ظلّ الطير باختلاف أجناسه وفصائله كائنا يعزّز حيرة الانسان منذ بدء الخليقة وإلى تخوم الأزمنة الحاضرة، وعُدّ طرفا ألحق به الانسان في العقائد القديمة شتى معاني التخييل وأضفت عليه الحضارات البائدة معاني القداسة خشية وطمعا. و للساحل الغربي لجنوب القارة الأمريكية قدّيسه الطائر الذي احتفت به الحضارات البشرية المتعاقبة على تلك الأرض إنّه الكندور الأنديزي المكتسب للتكريم الطقوسي لا من خلال عظمة حجمه ووزنه باعتباره ثاني أكبر طائر في العالم فحسب ولكن كذلك من خلال أسلوبه المدهش في التحليق عاليا، ولعلّ الاعتبار الثاني هو الأكثر وجاهة في التأكيد على هيبة هذا الكائن وسحره لونا وهيئة وعلوّا، فعندما يُفرد طائر الكندور جناحيه في تحليق مهيب فوق أعالي جبال الأنديز في أمريكا الجنوبية يمنح من يشاهده شعورا بالجلال والعظمة، تحليق صامت يترك فيه الطائر جناحيه الكبيرين بطول يجاوز الأمتار الثلاثة مبسوطين دون رفة واحدة لمدة طويلة قد تتجاوز نصف الساعة مسلما نفسه إلى التيارات الهوائية القادمة من المحيط لتحمل وزنا يبدو ثقيلا لصنف من الطيور فقد يصل وزن الطائر البالغ عشر كيلوغرامات، ويُعَدُّ الكندور بسواده الباهر ملهم الحضارات القديمة في جنوب القارة الأمريكية وشمالها فحضارة الأنكا عدّته من الطيور المقدسة. يسكن الكندور أعالي الأنديز بين الفجوات الصخرية للقمم الجبلية كراهب مكلّل بالوحدة والسواد وككائن فرداني منقطع عن عوالم الضجّة، ويكتفي عند التحليق بقذف نفسه في الفراغ المرتفع محدثا بانبساط جناحيه توازنا مثاليا في الطيران بينه وبين الرياح العاتية التي تهبّ بشكل دائم على السواحل الشرقية للمحيط الهادي.
يرسل الكندور بين الفينة والأخرى أصواتا أشبه بصرخة الظفر أو أنّة الحزين، أو همهمة المتصوّف، يتردد صداها في أودية الكولكا، أصواتا تشبه أوراد ناسك متعبّد أو راهب يجثم كل صباح مستقبلا الشرق منتظرا أشعة شمس يوم جديد وتمنحه الحمامات الشمسية الصباحية الدفء ونعومة الريش التي تساعده على التحليق عاليا. وعادات الكندور هذه هي التي منحت تلك الحضارات شعور الانبهار بهذا الطائر فصار يرمز إلى دورة الحياة والموت بكلّ حضورها الوجودي الخارق وهو الرمز الأصلي الأول للشعوب القديمة التي سكنت أمريكا اللاتينية ، لقد كان الكندور طوطما مقدسا للسكان الأُوَلْ وآلهة للهواء وهو يرمز في ذلك إلى القدرة على مطاولة المدى فالتحليقة الواحدة لهذا الطائر دليل على مجاوزة كلّ محدود وكسر لمفردات العجز والخيبة والتسليم إنّه يعلّم الانسان- وفق تلك العقائد- أنه بوسعه أن يلاحق عنان السماء التي ظلّت عالما ساحرا عند كلّ شعوب الأرض وبوجه خاص عند شعوب الأنكا والمايا والهوبي. يمنح الطائر في تحليقه المخلوق البشري الذي يؤمن بمدلوله الرمزي القدرة على الحذر وحدّة النظر فالكندور وفق التصور الشعبي لسكان الأنكا يبصر كل مرتفعات الأنديز وسهولها وأوديتها له قدرة على رصد الوجود بفتحة عين وله الكفاءة على تبيّن الحيّ والمريض والنافق من الكائنات الحيوانية التي تمثّل له صيدا لا غنى عن تعقّبه ليستمر وجوده المكلل بالعظمة على سفوح تلك الجبال الشاهقات. وفي طيرانه نبوءة وفي نعقاته الممتدة إخبار بشيء يدور في الأفق فهو طالع خير تمنح رؤيته محلّقا الحظ والرزق والسلامة من كلّ ريب. وفي النصوص القديمة لحضارة الانكا نقف على نبوءة تقول أنّ المجد الحقيقي لأمة الأنكا لا يتحقق إلاّ عندما يحلّق الكندور الانديزي مع نسور الشمال جناحا بجناح. وظلّت هذه العقائد سائدة عند بعض سكان الأودية المشرفة على الأنديز إلى أزمنة غير بعيدة عن زماننا.
