تأتي هذه المقالة في سياق مقالات سابقة وأخرى لاحقة تعنى بالنبش في "أمراض الحالة المغربية"، ومن خلال التركيز على ثلاثة أطراف (المثقف والسياسي والقارئ)، ومن منظور "الأنثروبولوجيا السياسية العامة" تارة ومن منظور "التحليل الثقافي المرن" تارة أخرى كما في حال هذا المقال. ونمط "القارئ المتفرج" لا ينفصل عن أنماط أخرى تعكس "الحال المرضية المغربية" التي هي "حال عربية" أيضا. فليس غريبا أن نكون، في مقالاتنا السابقة، قد أقدمنا على تثبيت نمط "القارئ المتفرِّج" ضمن خردة أنماط القراء الداعمين لـ"أمراض الحالة المغربية". فمجموعة "القارئ المتفرج" تفرض ذاتها، بإلحاح، في هذا السياق. بالنظر لحجم هذه المجموعة مقارنة مع المجموعات القرائية الأخرى المنتظمة في "المربع" ذاته بل وبالنظر لتصدّرها لـ"مقدمة المشهد" كذلك. وهذا على الرغم من التزامها الحياد الظاهري أو التزامها الصمت المطبق بصدد القضايا المتضمـَّنة في النصوص الأساسية والأعمال المركزية. وهذا على الرغم من أن هذه القضايا تعالج وقائع تبلغ حدَّ "الحدث الحافز" (Evénement Catalytique) بمعناه المصاغ في السوسيولوجيا السياسية والعلوم السياسية. الحدث الذي يحفـّز على التفسير والتحليل والتأويل والنقد والنقد المضاد ونقد النقد والنقاش ... إلخ.
وإذا كان كل من "القارئ الصغير" و"القارئ العدواني" و"القارئ المنقسم" و"القارئ العصابي" و"القارئ التابع" و"القراء السادة والعبيد" ... يعمدون إلى "الرد الكتابي" واعتمادا على إواليات تصل وتفصل ما بين "الخضوع والامتثال" و"التدمير والكراهية" و"التطاول والمزايدة" و"التنفيس والالتواء" و"الاستعلاء والولاء" ... فإن "القارئ المتفرج" لا يعمد إلى أيّة آلية من هذه الآليات أو بالأحرى هو يعمد إلى آلية غريبة وفريدة يمكن الاصطلاح عليها بآلية "التلذذ": تلذذ الفرجة، ومن "على الشاطئ"، وعلى النحو الذي لا يجعل هذا القارئ يشعر، ومن خلال الآلية ذاتها، بأنه يدعم "إيديولوجيا الفرجة" التي تعطـِّل "مفعول الخطاب" داخل النظم الاجتماعية والسياسية، خصوصا وأن هذا القارئ هو ــ وفي النظر الأخير ــ جزء من هذه النظم.
وسيكون من باب "النفاق الأكاديمي" عدم التذكير بأن مفهوم "المتفرج" (Le Spectateur) متداول، وعلى نطاق واسع، في "الفلسفة الغربية" وعلى النحو الذي يسمح بالحديث عن "مدارس" قائمة بذاتها في هذا المجال؛ ومما يفرض الالتفات إلى ما يحصل في أمريكا أيضا وبالتالي عدم التقوقع في إطار من "الجزيرة الفرنسية" التي لا نزال "نحن المغاربة" ننغلق في إطار منها. وفي جميع الأحوال ثمة، وبخصوص "مفهوم المتفرج"، مدارس قديمة وأخرى جديدة عملا بقولة "الأزمة الجديدة التي لا تفترض أجوبة قديمة". ومن هذه الناحية كان للإعلام، وفي وقتنا الحاضر تعيينا، الدور الأرجح على مستوى الزلزلة التي حصلت في مفهوم المتفرج، وخصوصا من ناحية ما يلخصه البعض في "التلاعب بالعقول" إذا جاز أن نأخذ بعنوان كتاب هربيرت شيللر (Herbert Schiller) أستاذة "مادة التواصل" في الجامعة الأمريكية. وإذا أمكن أن نلخِّـص النقاش بصدد المتفرج فهناك تياران متعارضان: الأوّل يرى أن المتفرج "خاضع" و"مهيمن" عليه، ويمثل هذا التيار ــ في فرنسا ــ ألان فينكييلكروت ((Alain Finkielkraut وريجيس دوبريه (Régis Debray) ... فيما يرى التيار الثاني أن المتفرج يتوفر على إمكانات لـ"التحرّر والإنعتاق"، ويمثله وعلى نحو ما هو متداول "تلميذ لويس ألتوسير" جاك رانسيير (Jacques Rancière). فمن الجلي أن المتفرج "أرخبيل" كما قال كريستيان روبي (Christian Ruby) الذي يعدّ من بين أهم الدارسين لموضوع "المتفرجين" من "وجهة نظر فلسفية" تفيد في سياق "التحليل الثقافي" و"التحليل السياسي".
