أنَّنا أمُّةٌ لا تقرأ. وما يزيدُ من ثقل هذه المُعْضِلَة علينا، هو أنَّنا لم نَسْتَجِب حتى للقرآن الذي بات اليوم ذريعةً، في يَدِ الكثيرين لتبرير القَتْل والجَهْل والنُّكوص، في أمره، ليس للرسول، فقط، بل لجميع من آمَنّوا برسالته «اقرأ». ففعل القراءة، لا يقتصر على قراءة القرآن وحده، أو الاكتفاء بكتب العبادات والمعاملات، أو ما له صلة بشأن الدِّين. هذه أمور تدخل في سياق العلاقة بالله، أو هي في جوهرها، تدخل في سياق علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالكون أو بالوجود. ففهم القرآن وتَدَبُّر ما فيه من أسرار، يكفي، بالنسبة لمن آمَنَ واقْتَنَع، ليفهم معنى الرسالة، وما تحمله من مضامين، دون إفراط في الشرح والتأويل، أو في تهويل الوُجود مقابل العَدَم، إلى الدرجة التي تصير معها «الحياة الدنيا» شَرّاً، أو هي قَبْرٌ لا معنى للحياة فيه، ووجود الإنسان، في الحياة، هو وجود بلا قيمة، وبلا طائِل.
أن نقرأ، معناه أن ننفتح على كل العلوم والمعارف، وأن نجعل من العقل «قائداً»، بتعبير المعري. فليس عبثاً أن يكون المسلمون، في عُصورِهم الماضية، اهتمُّوا بالتعليم، وبَنَوْا المدارس والجامعات، وأسَّسُوا المكتبات، وحَرِصّوا، على جَلْبِ الورق وتصنيعه في بغداد على عهد هارون الرشيد، والاهتمام بجمع الكتب والمخطوطات، والاهتمام بترجمة الفكر اليوناني عند فلاسفته الكبار، وترجمة كتب المنطق والفَلَك والرياضيات والرَّي والزراعة، وكل ما يتعلَّق باستصلاح الأراضي الزراعية، وشَقِّ أقْنِيَة السَّقْي لِمَدِّ الأرض بالماء، والمعرفة بأحوال الأرض والسماء. فقد لعب الأمويون، دوراً مُهمّاً في هذه الدينامية الثقافية والمعرفية، وهو ما ضاعف العباسيون من وتيرته، بشكل خاص، على عهد المأمون، ببناء «بيت الحكمة»، وحرصهم على الاستثمار المعرفي والعلمي، في النهوض، وفي بناء دولةِ العُلماء والمفكرين والفقهاء، ممن يحتكمون في رؤيتهم للعقل، وللفكر المتنوِّر الذي لا يأكله التَّطَرُّف والشطط في التأويل، وفي تعطيل فكر الإنسان، ليصير كائناً بلا رأس، أو ليصير كائناً برأسٍ مملوءة بالتِّبْن أو بالقَشّ، رغم ما يمكن التحفُّظ عليه، في أمر المأمون نفسه، في ما يتعلق بما عُرِفَ بـ «محنة ابن حنبل»، التي لم يُتَح فيها تكريس الحق في الاختلاف وإبداء الرأي، دون بلوغ حَدِّ القَتْل أو السَّحْل.
