" إن التفكير أصعب الأعمال وهذا هو السبب في أن القليلين هم الذين يختارونه كعمل"
هنري فورد
التاريخ لا يجب أن يعيد نفسه :
من ذا الذي يتوقف لحظة أمام جدار التاريخ، ويجلس القرفصاء ليسائله عما ألحقه بنوه بالعقل الهادر والثاقب طيلة قرون تديرها رحى السياسة والسلطة لدفن صوت العقل إلى الأبد في رمال التاريخ ؟
أيها التاريخ: لقد تعلمُ أن الخراب في عالمنا يجيء بيدنا لا بيد الآخرين، بيد أني سائلك:ما سر هذا الإياب الغريب الذي يشبه الموجة الخجولة المتقهقرة عن الساحل؟أريدك أن تشرّع أذنيك وتسمع مني كلاما قد تسافر به في عقلك قليلا،ثم تؤوب إليّ لتتهمه أنه كلام موغل في الشيخوخة، جميل جدا أن يندّ عن عقلك مثل هذا، ولكن لا ضير، اسمعني أولا ثم أسأل الله بعد ذلك أن يعينني على حمل حقائب الشيخوخة منك، وأرجع إلى عقلي صاغرا مذموما مخذولا ‼
أيها التاريخ: تلتفّ حولكَ الأوراق فتهيم في دنيا لا تكف عن الهدير، ثم تؤوب إلى رحاب العقل لأحدثكَ عما أظلم الدنيا على أرسالٍ كالنمل - أغلب ظني أنها لم تعِ ماذا كان يريده العقل زمن السعار الفكري والعقدي - ثم بعد ذلك وأنت تتماثل للشفاء من نفسك هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
أيها التاريخ: قد بلغ الماء حِذفاره وأصبح العقل يئن من وطأة التقليد،ألا ترى أن أصحابكَ في كل واد يهيمون؟ لماذا تمتشّون ضرْع الماضي امتشاشا، وتنامون على سرير الماضي بشوق ولهفة قاتلة، وفي الأرض ما هو أدعى للتأمل وإعمال العقل؟ لماذا تحرصون على قواميس العنتريات ولسان العنتريات إذا حضر العقل ليتحدث إليكم ؟ لماذا هذا الخطاب الذي ما قتل ذبابة إلا في الأشعار والقصص والروايات والأوهام والخيال ؟ بل كيف يطيب لكَ أن تقصيني وربي خلق الاختلاف لنختلف، ولولاه كان الموت أشهى إلينا من الحياة التي ستتوقف بالنموذج الواحد الذي تؤثرون؟؟؟ لقد اتضح أيما اتضاح في ما مضى أن الفهم المغلوط للدين هو أحد أسباب تخلفنا الكبير، واليوم أقول لاشك أن أكبر الأدواء للبدن التلهّف خلف ما لا يُدرك، ولعل أجمل شيء للإنسان المريض أن يعلم حالَ تأمله في جوّاه أنه كذلك .. خليق به أن يعرف ذلك ..ثم يعترف للخلق أنه كذلك .. أليس كذلك ؟
لماذا المعتزلة وقتذاك ؟
أقول: إن المعتزلة لما انبجسوا من كبد الزمن أطلقهم الدهر على كل جَهُول جهّال مجِهال جَهِل يستمتع بجهله، ويجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. وهم كانوا قد وجدوا العراق يغلي بطوائف لا تلتقي إلا لتختلف منها؛ الآراميون والفارسيون والنصارى واليهود والعرب والكلدانيون والمجوس والصابئة.. فما إن دخلوا في دين الله أفواجا وزرافات ووحدانا حتى ظلت أصابعهم في أفواههم كالأطفال يحنّون إلى بعض ما تركوه، فتاقتْ نفوسهم إلى ما كانوا عليه من زيغ وعثار، وربما وجدتَ الواحد منهم يتحسس رواسب دينه القديم التي علقت في ذهنه، فيعود إليها ويمزجها بالإسلام فيفهمه على ضوء ما كان عليه.
لقد قامت في سماء العقل الإسلامي سوقٌ مرعبة، وهاجت فيها فلسفات رهيبة كان فيها: المجسمة والمعطلة والجهمية والماتريدية والراوندية وأصحاب"شيطان الطاق" وهشام بن الحكم الرافضي وغيرهم ممن ادعى النبوة والعصمة والتجلي (تجلي الذات الإلهية فيه)، فأخذ معاوله وانبرى يهدم الدين الجديد من حيث يظن أنه يحسن إليه، فلما كان ذلك كذلك جاء أصحاب واصل بالأصول الخمسة، ليذودوا عن حمى الإسلام من باقةِ زَبَدٍ وطحالب تريد أن تحيا بالدسّ والمكر واللف والدوران.