وفي المجال العربي لا نعدم أصداءً (ولو ضئيلة) لجانب من هذا "النقاش الكبير" بالنظر إلى بعض الأسماء التي تمّت الترجمة لبعض أعمالها أو تمت الترجمة لمقالات لها. وفي هذا الصدد يمكن أن نحيل على الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير (وقد سلفت الإشارة إليه قبل قليل) في كتابه "المتفرّج المتحرّر" (Le Spectateur Emancipé) (2008). والكتاب يخوض في مسألة "العماء"، ذلك أنه لا يكفي أن "نرى" طالما أن "العماء" كامن في الرؤية ذاتها ما لم نعرف كيف نرى. وقد أعفانا المراجع العربي من تلخيص الكتاب حين لخـّص "أطروحته" في قول صاحبه بـ"فكرة الجمهور العاجز"، وهي الفكرة التي أفضت بدورها إلى القول بـ"متفرّج يقظ، يفهم ما يريد، بسبب تساوي حظوظ البشر من الفهم والإدراك"؛ مما يـُسقط، وكما يمكن أن نضيف، "دعاوى المثقف ــ القائد" لـ"الجمهور العاجزً عن التفكير بمفرده". فرانسيير يشدّد على مشاركة الجميع في ممارسة الفكر ومن خارج الثنائية الضدية: "نخبة" تنتج الفكر و"حشود" تتلقف هذا الفكر.
وقبل رانسيير هناك كتاب "المتفرج الملتزم" (Le Spectateur Engagé) (1981) لمواطن رانسيير المفكر الأبرز ريمون آرون (Raymond Aron) الذي اشتهر أكثر بكتابه "أفيون المثقفين" (1955). والكتاب (الأوَّل) في الأصل حوارات أجريت مع ريمون أرون من قبل شابين يساريين هما: دومينيك وولتن (Dominique Wolton) وجان لويس مسيكا (Jean-Louis Missika). والمتفرج المتحرر، أو المنعتق، يحيل على أرون نفسه في موقفه من العديد من أحداث "الغليان الإيديولوجي" التي عاصرها وعايشها من موقع "المراقب" و"المتفرج الملتزم" ودونما غطس في الأحداث أو تقلد مهام ومناصب. إجمالا تقوم فكرة الكتاب على تصور للتاريخ يفسح المجال لحرية الأفراد، ومن ثم كان "الرد" على الماركسية وقبل أن تأخذ في "الانحسار". وقبل كتاب كل من أرون ورانسير هناك كتاب الصحفي الأميركي الشهير والتر ليبمان (Walter Lippmann) "جمهور الأشباح" (Le Public fantôme) (1925). "ومع أن الكتاب بدا، ذات مرة، جزءاً من الماضي، فإن أزمة "الليبرالية الجديدة" بعثته من جديد، فحظي بأكثر من قراءة، في بلاده، وفي فرنسا بشكل خاص" كما قيل عنه حيث تمت ترجمته وتقديمه بشكل لائق في بلد ديكارت.
