يؤمن علماء اللسانيات الاجتماعية بنظرية اتساع اللغات وانقسامها، وتقول كتبهم أن كل لغة تتوسع في مساحة انتشارها واختلاطها بأكبر عدد من اللغات يعرّضها للانفجار والانقسام إلى لهجات. ويقول الكاتب الفرنسي لوي جون كالفي في كتابه سوق اللغات أنه "كلما اتسَعت المساحةُ التي تنتشر فيها لغة معينة أصبحت اللغة أكثرَ قابليةً لكي تنقسم إلى لهجات". ويبدو هذا الرأي أو القاعدة عند اللسانيين هو ما يجعل التخوف واردا عند بعض اللغويين العرب تجاه ما يمكن أن يحدث للغة العربية. وهو تخوف مشروع نظرا لما آلت إليه اللغة اللاتينية في العصور الأخيرة، حيث انقسمت داخليا إلى لهجات تحولت فيما بعد إلى لغات مستقلة عن بعضها، وأضحى الفرنسي أو الإسباني أو الإيطالي المعاصر يصعبُ عليه قراءة نصوص القرن 15 الميلادي وما قبله.
ونبه ابن خلدون في مقدمته إلى تأثر اللغة العربية، في تحولها التاريخي، بالأمصار وبتنقل القبائل العربية ما قبل الإسلام، إلى توحيدها أواخر القرن الثاني الهجري مع حركة التدوين الثقافي والعلمي. كما تعرضت العربية، بالرغم بقيامها بوظائف: تواصلية ودينية وعلمية وفنية وحضارية، لهجمات خارجية ولمحاولات سلخ لهويتها. إذ تحيل دراسة تاريخ العربية وأنماطها إلى ضرورة قراءة هذه اللغة في توحدها وفي انقسامها الداخلي، أي دراسة العربية الفصحى وعلاقتها باللهجات (أو العامية) المتزامنة معها. الشيء الذي يوحي أيضا بتدخل دراسات اللغة النحوية والصرفية والصوتية في البناء المشترك لنظمها، على غرار قوانين التطور التاريخي للغات البشرية.
كانت الجزيرة العربية في فترة الإسلام تستعمل لهجات عربية ( لغة مضر؛ وهي مجموعات قبلية في قريش) أقرب في نمطها اللغوي إلى العاميات المستعملة اليوم منها إلى الفصحى، وتتسم خاصة بتخليها شبه التام عن الإعراب، حسب مناطق اتساعها. وتـُعد اللغة العربية "بناء ائتلافي.. أقيم على لهجات متعدّدة، كانت تسود في مواطن الجزيرة خلال قرنٍ ونصف قبل الإسلام، وقرن ونصفٍ بعده، وكانت هذه اللهجاتُ على ما يظهر تلتقي على قدر أساسيّ مشترك في نظمها الصوتيّة والصرفية والنحوية والدلالية، ثم تفترق في أشياء من ذلك (نهاد الموسى- اللغة العربية وأبناؤها. ص 19-20 ). ويشير مؤرخو اللغة كالدكتور عبد السلام المسدي في كتابه "العرب والانتحار اللغوي" إلى أن اللسان العربي لأول مرة في تاريخ البشرية - رغم ما تؤكده اللسانيات التاريخية أن أربعة قرون هي الحد الأقصى الذي يبدأ بعده التغيُّر التدريجي لمكوِّنات المنظومة اللغوية- احتفظ بمنظومته الصوتية والصرفية والنحوية 17 قرنا، فطوِّعها جميعاً ليواكب التطور الحتمي في الدلالات دون أن يتزعزع النظامُ الثلاثي من داخلَه. وهذا الصمود يعزوه البعض إلى الدور الكبير الذي قعـَّد به القرءان بقدسيته لغة الضاد كـ"لسان عربي مبين".