القراءة، ليست هي أن نفتح كتاباً ونقرأ في حديقة أو في مكان عام، فهذا أمر فردي، يتعلَّق بطبيعة التربية التي نتلقَّاها في علاقتنا بالكِتاب وبالقراءة، إجمالاً، وليست بهذه اللحظة التي لا يمكنها، بأي وجه كان، أن تكون مفيدةً. وليست القراءة هي أن نجلس في منصَّاتٍ لِنُلْقِي خُطَباً بشأن القراءة، ونعمل على تحريض الناس على القراءة، أو دعوتهم ليقرأوا. معضلة القراءة أكبر من هذا بكثير، وأكبر من أن نختزلها في «شبكات للقراءة»، وكأننا بصدد صيد السراطين والأسماك أو الدَّلافين. إنَّها قضية مجتمعية بامتياز، الدولة لها فيها نصيب الأسد، باعتبار ما لها من إمكانات، وما لها من مؤسَّسات، هي بمثابة الأذْرُع التي تَمْتَدُّ لقطاعات واسعة من المواطنين، وخصوصاً التلاميذ والطلبة. بل إنَّ وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني، ووزارة التعليم العالي، ووزارة الثقافة، ووزارة الشبيبة والرياضة ووزارة الإعلام، هي بين الوزارات التي لها علاقة مباشرة بموضوع القراءة. فإذا كانت المدرسة والجامعة، اليوم، تكتفيان بالمقررات الدراسية، وهي مقررات تخلو من المتعة والفائدة، وتعاني بؤساً معرفياً حقيقياً، كما تخلو من المعرفة والاجتهاد، ومن حَفْز التلاميذ والطلبة على البحث والرغبة في المعرفة، لابتعادها عن السياقات الراهنة، وعمّا أصبح يُعْرَف، اليوم، بـ «مجتمع العلم والمعرفة». فالمدرسة التي تغتال الفكر الفلسفي، وتغتال القَلَق والسؤال، وتمنع الفُضول المعرفي، وتنتقي من النصوص، ومن المؤلفات، ما تراه يخدم فكرها وتوجُّهاتها العقائدية أو الأيديولوجية، وتُقْصِي فكر الحداثة والتنوير، أو تنتقي منه ما يبدو مفيداً لها، أو يخدم مصالحها في تكوين الإنسان التابع، المُقْتَنِع، الطَّائع الذي لا يسأل، أو يكتفي بما يسمعه من إجاباتٍ، هي مدرسة تعمل على تعطيل القراءة، وبالتالي تعطيل المعرفة وكَبْحِها، ولَجْم حركية المجتمع، وتحويلة، بالتالي، إلى مجتمعِ فُرْجَةٍ واستهلاك.
أذكر، في سنوات السبعينيات وإلى غاية النصف الثاني من الثمانينيات، كيف كانت المكتبات العامة، أو «البلدية»، على قِلَّتِها، ومكتبات دور الشباب، مشْتَلاً للقُرَّاء، وكان انتظار كتاب في يَدِ قاريء مُنْكَبٍّ عليه، أو سَبَقَنا إلى اقْتِراضِه، يتطلَّبُ مِنَّا صَبْراً للحُصول عليه، ووصبراً آخر لقراءته، ولتدوين الملاحظات والخُلاصات التي كُنَّا نحرص على تثبيتها على دفاترنا، التي كانت هي ما نَنْكَبُّ عليه، في ما بعد لتفكيرِ ما قرأناه، وما سجَّلْناه من ملاحظات وأسئلة. المدرسةُ، كانت آنذاك، بِمُدَرِّسيها، ممن الْتَحَقَ أغلبُهُم بالجامعات في ما بعد، أو انتقلوا لمِهَام ووظائف أخرى أخرى، وأغلبهم اليوم تقاعدوا، كانت فضاءً للنقاش المعرفي الحُرّ، في الأدب كما في الفلسفة والفكر، وفي العُلوم، وفي كل ما يَتَّصِل بالمقررات الدراسية التي كانت جديرةً بوضعنا في «قلق الحافة» بتعبير الصديق الشاعر فوزي عبد الغني.
