ضربة البداية
إنك لا تعرفين السعادة التي غمَرتني حينما عرفتُ أن أمك كانت حاملاً. وزادت سعادتي حينما عرفت بعد أشهر قليلة أن المولود القادم كان أنتِ. كم تمر الأيام سريعة رغم المِحن والحنين إلى ما مضى.
أنتِ اليوم شابة جميلة، تتحضرين لدراسة الآداب. سبعة عشر ربيعاً، قضيتِ منها خمسة عشر سنة كاملة في المدرسة الفرنسية. قلتُ لك وتعجبتِ يومها أنني لم أدخل المدرسة حتى بلوغي سن السابعة لظروف استعمارية قاهرة مرّت بها بلدي الجزائر. وكم كنتِ حزينة حينما أخبرْتك أنه لولا استقلال الجزائر لكان أبوك أُمياً لا يقرأ ولا يكتب. مبكراً بدأتِ تسألين عن الله والدين وبلاد العرب، وعن الجزائر خصوصا… عن الملبس والمأكل والصلاة ورمال الصحراء الذهبية التي أبهرتك في الصور. تسألين عن زرقة البحر المتوسط وعن حرارة الجو التي كثيراً ما حدثتك عنهما. كنتِ تعتبرينني محظوظا لأنني ولدت على بعد أمتار من البحر، ولأني عشت قرب الشاطئ أكثر من ثلاثين سنة أتمتع بلذة البحر. إلى أن جئت إلى أوروبا مضطرا، عامين قبل أن تأتي أنت إلى هذا العالم، في شماله البارد.
قلتِ أنكِ تريدين أن نتحدث عما أصبح مشكلة المشاكل اليوم. وتعنين الأصولية الإسلامية وما تمثله من إشكاليات في عصرنا، سواء في بلدان الإسلام الأصلية أو في البلدان التي استقبلت هذا الدين عن طريق كثير من المهاجرين.
ما يعجبني فيك هو انتماؤك العفوي إلى القبيلة العربية، رغم أنك ولدت في شمال فرنسا البارد. ولئن كنت تحلمين بمواطنة عالمية مسالمة فإنك سعيدة في هذا البلد وتعتبرينه موطنك الأول. ودون السقوط في فرويدية بائسة، تعرفين يا عزيزتي أنها سعادة قصوى لكل أب أن يتحاور ويتناقش مع ابنته الكبرى.
نعم، كما اتفقنا، أتعهد بأن أُفرغ كل ما في جعبتي، وأن أجيب على أسئلتك، مهما كانت، بمنتهى الصراحة ودون مراوغة، وذلك حسب قدراتي المعرفية وقناعاتي الفلسفية والسياسية. فما عليك سوى شحذ أسئلتك ورفع أعلام معارضتك، وعليّ بالجواب ومحاولة التفسير وإبداء رأيي بكل صراحة ومسؤولية ولامسؤولية أحيانا؛ (تبتسمين).
لنبدأ السَقرَطَة إذن! لكن لا تنسي تشغيل المسجلة.
لا… ليست بحاجة إلى تشغيل، فلها تشغيل ذاتي: تبدأ بالتسجيل تلقائياً حينما نتكلم وتتوقف عندما نصمت.
هل تريدين تعقيدي من البداية؟ إننا في عصر الذكاء الاصطناعي، أعرف ذلك.
حسنا.. لنمضي إلى لب المسألة. قرأت مرة في ورقة من أوراقك المتناثرة في البيت جملة أظن أنها عنوان مقالة أو كتاب أو لست أدري، لا أتذكر جيدا، ربما كانت "الإسلام والحداثة، المعادلة الصعبة"، أو شيئاً من هذا القبيل.
آه نعم، "الإسلام والحداثة، المعادلة المستحيلة". ذاك كان العنوان الأول لكتابي المنشور بالفرنسية تحت عنوان: "إصلاح الإسلام، شبهة موصوفة"، والذي أعيد نشره مؤخراً تحت عنوان "الانسداد الإسلامي، الدين ضد الحياة" . وهو نفس الموضوع الذي تناولته في "فصل الكلام في الرد على أهل الظلام" الصادر باللغة العربية . غير أني فهمتُ ما تقصدين بتلميحك إلى أوراقي المتناثرة في البيت، نعم أعترف بأنني أجد راحة في الفوضى ولست مهووساً بالتنظيم على كل حال.
ربما يعكس ذلك شيئاً ما في أعماقك. ألم تقل لي يوما أنك كنت "أناركيا" في شبابك؟
هذا أمر آخر ذو شجون، ليس هنا مجال الخوض فيه، وربما سنعود إلى ذلك لاحقاً. ولكن ما هو السؤال الذي كنت تَهمّين بطرحه من قبل كي لا نبتعد كثيراً عن موضوعنا؟
كنت أود أن أسألكَ فيما إذا كنتَ تقصد في عقد مقارنتكَ بين الإسلام والحداثة أن الإسلام والحياة المعاصرة خطان متوازيان لا يلتقيان أبدا؟
نعم ذاك ما أقصده بالضبط. لكن يمكن أن يلتقيا في حالة واحدة فقط. لا أظن أن أحداً غيري اهتدى إليها.
وأخيرا ها أنتَ تنحو نحو إيجابية ما! هاتِ هاتِ كيف يلتقيان إذن؟
بإذن الله وقدرته فقط!
ها أنا أراك تعود إلى عادتك. لقد أضحكتني مرة حينما كان الأمر متعلقاً بالخطين المتوازيين. لكن ملاحظاتي الآتية سوف لن تضحكك كثيراً.
ربما وما هي يا عزيزتي؟
هل تريد أن تقول بأن أكثر من مليار مسلم يعيش خارج الحداثة. ألا تكون قاسيا في بعض أحكامك أحيانا؟ ألا يركب الناس في العالم الإسلامي سيارات ويمتطون طائرات ويستعملون كومبيوترات ويتعلمون في جامعات… إلى آخر القائمة؟
سؤالكِ في غاية الأهمية، وقد يُدخلنا إلى قلب المشكلة مباشرة، وربما سيحدد مسار حديثنا بمجمله، إذ ينبغي من الآن فصاعداً أن نحدّد مصطلحاتنا بشيء من الدقة كي نتفادى عدم التفاهم، وربما سوء التفاهم. فكثيرا ما تقاتل الناس حول كلمات لا يتفقون على حد أدنى مما تحمله من معنى.
إلى هذا الحد؟!
في ملاحظتكِ الذكية أنت تتحدثين عن التحديث في دول الإسلام لا عن الحداثة فيها.
وما الفرق يا أستاذ؟
هكذا هي الأمور معكِ يا تلميذة؛ تَجدينني لا مبالياً وعدمياً حينما أنكّت، وتتهمينني بممارسة الأستاذية معك حينما أحاول أن أكون جدياً! حسنا لن أجيب عن سؤالك اليوم وأترك لك فرصة البحث عن معنى الكلمتين ونكمل الحديث لاحقاً إذا كانت لديك رغبة. تعرفين أنني لا أستطيع تفويت فرصة مشاهدة مباراة كرة قدم يكون فيها المنتخب الجزائري أحد أطرافها!
مباراة حسنة إذن!
بحث مثمر عن المصطلحين يا عزيزتي!