بين الثقافة والدين أكثر من علاقة. لنقرأ ـ هنا ـ وجهين أساسيين من تلك العلاقة لأهميتهما في مضمار تحديد معنى الثقافة وتحديد نظام اشتغالها:
يمثل الدين ـ في مستوى أول ـ ثقافة كاملة لشعب أو أمة أو حضارة. لا يتعلق الأمر، هنا بالدين من حيث هو مجموعة نصوص وتعاليم وقيم فحسب، بل ـ أساساً ـ بما هو كيان مجسد في طقوس اجتماعية وتقاليد وأفعال يمارسها الناس أيضاً، أي من حيث صيرورته نظاماً من الممارسات المادية قد تقوم مسافة ما واقعية بين وضعه النظري ـ في نصوص ـ وبين طريقة استيعابه والتعبير عنه منط رف المؤمنين به تعبيراً مباشراً في حقل اجتماعهم المدني.
يحتسب الدين ثقافة من واقع كونه يعبر عن رؤية للعالم: للطبيعة، والوجود، والانسان؛ ومن واقع كونه يقدم تصوراً لبناء الاجتماع الانساني على نحو يغطي ـ أحياناً ـ أدق تفاصيل هذا الاجتماع: اقتصاداً، وسياسة، وأخلاقاً، وأحوالاً شخصية.. الخ. ليس يهم إن سعت عقيدة ما إلى بناء (أمة روحية) ـ شأن النصرانية ـ أو إلى بناء (أمة اجتماعية وروحية) ـ شأن الاسلام، بل الأهم أنها قامت على تعاليم رسمت للمنتسبين إليها تخوم الجائز وتخوم الممنوع، وقذفت في (روعهم) الجمعي مبادئ تحولت إلى قواعد صارمة للفكر والسلوك، وأفكاراً تحولت إلى عقائد راسخة لا تقبل المراجعة في جانبها اللاهوتي حتى وإن كانت تقبل بعض التغيير في الجوانب المتصلة بميدان الاجتماع المدني.
الدين هنا ثقافة بوصفه نمطاً من المعرفة بالوجود (الطبيعي والاجتماعي)، يختلف في الأسس والمبادئ عن سواه من أنماط المعرفة الأخرى كالعلم، والفلسفة، والأسطورة، وسواها. فله مسلماته التي لا يقوم الإيمان ـ داخل نظامه ـ بغير الإقرار بها، وله طريقته الخاصة في بناء أحكامه ليست تفهم قضاياه وأحكامه بغير ربطها بنمط الاستدلال فيه.. إلخ.
ثم إنه ثقافة بوصفه نمطاً (مغلقاً) من الطقوس والشعائر والقيم، أي طريقة ثابتة الملامح في ممارسة الحياة وفي بناء الاجتماع وإعادة إنتاجه، وهو يمثل ـ في الحالين ـ بنية عقلية كاملة للمجتمع، بالمعنى الأنثروبولوجي الكامل للكلمة، أي نمطاً من التفكير والسلوك يكتسب منطقاً ذاتياً خاصاً يمتنع فهمه أو تعليله بمعزل عن شبكة المعاني والدلالات الخاصة به.
لكن الدين يمثل ـ في مستوى آخر من العلاقة ـ عاملاً من العوامل الأساسية في تعبئة ثقافة ما، وشحنها بالرموز والمضامين والمطالب، وتشكيل حقلها الخاص داخل الاجتماع المدني. الدين هنا ليس رؤية للعالم، شأنه في الحالة الأولى، بل عنصر في بناء هذه الرؤية التي قد لا تكون رؤية دينية بالضرورة، وإنما يحتمل أن تكون رؤية اجتماعية أو قومية أو سوى ذلك. فقد تفرض ضغوط سياسية واجتماعية على شعب أو جماعة تعبئة المخيال الجماعي برموز وقيم من شأن استثمارها في الحقل الثقافي أن يعيد التوازن إلى الذات، ويشحنها بالقدرة على الأداء الأفعل والأمثل. وهذا ما يفسر لماذا يجري استدعاء الدين عند كل أزمة اجتماعية أو وطنية، ولماذا يكاد التعبير الثقافي يميل إلى توطين الرموز الدينية وإلى إفساح المجال أمامها لتشكيل خطاب المواجهة.
ثمة فارق بين وجهي هذه العلاقة (بين الدين والثقافة) لا يجوز أن نخطئ قراءته: يمثل الدين في الحالة الأولى معرفة أو نمطاً من إدراك العالم، بينما هو يمثل في الحالة الثانية طاقة لشحن الحقل الثقافي بأسباب الفعالية في مجالس صراعي. إنه بنية ونسق كاملان في (الحالة) الأولى، بينما هو عنصر داخل بنية أشمل في الثانية (= ثقافة سياسية، ثقافة وطنية، ثقافة قومية، ثقافة إنسانوية..)؛ ووعي هذا الفرق بين الحالتين ممتنع من داخل نفس المقاربة المنهجية، أو هو يحتاج إلى تنوع مناهجي يناسب تنوع أحوال العلاقة. وهكذا، يحتاج فهم العلاقة الأولى إلى تحليل معرفي-منطقي يسبر أغوار النظم الدينية في المعرفة، ويحلل بنية الاستدلال فيها، ويقرأ مسلماتها ولغة الخطاب فيها، فيما يحتاج فهم العلاقة الثانية إلى تحليل سوسيو-ثقافي ينصرف إلى الكشف عن العوامل التحتية التي تدفع إلى استثمار القول الديني في بناء الثقافة.