يعد الإنسان المعاصر إنسانا ذا بعد تقني خالص ، فقد شكلت التقنية المعاصرة جوهر حياة الإنسان وطبعت وجوده الخاص وكينونته ، فقد تغلغلت في مختلف جوانب حياته ، فلم تعد هناك مسافة بين الإنسان و التقنية بل أصبح هناك تطابق وتماهي بينهما لدرجة يمكن القول معها إن الذات الإنسانية انصهرت في التقنية ذاتها ، فلم يعد بمقدور الفرد الخروج عن دائرتها و نمط اشتغالها بل أصبح عاجزا، إنه مقيد يطأ تحت رحمتها لدرجة وصف ذاته بمستلب الذات و الهوية .
إن علاقة الإنسان بالتقنية علاقة تداخل تاريخي طبعت الوجود الإنساني ، فقد ارتبط ظهورها وتطورها تاريخيا بالإنسان حتى أضحت علاقة الإنسان بالتقنية علاقة أنطولوجية ترابطية فيما بينهما ، تحولت في مرحلة تاريخية إلى صراع غير متكافئ بينهما انهزم من خلالها الإنسان في معركة الوجود . فبالعودة تاريخيا إلى الماضي يظهر أن الإنسان لوحده عاجز عن تحقيق متطلباته أضف إلى ذلك الصراع غير المتكافئ مع الطبيعة التي كانت تهدد وجوده و بقاءه مما اضطر إلى ابتكار التقنية و تسخيرها لصالحه ، فبواسطتها انتصر الإنسان على الطبيعة و سخر التقنية كقوة إنسانية لقهر قوة الطبيعة و استغلالها لصالحه ، [ روني ديكارت ، مقالة في الطريق ] غير أن تاريخ التقنية إذا تأملنا فيه يعكس لنا أنه في مرحلة تاريخية معينة فقد الإنسان السيطرة على التقنية ، فانقلبت موازين الصراع بين الإخوة الأعداء من مبدع لتقنية وفاعل في وجودها إلى عبد خاضع لها ، فالتطور الهائل الذي عرفته يرجع إلى فاعلية الإنسان الفكرية ، ورغبته الجامحة في امتلاك والسيطرة على الكون و الطبيعة بل أكثر من ذلك السيطرة على أبناء جنسه البشر ذاته غير أن الإنسان فقد السيطرة على التقنية و قوتها التي أصبحت تفوق قوة الإنسان حتى أصبح ينظر إليها بمثابة التنين الميتافيزيقي الذي يفوقه قوة و قدرة و يستحيل إجباره و إخضاعه و السيطرة عليه .
إن فقدان الإنسان السيطرة على التقنية جعلها تستلب حريته[ مارتن هايدجر التقنية الحقيقة الوجود ـ ترجمة محمد سبيلا وعبد الهادي فتاح ] التي كان يتمتع بها فقد أضحى إنسان العصر بمثابة عبد يتم توجيهه من طرفها بل أكثر من ذلك ، إنها أسرت حياته الخاصة ووجهتها وفق إرادتها ، الشيء الذي انعكس سلبا على وجوده ، فارتفعت صيحات المعاناة مطالبة بالإنعتاق من قيود التقنية و مشكلاتها على حياة الإنسان ، إن بنية الإنسان الوجودية أضحت تعتريها ظواهر نفسية اجتماعية ، مما فتح الباب للنقاش حول الأثر السلبية لاستعمالات التقنية و تجلياتها على البنية الثقافية و الأخلاقية للفرد
صحيح أننا خاضعون لتقنية ، و صحيح كذلك أن التقنية تغلغلت في مجمل مستويات الوجود الإنساني لكن هذا لا يمنع الفرد من التفكير الجدي و الفعال في ضرورة الوعي بمسألة الاستلاب التقني في علاقة الإنسان بها ، مما طرح معه العديد من المشكلات النفسية و الاجتماعية مما استدعى الأمر فتح النقاش السيكولوجي و السوسيولوجي كمحاولة لإعطاء مقاربات ابستيمولوجية لهذه المعضلات السوسيوـ نفسية وخاصة أمام فئات عمرية أضحت الطعم السهل للوقوع في شراك الاستلاب التقني و التكنولوجي المعاصر ، و أخص هنا بالذكر فئة المراهقين ذات البنية الثقافية الهشة إذا ما حصرت حديثي هنا عن المجتمعات العربية المعاصرة .
إن المجتمعات العربية هي مجتمعات يمكن وصفها بالاستهلاكية ليس فقط على المستوى الاقتصادي كما يتبادر إلى لأذهاننا ، و إنما على مستويات عدة مما يؤهل المراهق للوقوع السهل في الاستلاب خاصة استلاب التقنية ، فالفئة العمرية الأكثر قابلية للاستلاب هي فئة المراهقين خاصة في علاقتهم المباشرة بالتقنية ـ الأنترنيت ـ .
