حين اختلّ نظام التوازن الاجتماعي بين أطراف الدولة العثمانية، وجد استجداء أتباع المسيحية العربية النصرة والمعونة من إخوة الإيمان في الخارج مبرّرا. في زمن كانت فيه تلك الديانة منهَكَة على جميع الأصعدة. ولكن أن يستمرّ ذلك المسلك حتى عصرنا الراهن، فهو مما ينذر بوجود خلل عميق في البناء الاجتماعي يستدعي المراجعة والتصحيح. لأنه مما ينافي الصواب أن نزعم أن أتباع تلك الديانة ركن من أركان البيت، في وقت يلاقون فيه رهقا في دينهم ودنياهم في أحضان أوطانهم.
فالناظر في انعكاسات الثورات المجتاحة للبلاد العربية يلحظ العديد من المحاسن التي طالت المسيحية، بما ألحقته من مراجعة لطبقات غائرة في الوعي، جراء ما أُدمن من رؤى وسلوكيات وعوائد، بتنا نراها بمثابة الأمر الواقع، سأولي تلك الآثار بعض الاهتمام.
طيلة العهود السابقة ساد خطاب غير علمي، في تناول واقع المسيحية في البلاد العربية، كان أقرب إلى التخمين الباطني منه إلى الرصد الموضوعي. وهو ما يتنافى مع أغراض التفهم الرصين والتقدير الصائب، فضلا عن مستوجبات التعاطي السياسي والتشريعي والحقوقي المتزن، ما يشي بوهن قدرات العقل في الثقافة العربية. فالقول بأن المسيحية العربية مكوّن أصيل في الثقافة العربية، وأن المسيحي شريك في الحضارة العربية الإسلامية، وَرد في مجمله ضمن أغراض الاستهلاك السياسي، بما افتقر إليه من مصداقية سوسيولوجية، وبما عازه من طرح جاد لمعنى ذلك المكوّن الأصيل ومدلولات تلك الشراكة الحضارية.
فقد راكم ذلك التعامل عديد الأخطاء، التي تفاقمت بتوالي العقود، حتى باتت بمثابة الأمور المستعصية، التي تنذر باهتزازات اجتماعية. فنحن إلى حدّ الآن ليس لدينا تعريف واضح للكيان المسيحي، فهو طورا كيان شرقي غائم، لا ندري أين يبدأ وأين ينتهي، وتارة كيان فئوي طائفي: سرياني وآشوري وفينيقي وفرعوني، إلى حدّ الشوفينية والانعزالية. وإن نعلم أن هذا الكيان واقع جغرافيّاً في البلاد العربية فشقّ واسع منه، ولاءً واقتداءً ولاهوتا، تابع لكنائس خارجية. وعدم حسم تلك المسائل وبقاؤها في حيز التذبذب والتبعية للخارج انعكست آثاره على الوعي الجمعي، فترى النظر إلى تلك الشرائح أنها أصيلة وأحيانا دخيلة. وقد تدعّم ذلك جراء أن هذا الطرف غدا في العديد من المناسبات الأكثر تحمسا لنسفِ المكوّن الجماعي، والسعي إلى تحويله إلى هشيم إناسي، بما يخالف الإقرار بواقع الحضارة التركيبية ذات الطابع العربي الإسلامي.
كون الثقافة العربية ليست نتاج العرب العاربة وحدهم، وإنما هي مركَّبٌ ساهمت فيه جل المكوّنات الاجتماعية التي تمازجت وتناسلت في المنطقة، من أمازيغ وفراعنة وسريان وكرد وآشوريين وكلدان وزنوج وطوارق وغيرهم، حتى لا نسقط في مغالطة "عرقنة" الثقافة فتتحوّل إلى بنية منغلقة.
نعود لنطرح سؤالا في جوهر المسألة، في الراهن الحالي أين تتلخّص متاهة المسيحية العربية؟ لقد استورد كثير من أتباع هذه الديانة عناصر لاهوتهم، فضلا عن وعيهم بالتاريخ والمجتمع والسياسة للواقع العربي من الغرب، وهي الطامة الكبرى التي ألمت بالعقل المسيحي. بلغ الأمر أن باتت عناصر الحاضنة الحضارية العربية الإسلامية متَّهَمة بالقصور، والحال أن ذلك هو بفعل مسلكيات كافة المكونات الإناسية والاجتماعية في البلاد العربية، ولا يمكن تبرئة أي طرف منه.