أيها التاريخ: أعرف أنكَ تمتلئ مثلي باللهب والصخب وترنو إلى الانعتاق من شيء ما، لكن صدقني أنا أعشق صمتكَ المدمِّر، ولعلكَ قلتَ بأسى عميق - وأنتَ بذلك عليم - : وما جدوى هذه الأصول الخمسة التي ضلّت وأضلّت ثم عَمَتْ وأَعْمَتْ ؟ لكن : يا أخي: "إذا أردتَ لباس المحبة فكنْ عالما كجاهل ".إن الأصول الخمسة ليست قرآنا منزلا، ولا كلاما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إنما هي اجتهاد جاء ليرد عقولا إلى رشدها بعدما مزّقها الضياع والتيه وشللها الاسمنت الإيديولوجي، فجاء أصحاب واصل بـالتوحيد للرد على المشبهة والمجسمة، والعدل للرد على الجهمية، والوعد والوعيد للرد على المرجئة، والمنزلة بين المنزلتين للرد على الخوارج الذين كفّروا مرتكب الذنب صغيرا أو كبيرا.
إن أصحاب واصل لما نظروا وناظروا وجادلهم خلْقٌ كثير قد أشعلوا حربا طاحنة كانت في البداية فكرية، لكنها للأسف تحولت إلى رحى تطحن وتعصر وتجلد، سيما ما حلّ بأهل السنة والجماعة في مسألة خلق القرآن التي كانت تدوي آمادا طويلة،فكان السجن والترهيب والأغلال والأصفاد،واستمرت حتى بعد المأمون إلى عهد المعتصم والواثق،وعُذّب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وثلة من الفقهاء والمحدثين، وليت شعري لم يخطئ التاريخ مثل هذا الخطأ الذي أفسد كل شيء، بعدما أَحَلّ السيفُ محل الفكر الحجة والبرهان والاستدلال، لكن ما لي إلى تفسير هذا الخطأ سَبَبٌ، ولا بأس ولا ضير ما دمنا كلُّنا نتقاسم الحزن والكمد..
أحدثك عن البدايات، وماذا كان دورها في نكث غزْل العقول الواهية - من الداخلين في الإسلام وقتذاك - وخيالاتهم المحنطة بأصفاد التقليد،وهذا الأخير هو جوهر العمى- الذي تصفون به أصحاب واصل-ومنبت الفوضى؛ قال فيه القاضي عبد الجبار :" التقليد هو قبول الغير، من غير أن يطالبه بحجة وبينة حتى يجعله كالقلادة في عنقه".فَوَالهف نفسي إن سرطان التقليد لا يزال ينخر إلى اليوم في عقول خلقها الله رحبة كالكون، فآثرتْ أن تكون كسمّ الخياط "وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا.أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون". وهذا شأن أمم كثيفة حائرة تمضي وتتدحرج إلى الأمام وعيناها في قفاها.
مأساة المعتزلة:
من مبدأ الإنصاف أقول ، إن كثيرا مما قيل في حق أصحاب واصل لم يكن صحيحا ولا منصفا، وإنما كان إما بسوء فهم أو تعصب أو جهل أو انحياز لفكر دون آخر، ودونك الدليل؛ إن العذاب الذي ألحقه المأمون بالعلماء والفقهاء زمن خلافته كان سببا في معاداة كثير من الناس له ولأصحابه فيما بعد، والخطأ هنا ليس خطأهم وإنما خطأ المأمون الذي أراد أن يفرض ما لا يُفرض، ويلزم الناس بأفكارٍ لا تعنيهم في ما يحبون، فَكَتَمَ أنفاسهم في صدورهم وأشهر سيفه على عقولهم ، وإمامنا الكلام والحوار لا يكون هكذا، وكل فكر شأنه هكذا فإلى زوال وخواء لا محالة، لأن الناس لا يُكْرَهُون على ما يَكْرَهُون كيفما كان الحال. فلما كان هذا كله من الخلفاء تعاطف الناس مع الفقهاء والمحدثين والعلماء وسخطوا على أصحاب واصل، وانداحت كراهيتهم لهم في الكوفة والبصرة وبغداد، فتوارى الفكر الجديد الذي كان يروم مراجعة عقل أصحاب الملل والنحل، و قُضي عليه إلى أجل مسمى، فانتهى أمرهم على يد المتوكل،وفيما بعد قضى الخليفة القادر بالله عليهم،ورجع كثير منهم عن الاعتزال فقام محمود بن سبكتكين بإيعاز من الخليفة بقتلهم والتنكيل بهم وسجنهم وصلبهم وكذا لعنهم على المنابر،وتهافت الصغير والكبير بانتشاء المنتصر لتمزيق كتبهم وتباروا في إحراقها تقربا إلى الله، ورقص أعداؤهم فرحا واستبشارا بموت مولانا العقل، فكسرت شوكتهم إلى أبد الآبدين.