تقول تلك التعاليم القديمة أنّ الكندور يعلّمنا كيف نحسن تصريف طاقتنا الكامنة فينا وأن نستغلّ أقلّها في تحقيق أعظم ما نريد إذ له في طيرانه معنى الحرية والانعتاق بمفهومه الصوفي أي الخلاص من عوالم المادة والكون والفساد والخطيئة لقد قرّر -أو قرّرت غريزته- أن يسكن في الأعالي راهبا يعلّم ويتأمّل يفتح عينيه على عالم الأرض وبصيرته على عوالم الجوهر والنقاء. إنّ غموض هذا الطائر ومسكنه البعيد عن أعين البشر وأيديهم هو ما زاد من سحره وألحق بتحليقه الاستعراضي على ارتفاع أكثر من 5000 متر شيئا كثيرا من القداسة والدهشة. ولم يُثِرْ الكندور حماس مقدّسيه من الأنكا أو الحضارات السابقة عنهم فحسب ولكنه لا يزال يثير البشر إلى اليوم من حالمين ومتأملين وفلاسفة وفنانين، لا يزال يحمل سرّ الإلهام الدائم للكائن الإنساني. فبفضل تحليق الكندور أبدع الموسيقار دانيال روبلس أحد أبرع موسيقيي دولة البيرو في بدايات القرن العشرين لحنا أسماه El Condor Pasa وهو مقطع موسيقي يختزن صورة تحليق الكندور بما تحمله من معان ساحرة وغامضة تحفّ بطيرانه الأسطوري.
وقد عُدّ هذا اللحن تراثا إنسانيا خالدا كما عُدّ الكندور نفسه رمزا قوميا لدول الساحل الغربي لجنوب القارة اللاتينية كالبيرو والأرجنتين وبوليفيا والشيلي. لقد أضحت صورة الكندور في تحليقه الجمالي الأخاذ ملهما جديدا للفنانين وصائدي الصور والأفلام والمولعين بالرمز وفيض الطبيعة، كما ألهم من قبل أسلاف اللاتينيين، على أنّ هذا الانبهار تحوّل من انبهار طقوسي كان يتخذ أبعادا دينية عبادية خاصة زمن حضارة الأنكا إلى انبهار فنّي راهن اختصّ به الرسامون والمصورون والموسيقيون ومخرجو الأفلام الوثائقية والسينمائية. ففي العام 1970 أنجز المخرج السينمائي الأمريكي جون غيلرمين فيلما بعنوان El Condor ليعطي اسم القلعة المكسيكية الحصينة في الفيلم معنى الغموض والغرابة تماما كغرابة طائر الكندور وسحره وخلابة تحليقه الذي ظلّ موضوعا لا يكفّ عن التطوّر والتغيّر ومجالا خصبا للخياليين والراكضين لأجل إلْتِمَاسِ الأفق.
عبد الحميد العلاقي جامعي تونسي مهتم بمبحث الصورة من الوجهة الانتروبولوجية.
بصدد اعداد رسالة دكتوراه حول بنية الخطاب وتجليات الصورة
مراجع البحث:
Darwin (Charles), The voyage of the beagle, PF Collier & son, New York 1909.
Harvey (L. Fisher), « The skulls of the Cathartid vultures », The Condor, vol. 46, no 6, 1944, p. 272–296.
Campbell (Michael O’neil), Vultures : Their evolution, Ecology & conservation, CRC press, New York 2016, p241-258.