" إذا كانت الفلسفات المجردة تعتبر الذوق ملكة فطرية طبيعية ترتبط بالإنسان ، فإن رؤية سوسيولوجية بسيطة قام بها بورديو أدت به إلى الاعتراض ونقد هذه الفكرة ، فليس الذوق ملكة فطرية طبيعية عند الإنسان و ليس معطى طبيعيا في الذات الإنسانية ، بل إن الذوق عند الإنسان يرتبط بوسطه الاجتماعي ، فبالملاحظة و البحث السوسيولوجي الذي قام به ، تبين له أن عملية التذوق تتحدد انطلاقا من الموقع الذي يحتله الفرد داخل المجتمع ، و من ثمة فالتمييز في الأذواق و الألوان عملية تتطلب جهدا كبيرا في محاولة تحديد المعايير و الميكانيزمات المتاحة التي تحدد ذوق الفرد .
إن تحديد ذوق الفرد داخل المجتمع أرجعه بورديو إلى الممارسات الثقافية مثل المسرح ، الفن المتحف ... ، وكلها تبقى غير متساوية للأفراد داخل المجتمع الواحد كونه مجتمعا طبقيا بامتياز ، فالانتماء الاجتماعي لطبقة معينة هو الذي يحدد ذوق كل فرد على حدة ، فإذا وقفنا على مثال الفن لكونه يرتبط بشكل وثيق بالتذوق لدى الأفراد ، فإن ملاحظة بسيطة تبين لنا التقابل الصارخ بين جمالية فئة شعبية ترتكز على استمرارية الفن و الحياة التي يعيشها و يحياها الفرد ـ فهذه الفئة تفضل النهاية السعيدة ـ وبين فئة أخرى راقية تحاول أن تضع مسافة كبيرة بين الفن و الحياة ،لأن هذه الأخيرة تمتلك الرموز و الآليات لتفكيك الخطاب ، هذه الرموز اكتسبها الفرد من محيطه العائلي ذي التنشئة الاجتماعية القوية ثم نوعية التعليم الذي تلقاه الفرد .
إذن فالذوق الفني كنشاط ثقافي يبقى بعيدا عن التحديدات الذاتية ، ولا يعتبر الفرد مسؤولا عنها ، بل إنها سلوكات اجتماعية و كفايات استدمجها الفرد من محيطه الاجتماعي ، وهذا يظهر لنا إذا لاحظنا بأن أبناء الطبقات الشعبية يتصورون الفن ملتصقا بالحياة اليومية ، فيستمر تأثير الفن على حياتهم و هو الشيء الذي يستمر كذلك في أنشطتهم الثقافية ، في حين أن أبناء الطبقات المحظوظة يرون أن الموقف الفني و النشاط الثقافي ينمان عن وجود تنشئة اجتماعية تحمل ميكانيزمات ثقافية علمية ، كما ينمان عن تكوين مدرسي تعليمي عالي تجعله يضع مسافة بين الفن و الحياة ، أضف إلى ذلك كونهم يتوفرون على رأسمال ثقافي يمكنهم من امتلاك القدرة على فهم الخطاب المجرد و تفكيك الخطاب و تأويله و فك الرموز، و هذا ما يعكس وجود تمايزات في الأذواق و تمايزات في الأنشطة الثقافية ، هذه التمايزات تعتبر رمزية ، وهي انعكاس لواقع مادي اجتماعي بين طبقات المجتمع . و يضيف بورديو بأن هناك مجالات ثقافية متعددة تعكس التمايزات في الأذواق بين الأفراد ، فنجد الموسيقى الكلاسيكية ، الرسم ، النحت ، السينما ، الصور ، الأغنية ... وداخل هذه الأنماط الثقافية توجد تمايزات متباينة في الأذواق ، فإذا أخذنا الموسيقى الكلاسيكية فيمكن أن نميز فيها بين ذوق شعبي و ذوق متوسط وذوق راقي ، فهذه التمايزات تتجاوز الموسيقى و تظهر كذلك في الممارسات الثقافية العادية كاللباس ، التزيين ،الرياضة ، الطبخ ... فإذا وقفنا عند المطبخ فنجد الفئات الشعبية تفضل الأكل الكثير وأكل اللحم عن السمك ، وتظهر بأنها تحديدات ترتبط بالتنشئة الاجتماعية و بأخلاق الفرد و ليست بتحديدات اقتصادية كما يعتقد . نفس الشيء نجده في الممارسات الرياضية ، فنجد الطبقات الشعبية تحب الرياضات الشعبية ككرة القدم ، الملاكمة ... و كلها رياضات تتطلب جهدا بدنيا و تضحية ، بينما نجد الطبقات الراقية و المتوسطة ، تمارس الكولف ، ركوب الخيل ، التنس ... و كلها رياضات تجعلك تضع مسافة فردية بينك و بين الخصم و تتميز باختيار الشريك .
يظهر لنا إذن بأن العامل الاقتصادي له دور حاسم في تحديد ذوق ويحاول أن يحدد موقع الفرد داخل السلم الاجتماعي ، من هنا يرى بورديو بأن مكانة الفرد تحددها ثلاث أبعاد رئيسة :
ـ الحجم العام للرأسمال الذي يملكه الفرد؛
ـ توزيع هذا الحجم بين الرأسمال الاقتصادي و الرأسمال الثقافي ؛
3ـ تطور الخاصية الأولى و الثانية مع صيرورة الزمن ،بمعنى أن الفاعلين يحصنون مواقعهم الاجتماعية من خلال استثمارهم لرأسمال الاقتصادي لتحقيق السيطرة داخل المجالات الأخرى ...