أعلنها أرنولد توينبي صريحة : إن الحضارات لا تفنى بالقتل و لكن بالانتحار الذاتي ! ولعل الاحتفاء الشاذ للحضارة الغربية بتيمة الجنس يؤكد أنها سائرة على خطى سابقاتها في درب الانحلال و التفسخ الحضاري .
لكن بين الفينة و الأخرى تنبعث صرخة حادة تفجر المسكوت عنه , وتفضح الوضع المؤلم لمجتمع إنساني انفصل عن بنائه القيمي , وبالغ في الوثوق برؤى شوهاء .
ضمن هذا السياق يندرج كتاب "الإباحية ليست حلا " للدكتورة و المستشارة النفسية الأمريكية ميريام جروسمان , والذي يتضمن وصفا مؤلما لما آل إليه شباب أمريكا على مستوى الجنسانية , والمزالق الاجتماعية الخطيرة الناشئة عن الاختراق الإيديولوجي لحقل الصحة الجنسية . اختراق تشبهه جروسمان بالزلزال الذي ينقض دعائم الحقائق العلمية و الحضارية ويهدف إلى إنتاج ثقافة مخنثة , يتم عبرها التبرؤ من الاختلافات بين الرجال و النساء أو تُستبعد من الحسبان بحيث يتلاشى تفرد كل منهما .
تستهل المؤلفة شهادتها هذه بالكشف عن مصدر التغيرات التي طالت السلوك الجنسي للشباب.إنها الأجندات الاجتماعية الخادعة التي تروج لمبدأ الإباحة , والتعليم الصحي المؤدلج الذي يقدم للأبناء و البنات معلومات خاطئة تزيد من هشاشتهم.وفي المقابل يحرص دهاقنتها على تكميم عقول و أفواه العاملين في حقل الطب النفسي الجامعي للحؤول دون أي استعادة جادة لوظيفته الحيوية : سلامة الطلاب .تقول جروسمان " ربما لا تدرك ما بدأ بعض علماء النفس العاملين وراء الكواليس يصرحون به مؤخرا : أن مجال علم النفس و الطب النفسي وعلم الاجتماع قد تمت السيطرة عليه من قبل أجندة ليبرالية متطرفة , وأن هناك مافيا للمصالح الخاصة تسللت عبر منظماتنا القومية . ومن المحتمل أنك لم تسمع بأن بعض وجهات النظر تتعرض للتشهير و القمع , وأن هناك قصص رعب من الإسكات و التهديد , وأن كثيرين لن يجاهروا بالحديث العلني خوفا من التعرض للتسفيه , أو الهجوم الشرس , أو فقدان المكانة و المنصب " (1)
تُبدي جروسمان حيرتها و استغرابها أمام سياسة الكيل بمكيالين التي ينهجها
العاملون في مجال الصحة التناسلية , طبعا بعد اختراقها من قبل إيديولوجيا الإباحة . فإذا كان الهدف من وراء المعركة ضد أمراض القلب و السمنة و التدخين على سبيل المثال هو منع انتشار العدوى , فإنه يقتصر في مواجهة الأمراض المتنقلة جنسيا على التقليل من المخاطر , والالتفاف على الحقائق المجردة التي تستدعي استئصال العدوى.
يكتفي حماة هذه الإيديولوجيا , أو من تسميهم الكاتبة ب "أجهزة الصواب السياسي " ببعث رسائل مهدئة للشباب في الوسط الجامعي . رسائل مفادها أن الإصابة بمرض متنقل جنسيا لا تعني نهاية العالم , وأنه يتوجب عليهم النظر للجانب المشرق من الأمر , وهو أن كل الأشخاص تقريبا مصابون! لذا فاستمتعوا ومرحبا بانضمامكم للنادي !
تقول إحدى هذه الرسائل التي التقطتها جروسمان من موقع متخصص في تقديم الدعم للمصابين بالأمراض الجنسية " إن أجسامنا ممتلئة بالفيروسات , الحياة الطبيعية لا تتضمن الاستعمار من قبل الميكروبات فحسب , بل إنها تحتاج إلى ذلك .. أكثر من 99% من تفاعلنا مع الميكروبات يكون إما حياديا أو مفيدا بطريقة أو بأخرى , أما الضرر فهو نادرالحدوث.كذلك فليست هناك خصوصية تحيط بالتقاط فيروس ما أو ميكروب ما بطريقة جنسية . الجنس ببساطة هو واحد من الطرق العديدة التي يتفاعل بموجبها البشر مع بعضهم .جميع تلك التفاعلات تتضمن مشاركة البكتيريا و الفيروسات ,إلخ" ! (2)
إنه منطق خبيث للتطبيع مع السادية و المازوشية و الاضطرابات السلوكية الأخرى , ولتسويغ الانحرافات الجنسية التي ترسم ملامح السلوك الإنساني المعاصر. وهو منطق لا يتحكم فقط في الحملات التحسيسية وخدمات الإنترنيت بل تسرب إلى الدرس الجامعي حيث أصبحت العقيدة المركزية الموجهة لبرامج التثقيف الصحي لطلبة الجامعات هي أن الرغبات "احتياجات" ينبغي العمل وفق إرادتها وعلى إشباعها , وأن السلوكيات التي يعتبرها المجتمع ويعتبرها الطب شاذة هي طبيعية , بينما كبح جماح الذات ليس طبيعيا ؛ أن السلوك الجنسي النظامي – سواء داخل إطار علاقة جادة أو غير جادة – ضروري و صحي , وأن أي أو كل تلك الأنشطة يمكن أن تخلو من التبعات طالما كانت "محمية" (3)
تخلص ميريام جروسمان إلى حقيقة يجهد دعاة الإباحية لوضعها "تحت السجادة " . حقيقة مفادها أن فصل السلوك الجنسي عن إطاره القيمي ألقى بالمجتمع الإنساني في خضم فظاعات لا تنتهي . ومع وجود خمسة عشر مليون حالة جديدة من الأمراض المتنقلة جنسيا كل عام فإن السؤال الذي يطرح نفسه بحدة : أما آن الأوان لتحريرثقافاتنا من الرسائل الشهوانية ؟
ـــــــــــــــ
(1) د.ميريام جروسمان . الإباحية ليست حلا: أجيال في خطر. إصدارات سطور الجديدة .ط1 2011 .ص15
(2) المرجع أعلاه.ص 46
(3) نفس المرجع.ص32