...لا يستقيم الفعل الثقافي الجاد، بما هو بناء مستمر ضمن سلسلة متلاحقة لا تعرف التوقف،إلا باستحضار دائم للشرط الموضوعي دون أن يظل حبيسا له ، ولن يتحقق هﺬا الوعي الثقافي المبني على الواقعية وتجاوزها في الآن نفسه إلا بتجاوز كل الوثوقيات وإخضاعها المستمر للمساءلة .
إن اللحظة التاريخية في تجاﺬبها بين المحلية والكونية ، بين الذات والآخر، والتي أصبحت تستدعي بإلحاح ضرورة الاختلاف المولد للتنوع المثمر، تطالبنا بتنسيب الحقائق وتجاوز أوهام اليقين ، تلك التي لم يترتب عنها إلا تفريخ النسخ المتشابهة وممارسة الحجر على العقل الشعبي المبدع ، ولعب دور الوصي على الأجيال اللاحقة .
فاللحظة التاريخية لم تعد تطيق كل أشكال التصنيم وتفويض الأمر الى الكهنوت الثقافي ، ﺬاك الذي استلذ مقامه وصاغ مقاله وفق قواعد عفا عليها الزمن، تراهن على المحرّم وتؤطره دون حتى التفكير في المسموح به والمباح ، مما جعل من ثقافتنا ثقافة الممنوع التي بفعل عامل وجوب التطور والتغير، اتّسع معها مجال المسكوت عنه ، وظل يحفر أخاديد سفلية توهم بالاستقرار وتنذر في الآن نفسه بالانفجار في كل لحظة .
إن ثقافة الموت التي طفح كيلها في الآونة الأخيرة وأصبحت ظاهرة عقائدية لم تولد من فراغ ، ولم تكن وليدة تحول بالطفرة ، بل كانت نتيجة حتمية لهيمنة ثقافة المحرّم السابقة الذكر، النتيجة الطبيعية المشتقة من علّتها الثقافية . فليس للكائن المحاصر بين الاكراهات اليومية والفكر المستورد إلا سبيل التطرف شرقيا أو غربيا لتظل نفس آلية العدمية، وإوالية الإقصاء، وبناء الحقائق المطلقة في الاشتغال بوثيرة مرتفعة تفتح الغد على المجهول، مما ستصبح معه الثوابت موضع شك وتساؤل في متاهة فقدان الهوية الوطنية وتراجع الإحساس بالانتماء.
ليس الفعل الثقافي ممارسة مناسباتية ينقضي فعله بانقضاء أهازيجه ومراسم احتفاله . إنه بناء مستمر حتى ليغدو عرفا اجتماعيا يسكن اللاشعور الجمعي بقيّم عنوانها العريض الضارب في عمق المحلية المؤهلة للكونية " تمغربيت " ، تلك التي تتماهى بالوطنية فتصبح عمودا فقريا للشخصية المغربية، والتي لا تقبل المساومة أو المزايدة ، شرطها الاعتدال وأفقها التشبث بما يميزنا عن باقي الأقطار، ويرسم لنا صورة خاصة بكل قدرتها على التمسك بتاريخها وقابليتها للتكيف مع ما يمليه المستجد التاريخي .
لنا موقع جغرافي بين شمال يشرئب على الأفق الأوروبي، وجنوب له امتداد في العمق الإفريقي. لنا حمولة ثقافية شعبية خرجت من معطف الحركة الوطنية ، وأسست لثقافة المقاومة ومناهضة كل أشكال الاستبداد.
لنا رصيد معرفي فلسفي نفاخر به الأمم راكمه جيل مخضرم كان أكثر استشرافا للمستقبل ( المختار السوسي ـ محمد الفاسي ـ عبد الله كنون ـ علال الفاسي ـ عابد الجابري ـ عزيز لحبابي ـ طه عبد الرحمان ـ عبد الكبير الخطيبي ـ عبد الله العروي ـ ....) جيل يمكن أن يشكل خلفية معرفية لكل تجلّ ابداعي .
لنا تاريخ راكمته أجيال بين منجزها الابداعي الشعبي واندفاعها السياسي ، ولنا فئة عمرية شبابية تغطي أكبر نسبة في سلم الأعمار، لا تنقصها إلا إرادة ثقافية حتى يحصل التحول الثقافي من سبيل أكّدت الايام وتداول فواجعها عقمه الى مجال ولود معطاء لا يفصل بين العطاء الفكري الابداعي والقاعدة الشعبية. لن يحصل هذا التحول الثقافي المنشود إلا بالوعي التام بالخصوصية المحلية في امتدادها المغاربي وفي إطار فك الارتباط بالثقافة المشرقية ، ﺬاك الذي دشنه رعيل السبعينات ، ولم يستسغه أباطرة المشرق الثقافي ، وشوَش عليه فقهاء الظلام الذين تبنوا التطرف منهجا والغطاء الديني مذهبا ، الأمر الذي حطَم صورة المعلم الفقيه الذي تلقينا على يديه تربيتنا الأولى بتبني قيم الدين السمحاء. لقد أدرك جيل السبعينات زخم الثقافة الشعبية ، وأهمية الحفر عموديا عوض التبعية الزمنية الأفقية ، وتطويع الدرس النظري الغربي ليلائم خصوصيات المنجز المحلي بحثا وإبداعا .