وهذا شأن كل فكر يحمل السيف ليُرْغِمَ الناس على ما لا يريدون. وليت شعري أستسيغ لماذا قال الجاحظ - وما كان عليه أن يقول - :" نحن لم نكفر إلا من أوسعناه حجة، ولم نمتحن إلا أهل التهمة، وليس كشف المتهم من التجسس، ولا امتحان الظنين من هتك الأستار".
من هنا انطلقت رحى الرفض المطلق والعداء المطبق عليهم حتى عدوا من والزنادقة والمارقين من صفّ الدين(رماهم بذلك الإمام أبو يوسف)،وهم من ذلك براء إلا ما جاء على لسان فراخهم وبعض شيوخهم من شواذ القول كالنظام الذي اختلطت عليهم الأمور - إذ حفظ القرآن والتوراة والانجيل والزبور وكثيرا من الشعر،فاختلط كل ذلك في عقله، فتعرض لمقارعات الأشاعرة وردود بعض المعتزلة نظرا لادْلِهْمَامٍ في فكره- وأصدرت في حقهم فتاوى تحرم الصلاة خلفهم (الإمام الشيباني)، وتحرم قبول الشهادة منهم (الإمام مالك والإمام الشافعي رحمهما الله).
أي زندقة وأي مروق يا تاريخ ؟
لعل المعتزلة تمادوا في قضية خلق القرآن، وذهبوا بعيدا فيما قالوا، لكن أصحاب واصل لم يكونوا مارقين ولا زنادقة بكل ما تحمله الكلمة من معنى وتقريع في حقهم، وهذا بعيد فيما يبدو عن جادة الصواب، لماذا:
أولا: لأن السواد الأعظم منهم كان ورِعاً تقيا: يُروى عن أبي الهذيل العلاف أنه أسلم على يديه ثلاثة آلاف رجل من الثنوية والمجوس الذين حضروا مناظراته، ويروى عن زهد واصل بن عطاء الكثير إذ قال عنه الجاحظ:" لم يشك أصحابنا أن واصلا لم يقبض دينارا ولا درهما"، ولم يكن له منصب سياسي رغم مكانته ووجاهته وخطابته وعلمه، ولم يكن ملحدا ولا زنديقا، بل إنه لما آنس الإلحاد من صديقه الشاعر بشار بن برد قاطعه وتبرأ منه وقال فيه:"إن من أخدع حبائل الشيطان وأغواها لَكلمات لهذا الأعمى الملحد"، واذكرْ عمرو بن عبيد الزاهد العابد، الذي روي عنه أنه صلى أربعين عاما صلاة الفجر بوضوء المغرب وقال عنه الجاحظ :"إن عبادته تفي بعبادة عامة عبادة الفقهاء والمحدثين "،وآخرون كثير زهاد وتقاة تجدونهم مدفونين في بطون الكتب، ممن تُعرض عليهم الدنيا فيعرضون عنها ويرفضونها، إشفاقا منها ووعيا بسرابها.أَبَعْدَ هذا ترتفع آهات الاستحسان المناصرة لاستضلالهم؟إلى جانب ذلك فقد تجندوا للدفاع عن التوحيد ضد الأمم التي وفدت إلى الاسلام ولم يحسن إسلامها،فتخبطت في وهمها وضلالها القديم، فألّف أبو علي الجبائي مائة وخمسين ألف ورقة في الرد على هؤلاء،وكذا النظام الذي ألف كتابا في الرد على الثنوية، والقاضي عبد الجبار ألف -كما قال عنه الحاكم الجشمي- ألفا وأربعمائة ورقة مما صنف من كل فن،وكتاب"تنزيه القرآن عن المطاعن"و"متشابه القرآن"و"المحيط في التكليف" وغيرها التي ردت على فرق شتى.