ظهرت جهود كثيرة عن اللغة العربية الفصحى واللهجات هنا وهناك، منذ الاهتمام المتزايد بالإعجاز القرآني وظهور العلوم البلاغية، ودخول الدولة الإسلامية حروبا متتالية مع دول بلهجات مختلفة. كجهود "ابن قتيبة" التجديدية، التي نصت على جملة من المعارف الإيجابية التي لا غنى للكـُتاب والقائمين على الخدمة في الدواوين عنها في كتابه "أدب الكاتب". وكذلك الفارابي في كتابه "الحروف"، الذي تحدث فيه عن اختلاط العرب بغيرهم وتجاور الأمصار في كل المناطق العربية. وخوفا على فساد اللسان.. اقترح الفارابي في أن يعتمد بالسلطة الزمنية للعادات في اللسان مرجعا ومحصنا من تغير الحرف، أي الاعتماد في توحيد اللغة العربية على القبائل الأكثر صمودا في وجه التقليد رغم مجاورة القبائل الأخرى حينا من الدهر.
ومرورا من العصر الأموي والعباسي إلى عصور السلاجقة والمغول، إلى القرون التي تلت ذلك، تطرح أسئلة كثيرة عن تأثر اللغة الفصحى واللهجات أو الدارجة (العامية) بالظروف والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ووصولا إلى القرن 19 والفترة الآنية، تعقب المستشرق الألماني" يوهان فك" تاريخ العربية في كتابه "العربية: دراسات في اللغة والأساليب العربية". وكان هذا الأخير مثارا للجدل- آنذاك في 1950- ومحفزا لنشأة حركة دراسة أنماط العربية وتاريخها، بحيث انصبت الأقلام على تحليل اللهجات العربية الحديثة وسلوك تطور العناصر اللهجاتية أو "العربية المولدة" كما يسميها فك.
ويقول فك في كتابه: "إن الحقبة التي عاشها العرب تحت حكم العثمانيين، أحلك قرون التاريخ العربي لا من الوجهة السياسية فحسب بل من الوجهة اللغوية كذلك". وانتهاء من هذه الفترة- أي الحكم العثماني- كانت اللغة العربية الفصحى قد" انحدرت إلى غاية السقم والضعف مجهدة بصراعها مع التركية المفروضة كلغة رسمية للدواوين وفي التعليم" (ص 239). لتدخل بعد ذلك- اللغة العربية- مرحلة الاحتلال البريطاني لمصر، حيث تأثرت الثقافة العربية في مستوياتها الفكرية واللغوية بالتغيرات السياسة والصناعية والعلمية. وكان من تبعات الاحتلال الدعوة إلى نشر العامية- الدارجة كلغة وثقافة، تزعمها "ولهام سبيتا" سنة 1880، وسلامى موسى في مصر وسعيد عقيل في لبنان. وتلاهم في المقابل مناصرو الفصحى؛ طه حسين وساطع الحصري.
ويرجع انبعاث الدعوة إلى العامية في مصر، إبان الاحتلال البريطاني إلى عدة عوامل منها: المناخ الفكري الديمقراطي الذي عاشته مصر، والنهضة العلمية و الصناعية وسط الأزمة اللغوية القائمة على تفوق العامية على الفصحى الواهنة آنذاك والأفكار الداروينية التي فتنت الباحثين في مسألة حياة اللغات و موتها. وهذا العامل الأخير هو ما رجحته عائشة عبد الرحمن في كتابها "لغتنا والحياة"، كسبب قوي لدعوة "ولهلم سبيتا" المصريين للأخذ بالعامية، حين اعتبر" اللغة كائنا حيا، يجري عليها ما يجري على الكائنات الحية، من نمو وتطور، وهرم ثم موت"، في تلك الفترة.
أما في السنوات الأخيرة فقد توقع بعض اللغويون في المؤتمرات الدولية أن تحلّ، في المستقبل القريب، اللهجاتُ العراقية والمصرية والمغربية.. الخ. محلَ اللغة العربية الفصيحة التي ستنقرض كما انقرضت اللغة اللاتينية في أوربا. لكثرة تداول اللغات العامية الفاعلة وبفعل سرعة التواصل. وكذلك لكونها - أي العربية- من اللغات الكبرى الحية التي تمتاز بما يسميه اللغوي "تشارلز فرجسون"، بمستويات الازدواجية اللغوية: الفصحى في الكتابة والعامية في التداول اليومي. في حين يرى آخرون أن العامية أو اللهجات لا ترقى أن تمحو خصوصية الفصحى ودورها الحضاري والتاريخي. أو أن الأمر - حسب المسدي- سيكون متوقفا على توافُق كلِّ مراكز القرار السياسي وهي متعدِّدةٌ مُتبايِنة وكثيراً ما هي مُتضارِبة.