لن يتأتى إدراك التحول المنشود ،إلا بتفاعل وتناغم أضلاع المربع الثقافي الذي يبني عادة أسس الدولة والمجتمع ، ويحدد الغايات الكبرى . فأما الضلع الأول فضلع المؤسسة العمومية ، تلك التي أصبح من أولى أولوياتها حماية الطبقة الشعبية على اعتبار أنها الحامل للخزان الثقافي بالقوة لتنوب عنها الطبقة الوسطى في التعبير عنه أولا وترجمتها بالفعل ثانيا وفاء وإخلاصا منها لمنبثها الشعبي ، وقدرتها ثالثا على تدبير انفتاحه على المستجد العصري ، وهو ما يؤهلها للعب دور الجسر الآمن بين الشرائح الاجتماعية المتضاربة المصالح ، والهياكل الثقافية المتصارعة . إن المؤسسة العمومية حين تنهض على عدم الفصل المتعسف بين التدبير الاقتصادي والشأن الثقافي يحصل لها بيسر تجاوز ثقافة الاستهلاك ، ومساحيق الواجهة إلى بناء الثقافة المواطنة الحقة المبنية على الاعتزاز بالانتماء كحافز وجداني واجب وضروري. إنه مالا يتحقق إلا بتبني برنامج ثقافي يتراوح بين تحديث سياسة المدينة وتأهيل البادية على أن يحضى الهاجس الثقافي بكامل أهميته في أي برنامج عام وأن يخصص جزء كبير من ميزانيته للانشغال الثقافي الذي لا ينفصل على الاهتمام بالجانب الاجتماعي والجانب الاقتصادي ، حيث لا انفصال بين برنامج لمحاربة الأمية وبرنامج للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية وبرنامج لبناء تجمع سكاني نموذجي وبرنامج لاستثمار في بنية تحتية . بكلمة واحدة ضرورة اقتران الرأسمال المادي بالرأسمال غير المادي ، ودائما باستحضار مكثف للشخصية الثقافية المحلية ، وهو ما سيخلق التنوع داخل الوحدة من خلال تجليات تمتد من السلوك الفردي البسيط الى المأوى العمراني عوض العمل على اصطناع تنميطية مفروضة وقاتلة للفسيفساء الطبيعية . وأما الضلع الثاني ، فضلع القطاع الخاص ، ذاك الذي آن له الأوان أن يقطع مع النفعية ذات الأمد القصير بالاهتمام فقط بالمردودية السريعة ومايترتب عنها من سيادة منطق الجشع وفتح آفاق مجهولة للتنافس غير المشروع المبني على الزبونية والمحسوبية ، والذي تجلت أكبر نتائجه فيما نشهده من اكتساح اسمنتي وتدمير للبيئة الطبيعية والسكانية . فالمشروع الاقتصادي غير المبني على مراعاة الشخصية الثقافية المحلية ، بكل عاداتها وتقاليدها ، تاريخها بكل آلامه وآماله ، بكل أفراحه وخيباته ـ بنيتها الفكرية وكيفية تشكيلها لتمثلاتها وتصوراتها ، لطبيعة مخيالها ... لن يؤدي إلا إلى الاحساس بالاختناق ، وتكريس اللامبالاة ، وحفر هوَة سحيقة بين الكائن ومحيطه ، الذات وموضوعها ، وتلك أقسى حالات الاغتراب التي تجرد الكائن من الفعل وتحوله إلى رد فعل يهدد باستمرار كل أمن ثقافي . وهو الذي لن تتأتى بدايته إلا بتشجيع القطاع الخاص للفعل الثقافي واحتضان مشاريعه الإبداعية وتسويق منتوجه الفكري والفني في إطار هيكلة الاهتمام بالسياحة الثقافية ، إذ يستحيل الانتماء إلى الفسيفساء الثقافي العالمي إلا بالاضافة النوعية للمنتوج الوطني الأصيل ... فلا كونية بلا محلية ، ولا محلية دون الاعتناء بجذورها ,