ثانيا: إن بعض الذين ينتسبون إلى المعتزلة لم يكونوا منهم في شيء، فقد لبسوا عباءتهم واندسوا بينهم وتستروا خلفهم-يوم نشطت رحى المعتزلة الفكرية في الكلام والجدل والمناظرة والسجال-ليمرروا أفكارهم،كما فعل ابن الراوندي الذي رد عليه أبو الحسين بن الخياط المعتزلي في كتابه"الانتصار"، والجعد بن درهم الذي أخذ معظم فكره عن أبان بن سمعان وأخذه عن أصول يهودية تمتد إلى لبيد بن الأعصم اليهودي،والجهم بن صفوان الذي نفى الصفات وكان ينطلق من فكر فرقة هندية تؤمن بالتناسخ، وغيلان الدمشقي الذي نفى القدر وقد تأثر بنصراني يدعى أبو يونس سنسويه، وغيرهم كثير ممن اندسوا وقالوا وقوّلوا المعتزلة ما هم منه براء ، فظن الناس أن كلامهم من كلام المعتزلة، وبين كلامهم وهؤلاء برزخ لا يبغيان ‼
ثالثا:إن الحشد الرهيب من المسلمين حينما يقرؤون فكر المعتزلة،لا يقرؤونه من أصوله وكتبهم الناطقة بفكرهم :كالمغني"و"شرح الأصول الخمسة"للقاضي عبد الجبار،و"الكشاف" للزمخشري،وطبقات المعتزلة لابن المرتضى(الذي تأثر بالمعتزلة وإن كان زيديا) إلخ .. بل يفزعون ويُهرعون إلى "الملل والنحل"و"الفرق بين الفرق"و"التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع" إلخ ..وهذا يتنافى مع العقل،لأن طالب معرفة شيء لا يعرفه أو عمّي عليه، حقيق عليه - ولابد له- أن يعود إلى أصوله ليتحقق حقيقته مادام هو المقصود بالمعارضة والمحاججة،لا أن يأخذ من معارضي هذا الشيء قبل أن يبدأ به أولا، وإلا كان كمن يلتمس الدفء بشعاع الشمس المعكوس على المرآة، وينسى أن يعرض نفسه مباشرة للشمس! ولهذا فكلما ذُكِرَتْ المعتزلة إلا ووصفت بـ"الفرقة الضالة"،أو "أهل البدع"،أو "ضلالات المعتزلة"، "رأس الضلال" وهذا يتنافى مع روح التسامح والتواضع المعرفي الذي عُرف به مفكرو الإسلام (لو عدنا مثلا إلى ابن المرتضى ت840 هـ في تصانيفه نجده يحترم رأي المخالفين له ولا يصفهم بالجهل أو الضلال، بل يورد رأيه بتواضع العليم المسامح، ويقول في مخالفيه في الرأي مثلاً: لعله أراد كذا، أو لعل خلافه في اللفظ.. ) بينما إذا نظرنا إلى بعض الكتب التي كتبت قديما وحديثا حول المعتزلة تجد ألسنة النار تكاد تلفحك وأنت تقرأ ما يورده القوم عنهم، فقط لأنهم اطلعوا على الفلسفة اليونانية وعطائها الفكري والحضاري، فاعتبروا ذلك جسرا لاتهامهم،برغم أن المعتزلة لم ينجرفوا مع الفكر اليوناني ولم يغرقوا فيه،بل جعلوا لأنفسهم فلسفة خاصة بهم،وعارضوا آل يونان في ما يتعارض مع مرجعيات الإسلام في العقائد والوجود ونشأة الكون والعالم و الماورائيات والميتافيزيقا، ولعل خير دليل على ذلك ورود كتاب لأبي هاشم الجبائي بعنوان "النقض على أرسطوطاليس في الكون والفساد"،وكذا ما يتعلق بفنون البلاغة والخطابة والمناظرة،إذْ ألقوا عَيْناً إلى بني يونان واطلعوا على بضاعتهم فَغَرَفُوا قليلا ولفظوا ما لم تستسغه عقولهم، وأقاموا لأنفسهم نموذجا فريدا خاصا بهم في الجدل الكلامي والبيان، من ذلك صحيفة بشر بن المعتمر في البلاغة و"البيان والتبيين" للجاحظ إلخ ..