الكُتُب التي كُنَّا نَسْتَعيرُها من هذه المكتبات، كُنَّا نحرص على قراءتها قبل نهاية المُدَّة المُحَدَّد للإعارة، وهذا ما كان بين أسباب حرصنا على تلخيص وتدوين ما نقرأه، فنحن كُنَّا نقرأ الشِّعر، كما كُنَّا نقرأ المسرح والرواية والنقد والقصة، والفلسفة والسياسة والتاريخ، وكل ما كان يسقط في يَدِنا من معارف، أو كُتُب. لم نكن ننتمي لأُسَر تُوَفِّر لنا المال لشراء هذه الكُتُب، فنحن كنا ننتمي لأسر فقيرة، أو متواضعة الحال، وكانت هذه المكتبات هي ما نُعَوِّض بها رغبتنا في القراءة والبحث. فأنْدِيَة القراءة التي كانت في دور الشباب، وكان يؤطِّرُها أساتذة مناضلون بالمعنى الحقيقي للكلمة، كان لها دور فاعل في تكويننا، وفي فتح آفاق المعرفة في وجوهنا. هذا، طبعاً، دون أن أتحدَّث عن دور الأندية السينمائية، ومسرح الهواة، والجمعيات التربوية المهتمة بالتخييم الصيفي، ودروس التقوية والدَّعْم التي كانت تُعْطَى لنا بالمجَّان في دور الشباب، في الرياضيات وفي اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وفي الفلسفة والفكر الإسلامي.
في هذا الجو النِّضالي، تعلَّمْنا قراءة الجرائد، وأصبحت السياسة جزءاً من تكويننا الثقافي، وكانت الملاحق الثقافية، فُرْصَةً لنا لمتابعة ما يجري من ندوات ومحاضرات وقراءات شعرية، ولمعرفة آخر الإصدارات. فاختياراتُنا الفكرية أو السياسية خرجت من هذا النوع من التكوين الذي لم نكن نكتفي فيه بالمدرسة، وبالمقررات المدرسية، التي اعتبرناها مجرد وسيلة، وليست هي الغاية في ذاتها، رغم أهَمِّيَتها، وما تركتْهُ فينا من آثار لا يمكن نسيانُها.
صحيح أنَّ الدولة لم تكن مَعْنِيَةً بشأن القراءة، ولم تكُن مُرتاحةً لهذه الحركية، أو الدينامية التي كانت شامِلةً، وكان فيها للمدرسة دور كبير، ليس باعتبار برامجها وأهدافها، بل باعتبار المُدَرِّسين الذين كانوا، في أغلبهم، من اليسار المغربي، أو ممن كانوازمتعاطفين مع اليسار، وممن شملهم الاعتقال والتنكيل في ما بعد، كونهم كانوا منخرطين في هذا العمل الثوري ـ النضالي، الذي إن كان لم يُفْضِ إلى تغيير «النظام»، كما كان يرغب هذا اليسار، أو بعض اليسار، فهو غَيَّر فِكْرَ جيلٍ أو جيلين كامليْن، ووضعهما في طريق المعرفة، قبل أن تتدخَّل الدولة، وبمخطط تجهيلي مقصود، لأفراغ المدرسة من محتواها، وتحويل الجامعات إلى ثكنات للمُخبرين، وإغلاق شعب الفلسفة واستبدالها بشعب الدراسات الدينية، التي آلتْ في ما بعد لِما آلتْ إليه من فكر ماضوي اجتثاتيّ، هو ماأفضى إلى ما عرفه المغرب من تفجيراتٍ، لا سابق له بها.
إذا كانت الدولة هي مَنْ عَمِلَت على تخريب المدرسة والجامعة، وعلى تعطيل مجتمع العلم والمعرفة، وليستْ لها سياسة واضحة في هذا الشأن، أعني سياسة ثقافية شاملة، القراءة ضمن ما يدخل فيها، فهي اليوم المعنية، بكل مُؤسَّساتِها ذات العلاقة بالموضوع، بإصلاح ما أفْسَدَتْه، وبوضع برنامج مُتكامِل، تُساهِم فيه جميع القوى والأطراف، لإنقاد ما يمكن إنقاده. فما يَعْتَرِينا من جهل وسَطْحِيَة، وبروز ظواهر اجتماعية في صفوف الشبان، فيها عنف وتطرُّف، هي نتيجة لتعطيل وظيفة المدرسة، ووظيفة الإعلام، ووظيفة الثقافة والمعرفة، بما في ذلك وظيفة الحزب والنقابة، ووظيفة الجمعيات المختلفة، التي انخرطت اليوم، في ما يُسَمَّى بمشاريع « التنمية البشرية»، شكلاً ومظْهراً، في ما الإنسان بقي خارج هذا الاهتمام، وهو المعني به قبل غيره.