أما الضلع الثالث فيتعلق بالقطاع الاعلامي باعتباره المؤسس للرأي العام ، والموجه للأحداث والوقائع والسائر بها نحو أفق محدد كاختيار من بين آفاق متعددة . إنه العامل على تشكيل رؤية شمولية تتجاوز التعليق الباهت على الوقائع المعزولة وتضخيمها أو تحجيمها حسب الأهواء والأمزجة إلى بناء وتأسيس نمط من التفكير يسري بين الشرائح الاجتماعية ويوجهه وفق وثيرة يضبط إيقاعها تبطيئا أو تسريعا . بهذا يشرعن القطاع الاعلامي سلطته التي تنطلق من الاهتمام بالمجال المحلي وتفكيك ظواهره بتحليل متغيراته ، والتي هي بالأساس تمظهرات ثقافية عائدة إلى ترسبات فكرية تستدعي التحقيق في بواعثها وعللها وفق أسس علمية لا تنهض على التكهنات والتنجيمية والرجم بالغيب بل على تشريح علمي يربط النتائج بالمقدمات، اذ ابسط السلوكات انما تعود الى علتها الثقافية المحلية ايجابا او سلبا . انه ما يستدعي بناء السلطة الاعلامية لا على التصالحية ولا على العدمية بل على ثقافة النقد المستمر التي لن تتأتى إلا باعتماد الوضوح الاعلامي ، وذلك باعتماد خط تحريري لا يمكن نفيه بادعاء الاستقلالية التي اصبحت ذريعة للربح ، وجعلت الرأي العام في مهب الراسمال المادي ، وأفقدت السلطة الاعلامية دورها التثقيفي، وفتحت الشارع العام على الغموض بجعله تحت رحمة المنبر الاعلامي المدجج بترسانة مادية. فلا حرية للخبر ولا حرمة للتعليق خارج الخط التحريري المبني على رؤية ثقافية جادة وهادفة – وفية لمبادئها وقناعاتها - ومساهمة في شفافية المشهد عوض الزيادة في تضبيبه . ان السلطة الاعلامية بثورتها الرقمية دون سند ثقافي لن تعمل إلا على ولادة رأي عام زئبقي قابل للتشكل وفق كل القوالب والاشكال، وجاهز للتنفيذ دون أدنى غربلة او تمحيص . فالطبيعة نفسها تخشى الفراغ يمينا ويسارا .
أما بخصوص الضلع الرابع فيتعلق بمكونات المجتمع المدني أحزابا ونقابات وجمعيات ، والتي لا يمكن ان تضطلع بدورها في غياب مهمة التأطير الموكولة لها باستقطاب مبني على القناعة الثقافية والوضوح المنهجي ، فلا ينبغي للانخراط أن يحكمه منطق التكالب على المناصب وتوريثها بوضع العوائق أمام الطاقات الشابة الحاملة للهم الثقافي ، اذ لا يمكن اطلاقا المراهنة على المريدين والتبع في اطار انتاج النسخ المتشابهة الحافظة عن ظهر قلب للادبيات المسكوكة والنماذج المصنمة والمرددة بحماس مفرط للشعارات الجوفاء ، تلك التي لا يختلف بها الاطار المدني عن معقل الزاوية العتيق ... ليس الاطار المدني دكانا مناسباتيا ، ولا هيأة ذيلية تابعة بل هو قوة اقتراحية ، تستنبط قوتها من الاشتغال الدائم لخلاياها الثقافية ، والمبنية على خلاصات بحوث ميدانية لارياء فيها تسمي الاشياء بمسمياتها ، على اعتبار أن هذه الخلاصات هي التي ترسم للاطار المدني توجهه العام ، وتحدد له مساره الشامل في أفق الاجوبة الخاصة عن أسئلتنا الكبرى ، وتخول له الانخراط في السياسة العامة من قبيل دوره الاساسي في الدبلوماسية الثقافية التي ستحول دون تهريب قضايانا الشعبية . لينشغل كل ذي منطقة بتاريخ منطقته ، من المؤسسة العمومية الى الاطار المدني ، وبثقافته الثاوية خلف موروثه ، بما ترسب في قعر تربته الاصلية ، بذا يمكن الحديث عن الثقافة الشعبية وتلويناتها ، وقدرتها ايضا على مسايرة الركب الحضاري ، وبذا أيضا تتكامل أضلاع المربع الثقافي وتتناغم داخل سياسة ثقافية شعبية وطنية موحدة بروافدها المتنوعة . خاطئ من يعتقد ان خلفيته الثقافية ومرجعيته الفكرية هي الضامن الوحيد والاوحد للأمن وللاستقرار، فالمغرب آمن بتعدد روافده وتنوع منابعه ... وقد آن الأوان للتحول من ثقافة الحركة الوطنية الى ثقافة الحركة المواطنة ، فالاختيار الحداثي الشعبي هو الحلَ .