والمؤكد أن "المتفرج" سالف الذكر، وعلى مستوى التعامل معه، محكوم بـ"سياق معرفي"... مثلما أنه، ومن وجهة نظر تاريخية، محكوم بتبدلات المجتمعات الغربية ولاسيما من ناحية "العولمة" بآليتها التفكيكية وبتعميقها لـ"مجتمع الاستهلاك" للسلع والصور. والأهم أن هذا المتفرج لا يعني "الاستقلال التام" عن ما يحصل في المجتمع، فهو معني بهذا الأخير ومنخرط فيه بمعنى من المعاني؛ هو جزء من "الخطاب العام والسائد"، مما يمكـِّن من الاطلاع على أفكاره وطموحاته ومواقفه. ولا يعني ما سلف، ومن جهتنا، إعادة سيناريو التبعية العمياء للغرب في كل ما يكتبه هذا الأخير بقدر ما يعني محاولة استخلاص بعض دلالات السند التصوري الذي بموجبه تتأكد مكانة المتفرج في الحراك الفكري وسواء من ناحية "التحرر" أو "الانعتاق" كما في حال رانسير أو من ناحية دلالة "الالتزام اليقظ" كما في حال أرون. وكما كتب الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو في "المراقبة والعقاب": "مجتمعنا ليس مجتمع فرجة، بل مجتمع رصد".
والغاية مما سلف هي أن نخلص إلى أن المتفرج بالمغرب يرتبط بـ"خصوصية الأزمة المغربية"، مما يجعله مرتبطا بسياق مغاير وضاغط. هذا وإن كنا نقصد، هنا، إلى المتفرج من داخل "القراءة" أو بالأحرى من داخل "الفكر القرائي". واللافت أنه كثيرا ما تمّ ربط المتفرج، ومن باب صلة المعلول بالعلة، بوسائل الاتصال والملاعب والمسارح؛ ومن ثمّ سيل الدراسات التي عنيت بـ"موضوع الفرجة". والفكر القرائي سالف الذكر هو، ومن وجهة نظر "سوسيولوجيا المعرفة"، في دلالة على ما ينبثق من "فعل القراءة" من "أفكار" ــ و"أفكار مضادة" ــ جديرة بالإسهام في الحراك الفكري وفي الواقع الإيديولوجي. إلا أن القارئ، وفي السياق المغربي، ورغم ما يدخره من أفكار وآراء ومواقف، يرسم لنفسه "مسافة" مع "الكلام". مسافة جديرة بأن تعكس أحد عيوب النسق الثقافي والسياسي بالمغرب طالما أن هذا القارئ لا يعاني من "الخرس" أو أي مرض "لغوي" آخر... بقدر ما يعاني من "داء التلذذ بالفرجة" ومن "موقع المسافة الفاصلة".
المؤكد أنه، وفي ضوء مجمل المتغيرات والتبدلات، وفي أنساق الفكر ومقولات الإدراك، التي كان لها تأثيرها البالغ والحاسم على مستوى زلزلة "اللغات الوثوقية" و"الأصوليات الأحادية" و"اليقينيات العمياء"، سيكون من غير المقبول مطالبة القارئ بالانتظام في ما يطلق عليه علم الاجتماع السياسي "صراعات الصفوف" وخصوصا "الاصطفاف السياسي والحزبي الضيق" الذي يكون قرين "المصلحة الإيديولوجية الرعناء" أو قرين "الثمالة الإيديولوجية" و"السائل الإيديولوجي" الذي يكون "ضدّ الحقيقة وضدّ الواقع، وضدّ الطبيعة" كما قيل عنه.
إلا انه، ومن ناحية معاكسة، سيكون من غير المبرِّر أن يتخندق القارئ في "الصمت" وعلى النحو الذي يفضي به إلى تعطيل بطارية الفهم والتفكير والمحاكمة، بل وحتى تعطيل "الانتقاد"؛ ومهما كان كاشفا هذا الأخير عن "حالة مرضية" نتيجة تغلب "الاعتقاد" على "الانتقاد". وحتى "القارئ المتفرج المتهم" يبدو مقبولا في هذا السياق، لأنه ليس هناك ما هو أسوأ من أن يتماهى القارئ مع "المتفرّج المسرحي الأصمَّ (Sourd) الجالس في الصف الأخير" تبعا لعبارة والتر ليبمان التي لم يتغافل عنها أكثر من مراجع لكتابه وفي السياق الفرنسي أيضا. قلنا ليس هناك ما هو أسوأ من أن يتماهي القارئ مع المتفرج الأخير بالنظر إلى زمننا هذا الذي أصبح فيه "الرد" متاحا في الفضاء العام، وفي الإعلام الاجتماعي. فالعصر هو "عصر الجمهور والمتفرج" رغم التعقيد الحاصل في التعاطي مع العالم من أجل فهمه ومناقشته، ومن أجل صياغة آراء بخصوصه ومن قبل الجمهور ذاته.