مُبادَرات الدعوة للقراءة، مُهِمَّة، ويمكن أن تكون لها بعض الآثار الجانبية، لكن، إذا بقيت الدولة تعطي المال، فقط، دون أن تنخرط بمؤسساتها، ودون أن تفتح الإعلام على المعرفة والبرامح التثقيفية، وبرامج الدعاية للكِتاب والتعريف بالكُتَّاب وبمجالات اشتغالاتهم، وبالإصدارات الحديثة، فهي كمن يَصُبُّ الماء في الرّمْل، أو ينفُخ فب قِرَبٍ مثقوبة.
كم عدد المدارس التعليمية التي تتوفر على مكتبات، بما فيها من كتب وحواسيب ووسائل للاستمتاع بالموسيقى، وأندية للمسرح والموسيقى والرقص والرسم؟ وإذا كانت بعض هذه المدارس فيها مكتبات، فما طبيعة الكُتب الموجودة فيها، وهل يَتِمّ تَحْيينُها، وهل هي داخلة في البرنامج التعليمي، أم هي مجرد خُضَر على طعام، كما نقول في المثل العام؟ وهل ما زالت دور الشباب تحتوي على مكتبات، وبأي معنى، ووفق أي برنامج وأي أفق؟ ثم ما دور ونصيب المكتبات، هذه، إذا وُجِدَت، من الكِتَاب المغربي، في كل حقوله وبمختلف اللغات والتَّعبيرات؟
أعتقد أنَّ المال الذي نُخَصِّصُه لأمور لا طائلَ منها، ينبغي أن ينصب على اقتناء الكتب، وعلى دعم سوق النشر والتوزيع، وعلى تجديد محتويات المكتبات المدرسية، وتحيينها، وإحياء هذه المكتبات من خلال أندية القراءة، ودعوة الكُتَّاب والمبدعين والمفكرين والفنانين لِلِّقاء بالتلاميذ والطلبة، والحديث معهم بشأن أعمالهم، وبشأن أهمية المعرفة، لتصبح المدرسة والجامعة، خارج الأسوار التي ضَرَبتْها على نفسها، فأصبحت سجوناً، أو معازل لا علاقة لها بالمجتمع. فخارج المعنى السُّقراطي للمعرفة، ستبقى كل الجهود غير ذات جدوى، وهذه إحدى مآزق جامعاتنا اليوم، بمفهومها الأكاديمي الصِّرف.
لِنَسْتَثْمِر في الإنسان، في تربيته وتعليمه، لا في دعوة المعلمين لعدم تقبيل التلاميذ أو احتضانهم، فهذا جهل آخر جرَّنا إليه هؤلاء الذين سقطوا علينا من السماء. فالإنسان هو نواة كل تغيير، وكل تثوير، وهذا ما عناه القرآن نفسه، حين كَرَّمَ الإنسان، وفضَّلَه عن سائر المخلوقات «وكرَّمْنا بني آدَم … وفَضَّلْناهُم علَى كثير مِمَّن خلَقْنا تفْضِيلاً»[الإسراء 70].
لا معنى لِمجتمع دون إنسان، ولا معنى لإنسان دون معرفة، ولا معنى لمعرفة دون كِتَاب. ما يدعونا لِحَثِّ الدولة، وفق ما كنتُ سمَّيْتُه في كتاب «المثقف المغربي بين رهان المعرفة ورهانات السلطة» بـ «المخطط الاستعجالي للقراءة»، على أن تتحمَّل مسؤوليتَها كاملةً، وتخرج بنا من هذا التَّخَبُّط الذي نعيشه في كل شيء، وكأنَّنا نسبحُ في لُجِّ مياه ثقيلةٍ لا تسمح لنا بالحركَة، أو بالسباحة بِحُرِّيَة، ما يشي بَغَرَقٍ حَتْمِيّ لا مَفَرَّ منه، متى بقِيَ الوضع على ما هو عليه..