الحياة تراكم من خبرات و تعدد تجارب. جوهر التجربة الجامعية هو تلك المنعطفات و اللحظات الحاسمة التي تجعل الإنسان يتأمل في اختياره و يراجع و يعدل المواقف أمام العديد من الأشياء.
و إيمانا مني بأن الطريق الواثق للعلم بعبارة الفيلسوف ديفيد هيوم، هو البحث، و البحث هنا ليس ما ينجز في الجامعة من أجل واجب أو فرض علمي أو أكاديمي و إنما جزء من الذات يشعر صاحبه باستمرار الحيرة المعرفية التي تجعله لا يكتفي بما وصل إليه من مادة معرفية تمكنه من التأثير في الواقع الاجتماعي و يحمله على التفكير المتواصل بأن طريق البحث شاق و طويل يتطلب طول نفس و صبرا كبيرين مما يمكنه من بناء انتمائه و هويته، و ما أن انضممت إلى رحاب قسم علم الاجتماع حتى أحسست أن انتمائي
و هويتي العلمية تتمثل في اختصاص علم الاجتماع.
إن اختصاص علم اجتماع في تونس لا كما يتمثله البعض اختصاص سهل بل فيه من الصعوبات و العراقيل العديدة، منها غياب قانون أساسي ينظم مهنة المختص في علم اجتماع، محدودية النشر و مراكز البحوث المحتكرة، و حدات البحث الجامعي غير الموظفة للباحثين الشبان، محدودية التشغيلية،(رغم قلة العدد) مقارنة باختصاصات أخرى، الرؤية الدونية لهذا الاختصاص لدى أغلبية المستويات و الشرائح
و القطاعات، ندرة الانتداب في الجامعة، ندرة الاهتمام بالعلم و المعرفة عامة و بعلم الاجتماع خاصة، الوعود الزائفة و الكبيرة، بقاء الوضع على حاله أكثر من ثلاثين سنة... فقد تشعر في حالات عديدة باللامبالاة و هدر للوقت، من خلال واقع الصراع و الأجواء غير المريحة التي تجدها في الاختصاص( غلبة منطق الولاء و التقرب و الممارسات الإذلالية)، إضافة إلى ندرة تحسين الوضع و محدودية الإمكانيات خاصة مع النظام الحالي للتعليم الجامعي أمد الذي سيؤدي في القريب إلى انقراض شعبة علم اجتماع في الجامعة التونسية و هو ماء الوجه الممؤسس الذي بقي لهذا الاختصاص في بلادنا التونسية.
من المفروض نظريا و عمليا أيضا أن تكون الجامعة بثقلها المعرفي و الأكاديمي و التحولات التي يشهدها العالم المستمر و المتواصل، أن تكون في طليعة المجتمع، و نبضه الذي يدق حيوية و حماسا و طاقة من أجل الحصول على أعلى المستويات و الدرجات العملية، و أن يتحول علم اجتماع في تونس إلى أحد معاقل الفكر النقدي و طرح الأسئلة المعرفية الملحة و المؤكدة باستمرار، لا أن يبقى أسير بعض المحاولات الفردية المعزولة على إنشاء معرفة متينة و صلبة و إنتاج نخب متواصلة و مراكمة للمعرفة التي تجلب لنفسها التقدير و الاحترام و الإجلال.
إن تجسيد المشروع العلمي و جعله واقعا معيشا، إنما يكون برسم أفق نظري واسع يخرج الذات من مكبلاتها، و يفتح أمامها آفاقا رحبة و واسعة في مجالات العلم و البحث، سيبقى الأمل مفتوحا و الذات مهمومة بالواقع و مشغولة به و مشغولة عليه بعين متأملة لا الوصية عليه.
لا يسعني إلا أن أجدد الشكر إلى كل من وقف معي و شجعني و ساندني و وفر لي أسباب المضي قدما في البحث و التنقيب من عائلتي وأساتذتي و زملائي و أصدقائي و هو ما جعل صلاتي بهم جميعا تمتزج فيها وشائج القربى الدموية بوشائج العلم و حب البحث الذي يتواصل الآن مع الدكتوراه و الأعمال القادمة و الشوق إلى مستقبل واعد يسهم في أجل الارتقاء بالإنسان و المجتمع عبر وسائط متعددة (التعليم، الثقافة) و قيم اجتماعية متجذرة في بنية المجتمع (التواصل و ثقافة الاحترام و التعاون...) و هي قيم تذكي فتيل رغبة قد تكون إيتوبيا مثالية utopique لكنها البداية لنشوء أفكار مولدة، لآمال مرتقبة، لطاقات تبني غدا أفضل ثباتا و معاناة و صبرا و عملا، آملا أنا و بقية زملائي في علم الاجتماع عمليا أو بمراحل أن يحتل علم الاجتماع في تونس مكانته و إشعاعه و تألقه عبر الوسائل العلمية و المعرفية و التي تبقيه و يحافظ من خلاله على حد أدنى من وجوده و مكانته و أدوات تقدمه إن كان ممكنا و أن كان قادرا على أن يكون ممكنا.