وخطورة "الصمت"، أو "رعب الصمت" إذا جاز مصطلح الناقد والكاتب الفرنسي رولان بارت، وعلى ما سيكون من تناقض ظاهري في كلامنا، كامنة من ناحية "النطق" ذاته. فالصمت لا يخلو من "رسائل" هي، هنا، قرينة النطق بالفساد الثقافي الداعم ــ عبر إواليات التأثر المتبادل ــ للفساد السياسي. وهذا "الصمت"، كذلك، هو ما يسمح لـ"حشرات الثقافة والسياسة" بالظهور بل ويسمح لها بتصدّر مقدمة المشهد والصفوف الأمامية، وهو ما يسمح بـ"تكريس المشاهير" (ومن "العوام" أيضا) وفي إطار من "كثرة في الألقاب وخواء في المضامين". إن الصمت، هنا، هو تكريس لانتفاء "المقاومة" بأساليبها المختلفة على مستوى مجابهة "النزيف الثقافي والسياسي" الذي أصبح عنوانا عريضا على المرحلة. إن الذين يصمتون هم، وفي الأغلب الأعم، من الذين من المفروض أن "يتدخـّلوا" وفي إطار من الحضور النابه في التاريخ وفي إطار من تصريف النقاش وتدبير الاختلاف ... وكل ذلك في المدار الذي لا يفارق دلالات العقل التداولي ودلالات استخلاص الخطاب من "النصوص المركزية" أو حتى من "النصوص الصغيرة الناجحة". فلا يوجد متفرج من تلقاء ذاته أو في حد ذاته، فالمتفرج لا يصير متفرجا إلا من خلال "التشابك" مع هذه النصوص.
فـ"الإنسان لا يولد متفرجا" كما قيل من قبل أحد دارسي موضوع المتفرج، أو هو لم يولد في "مقصورة المتفرجين". ولذلك كان المطلوب لا أن نحتقر "المتفرج المستهلك" ... طالما أنه هناك، وفي إطار من الثقافة، وبتعبير السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو، "استهلاك منتج" يسهم في خلق الرأسمال الثقافي، ولا أن نسقط في نظرة معاكسة بموجبها نجادل بخصوص "معيار المتفرج الجيد"؛ المطلوب إعادة النظر في "قواعد اللعبة" وعلى النحو الذي يستجيب للمرحلة. ولذلك فإن "المدخل"، هنا، وفي نظرنا، هو "المقاومة" وباعتبارها عملا مزدوجا: العمل الذي لا يجعل منها "تحررا" فقط، وإنما يجعل منها أيضا تأكيدا على "صوت الثقافة" في سياق التأكيد على الانتماء للتاريخ ومن موقع التأكيد ــ الموازي ــ على تقدمية هذا الأخير.
إن القارئ المتفرج، الذي نعنى به، غير بريء وغير عاجز .. والأهم متحيـِّز لـ"قيم الحداثة" بمعناها المشدود إلى "تقدمية التاريخ". ولذلك فإن "داء القارئ المتفرج"، والذي هو "داء الإضراب عن الكلام"، ومن قبل ذوي الأفكار، هو ما يسمح للمجموعات المتعصبة والمتطرفة والتابعة والعصابية بأن تستحوذ على "الحقل القرائي"، وبأن تتجاوز الاستحواذ نحو التدافع فوق ملعب القراءة. ومن ثم تتحوّل مجموعة القارئ المتفرج، بدورها، ومن خلال عدم مساهمتها في "ممارسة الفكر"، إلى حالة مرضية تنضاف إلى المجموعات السابقة. ومن ثم تعميق الإرث الثقيل لليباب الثقافي والخراب السياسي في السياق المغرب الذي ينطوي على العديد من خواص السياق العربي.