مزية أخرى من مزايا التحولات العميقة التي تشهدها البلاد العربية وهي تساقط الأوهام. إذ ثمة فكرة روّجها الغرب وصدّقها كثيرون أن المسيحيين العرب هم صنّاع أيّ أمل في تلك المنطقة الميؤوس من نهضتها، ومن ديمقراطيتها، وكأن قدر تلك الحضارة أن تنهض بنهوضهم وتقعد بقعودهم. والحال أن التحولات الاجتماعية الكبرى تنبع من عمق الكتلة الاجتماعية وليس من هذا المكوَّن أو ذاك. تلك الفكرة التي روجها الاستشراق وزينها في عقول كثيرين، تدعمت بأوهام من جنس، أن ولوج باب الحضارة الغربية مفتاحه بيد المسيحيين العرب، وأن العقل السياسي الغربي لا سبيل إلى كسب وده إلا بواسطة المسيحيين العرب، وآخر ما قرأته أن تطهير الغرب من الإسلاموفوبيا هو بيد المسيحيين العرب!! أقّدر أن تلك الأوهام تنامت جراء سذاجة فكرنا السياسي، حين ظننا –في مرحلة سابقة- أن مجرد دفع وفود مختلطة من أهلينا المسلمين والمسيحيين لمخاطبة حاضرة الفاتيكان والغرب، بشأن فلسطين، خلال النصف الأول من القرن السابق، مدعاة لبلوغ مقصدنا. لقد أجهزت الثورة في تونس، التي تكاد تخلو من المسيحيين، على تلك الأسطورة، بعد أن تبين أن الواقع العربي، بعيدا عن تلك الخدع السوسيولوجية في الريادة، قادر على أن يصنع ثورة ويخطو باتجاه الحكم الرشيد.
في الواقع العربي الاستثنائي الذي نعيشه، غدت مطلّة ثقافة سياسية جديدة، لا مكان فيها لدكتاتورية الحزب الواحد، أو الطائفة الواحدة، أو الدين الواحد، وبالتالي بعد عقود من التخويف من الإسلام السياسي، نشهد هذه الأيام تلاشي ذلك الخوف من صعود الأحزاب الدينية. وإن يكن البعض لم يستوعب بعد حضور تلك الأحزاب في السلطة، فتقديرنا أنهم ما زالوا ينظرون إلى الواقع العربي الجديد بأدوات قديمة.
وضمن السياق نفسه تتفسّرُ خشية البعض على المسيحيين في سوريا، وكان الأحرى سؤال، هل البنية السياسية التي شيّدها البعْث، تضيف شيئا إلى العرب أكثر من تصلّبهم التاريخي وتحنّطهم الاجتماعي؟
ولذلك من جملة الأوهام المتهاوية فهْمُنا لمدلولي الحداثة والعلمانية. فقد عاش العرب وهْمَ الدولة الحداثية في تونس، وما فتئت جماعات تعيش وهْمَ الدولة العلمانية في سوريا، وقد آن الأوان للتحرر من ذلك الوهم المتخلّد لمواجهة الواقع بموضوعية. فأسطورة أن المسيحية في بلاد الشام حاميها وراعيها النظام السياسي السوري الحالي، من الأساطير الكبرى التي استبدت بالعقل العربي الحديث، وهي في طريقها إلى الانهيار كما تهاوت سابقتها عن "القلعة الحداثية" المزيّفة في تونس. ربما التجاوز الكبير الذي أحدثته التحولات العربية، والإنجاز الفعلي الحقيقي، هو تحطيم الوهْم. ففي مصر أثبتت الثورة أن المسيحي المصري لا سبيل له في الخلاص إلا بالسير رفقة الشريك الحضاري المسلم، وأن التعويل على الغرب المسيحي ملهاة لا طائل من ورائها، وهو وهْمٌ آخر اجتثته الثورة ينضاف إلى سلسلة الأوهام المستبدة بوعينا ولا وعينا.