يعد الربط بالأنترنيت الولوج إلى منظومة معلوماتية عالمية لها آليات اشتغالها الخاصة ، لها سلطة و قواعد تفرض على المستعمل لهذه الشبكة لذلك في البداية تضع قيودا على كل من يريد الانخراط و بكل حرية في المنظومة المعلوماتية ، فالفرد بكل حرية يقبل الولوج إلى هذه المنظومة العالمية ذات البعد الافتراضي لما توفره من مناخ ثقافي فيما بين الثقافات و الشعوب و تخلق جسرا للتواصل بين مختلف الأجناس و يسهل امتلاك المعلومة و تقاسمها مع أفراد آخرين على عالم افتراضي ،غير أنه يجب أن لا ننسى أن المستعمل لها لديه هوية ذات بنية ثقافية و منظومة أخلاقية تربوية تحتم عليه الحذر حتى لا تتصدع هويته ،وهنا يطرح السؤال كيف يحافظ المراهق على بنته الثقافية الأخلاقية من الوقوع في شراك الاستلاب التكنولوجي و المعلوماتي ؟
جدير بالذكر أن المنظومة المعلوماتية لجانب من الرقابة و التقنين من طرف الدولة لذلك فالربط بالأنترنيت يخضع لتقنين سياسي صارم ، فقد تكون الرقابة حفاظا على سلطة الدولة شرعية السلطة السياسية لكن ما يهمنا نحن هو توضيح علاقة المراهق بالأنترنت واثر ذلك عليه .
صحيح أن من حق المراهق الاستفادة من الخدمات المعلوماتية غير أنه هو الفئة الأكثر استلابا ولا يعود ذلك له بالدرجة الأولى بل هناك عوامل ثقافية مجتمعية وحتى سياسية تساهم في ذلك ولعل البينة الثقافية للمجتمع لها دور في ذلك فمجمل ثقافة المجتمعات العربية توصف بالهشة مما يجعل المراهق نتاج لثقافة هشة تسهل وقوعه في شراك الاستلاب لذلك تعد البنية الثقافية الهشة للمراهق في كل البلدان العربية أهلته لكي يكون مستلب الذات و الهوية ، لأنه لا يملك الميكانيزمات الثقافية لتحليل وضعيته و تحليل وضعية العنف الممارس عليه من الانترنيت كتقنية ، إن عدم امتلاك رأسمال ثقافي لدى المراهق ومرد ذلك إلى الأسرة التي تفتقر لهذا الرأسمال الثقافي وفي غياب مرافقة و اصطحاب أسري يجعله في وضعية ملائمة للوقوع في ضحية استلاب معلوماتي تقني غير أن الوقوع في نمط الاستلاب لا يقتصر على المراهق وحده بل يتعداه إلى أفراد أسرته .
إن وضعية الاستلاب التي يعيشها المراهق و أمام غياب الرأسمال الثقافي يخلق لديه أزمة نفسية داخلية يفرض علينا تحليل وضعيته انطلاقا من تحديد العوامل التي تساهم في ذلك :
العوامل الاقتصادية :
إن الوضعية الاقتصادية للفئة العريضة من المجتمعات العربية [ المغرب ، الجزائر ، مصر ... ] توصف بالوضعية الهشة اقتصاديا ويتضح ذلك من خلال ارتفاع معدلات الفقر في هذه الدول الناتج عن تناقض طبقي يسري على بنية المجتمعات العربية ، يجعل من الفئة الكبرى تعاني من الاضطهاد الطبقي و الفقر ...لذلك فجل المراهقين أبناء هذه الطبقات لا تكون لهم علاقة مباشرة مع التقنية المعلوماتية إلا في مرحلة عمرية متقدمة هنا إدا حصرت حديثي عن امتلاك الأجهزة المعلوماتية كالهواتف ذكية ، حواسيب محمولة ... و الربط بالأنترنيت لذلك فالمراهق يقبل و بشكل هستيري على استعمال هذه الأجهزة ، غير أن الإقبال الغير معقلن لها يجعله سهل الوقوع في استلابها لما تمارس عليه من عنف وديع لا يحس به ومن جهة أخرى نجد المراهق يفتقر لثقافة استعمال المنظومة المعلوماتية و استثمار كل ما هو ايجابي فيها ، لكن نجد غالبا ما يستعمل المراهق المنظومة المعلوماتية بعيدا عن الرقابة الأسرية غير أن تفسيرا بسيطا يمكن إعطاءه لذلك هو أن المراهق غالبا ما يحرم في طفولته من مجاورة التقنية المعلوماتية و أجهزة استعمالها ومرد ذلك إلى الوضعية الاقتصادية الهشة للأسرة في حين نجد أبناء الطبقات المحظوظة غالبا ما تتوفر لهم إمكانية امتلاك نظرا لامتلاك أسرهم رأسمال اقتصادي .
العوامل الثقافية :
إن للعوامل الثقافية دور مهم في تجنب الوقوع في الاستلاب أو الوقوع فيه ، إن المراهق في البلدان العربية كما أسلفنا الذكر لا يتوفر على رأسمال ثقافي يؤهله من تجاوز وضعية الاستلاب ، لأن وضعيته الثقافية هشة و لها ارتباط وثيق بالوضعية الاقتصادية للأسرة و بنمط التعليم الذي يتلقاه الفرد ، فإذا ما حاولنا تحليل بنية الرأسمال الثقافي للأسرة نجد غالبية الأسر لا تتوفر على مكتبة أسرية و الوالدين لديهم رصيد تعليمي ضعيف وذلك يؤثر سلبا على المراهق لأنه نشأ في بيئة ضعيفة ثقافيا فعندما واجه شبح التقنية يستلب بسرعة لأنه لا يمتلك الميكانيزمات الثقافية التي تؤهله لتفكيك الخطابات وتأويلها أو حماية نفسه من العنف الممارس عليه معلوماتيا لأن هذا العنف في الحقيقة استلاب وديع يمارس على المراهق بطريقة وديعة و بتواطؤ معه . [ بيير بورديو إعادة الإنتاج ترجمة ماهر تريمش الطبعة الاولى بيروت 2007 ]
العوامل الاجتماعية :
تلعب العوامل الاجتماعية دور مهم في شخصية المراهق و في حمايته من الوقوع في الاستلاب المعلومات ، فالوسط الاجتماعي للمراهق سواء محيطه الأسري بتنشئته الاجتماعية أو مختلف وسائط التنشئة الاجتماعية الأخرى[ دور الشباب ، جمعيات المجتمع المدني ، الأحزاب ...] يلعبون دورا مهما في تكوين شخصية الفرد ، التي عملت على تشريب أنماط السلوك عبر تدخل وسائط متعددة و مغايرة من استراتيجيات العمل بين مختلف وسائط التنشئة ، لذلك إذا كانت البنيات الاجتماعية التي تحيط بالمراهق سليمة فإنها تساهم في تكوين شخصية تتفادى الوقوع في شراك الاستلاب التقني المعلوماتي .
عموما يمكن القول بأن المنظومة التكنولوجية المعلوماتية تقدم إغراءات للفرد [ المراهق ] مما يجعله سهل الوقوع في الاستلاب خاصة أن المراهق يبحر في المنظومة المعلوماتية بمفرده دون توجيه أو رقابة وذلك يضعه في مخاطر الاستلاب ذهنيا و نفسيا عندما تعرض له مشاهد عنيفة ، واستقبال معلومات مشوهة وانجرافه في تيار الصورة المغرية [ ع الرحمن العلمي مدخل لعلم النفس الاجتماعي ] و العنف الوديع الذي تمارسه الصورة على الفرد [ بيير بورديو ] و ذلك بامتلاكها لقوة معلوماتية أو ما يصطلح عليها بالسلطة الناعمة soft power [ ناي أووينز مجلة فورن أفيرز عدد مارس 1996] .
إن الوقوع في الاستلاب التقني ـ المعلوماتي للمراهق يهدد بنيته الثقافية و الروابط العائلية و الاجتماعية ويظهر ذلك في عدد كبير من المدمنين على ذلك ، من خلال الولوج إلى عوالم افتراضية وبأسماء مستعارة و هو استعمال لا واعي للمنظومة المعلوماتية وينجم عن ذلك انفصال الفرد عن أقرباءه بل تكون الآلة بعوالمها الافتراضية أقرب جليس للفرد وترده مجرد عبد خاضع لها باعتبارها مجال للمتعة و مصدر للوهم .
إن المتاهات النفسية قد تعصف بالمراهق نحو الانحراف بكل تجلياته لأن واقع العالم الافتراضي بشروطه استلب الفرد وهدم روابطه الاجتماعية و الثقافية وهو ما يتناقض مع طبيعة الواقع المعيشي للفرد ، هنا يجد المراهق نفسه أمام وضعية مفارقة بين عالم افتراضي وحقيقة الواقع ، فهذه الوضعية تفرز حالات مرضية يعاني منها المراهق ، هذا ما يضع الأسرة أمام تحد كبير لحماية أبناءهم من خطر الاستلاب التقني ، ويفتح الباب للنقاش حول دور الأسرة و المؤسسات التعليمية و نوع التعليم الذي يتلقاه الفرد ومسائلة الدولة عن مدى مراقبتها المعلوماتية لاستثمار أفضل واستعمال ايجابي للتقنية .
المراجع و المصادر :
- مارتن هايدجر حوار مع مارتن أجراه ريتشارد فيسر ترجمة إسماعيل المصدق ، مجلة فكر و نقد عدد 23 ـ 1999
- روني ديكارت : مقالة في الطريق ، ترجمة جميل صليبا الطبعة 2 بيروت
- عبد الرحمان العلمي ادريسي مدخل لعلم النفس الاجتماعي
- بيير بورديو إعادة الإنتاج ترجمة ماهر تريمش الطبعة الاولى بيروت 2007
- مارتن هايدجر التقنية الحقيقة الوجود ـ ترجمة محمد سبيلا وعبد الهادي فتاح
- ناي أووينز مجلة فورن أفيرز عدد مارس 1996