"لا معتقدات إلا لمن لم يتعمق في التفكير في الأشياء"[1]
من الزاوية الرمزية، يمكن القول إن الوجود راهنية وحضور. والإنسان لا يعلن وجوده ويشهر حضوره في مجرى التاريخ ومهب الزمن، إلا حين يتحول هو نفسه إلى تاريخ، وهذا التحول هو مدار كل مواكبة ومناط كل سير جاهد أو حثيث. والواقع أن التاريخ ليس مجرد زمن يمضي أو حفنة أحقاب تنصرم، بل هو التشكيل الإنساني الخالص للسيرورة الدياكرونية الناهضة دومًا كتجاوز للثبات ومراودة للطفرات والتوثبات، ومعنى هذا أن التاريخ ليس قدَرًا أو حتمية، والمقولات الحضارية التاريخية نفسها، كالتقدم والتخلف، والنهضة والسقوط، ليست بالضرورة إحالة على واقع تاريخي قائم على وجه الحتمية والاقتضاء. فالتاريخ شيء، والوعي بالتاريخ شيء آخر. ومدار حديثنا في هذا المقال، هو القضية الاستشكالية التالية : هل التاريخ العربي، تاريخ ذهنية ملطخة بتواريخ المنازلات السجالية الخرقاء؟ هل تاريخنا استنجاز واعٍ للمشاريع الحضارية الكبرى أم أنه تاريخ إنجازات عمياء؟ هل التاريخ العربي تاريخ يفرزنا أم نفرزه؟ يصنعنا أم نصنعه؟ هل هو تاريخنا وأفقنا الحضاري القائم أم أنه اللاتاريخ الذي تهون فيه الذات ويتفاقم فيه الغياب فيستحيل الوجود برمته إلى محض كينونة سجالية طافحة بالعَيِّ والضجر؟
إن الحديث عن البدايات هو بالضرورة حديث عن الانطلاقات التي نحسبها كذلك. ولا شك أن بداية التاريخ العربي كانت بداية دينية. فالدين الإسلامي هو الذي أدرج العرب ضمن أحواز الحضور الذي به نشأت حضارتهم وتوطدت شوكتهم. والنهوض العربي في بداياته الأولى كان نهوضا طفرويًا شكل فيه الدين نقطة التحول ومناط كل الاندفاعات والتدافعات التاريخية اللاحقة. أما بالنسبة للغربيين، فإن بداية ارتيادهم الكاسح لحلبة التاريخ، كان بدوره –على مستوى من المستويات-قضية دينية، أو بتعبير أدق، كان قضية الحسم مع الدين الذي تمثل تاريخيًا وإيديولوجيًا في الكنيسة وسلطتها الشاخصة فِئَِويًا في رجال الدين أو من كان يعرف بالإكليروس.
والواقع أن هذا المعطى قد يدفع إلى التفكير في التاريخ العربي بوجه خاص، والتاريخ الإنساني بوجه عام، من زاوية علاقاتهما القائمة أو المفترضة بالدين. فالتاريخ العربي تأسس في منطلقاته الأولى كمشروع ديني ذي غائية استخلافية ومسحة تقديسية راجحة. ويبدو تاريخيًا أنْ لا شيءَ كان يوحي -على سبيل الإمكان- بإمكانية حصول تلك الطفرة التاريخية العربية الهائلة غيرَ هذا الدين الذي أحال الصراع القبلي إلى صراع من أجل الدين وتحت مظلته. وبالتالي فالتاريخ العربي في نشأته ومنشئه كان تحولا جذريا مُحْرَزًا بالدين ومن أجل الدين. وقد ظل هذا التداخل بين التاريخ والدين، تداخلا حاضرًا بقوة في كل التمثلات الحضارية والتاريخية التي أرستها وروجتها الحضارة العربية الإسلامية. ومعنى هذا أن الخلفية التاريخية العربية هي خلفية تتغذى مرجعيًا من الدين وتستدمج مقتضياته وتستضمر بنياته. أما بالنسبة للحضارة الغربية فالدين لم يمثل عامل نهضتها أو أساس انطلاقتها الظافرة، لأن الكنيسة شكلت مؤسسة تشرف على تدبير الأمر الديني ليس من منظور "الاستخلاف" بمعناه الإسلامي، بل من منظور "الوساطة" التي تمثلت فيما عرف في الأدبيات الكنسية بـ"صكوك الغفران". وهي لهذا السبب بالذات كانت تمارس وساطتها المفترضة بمنطق الوصاية التي تعطل الفرد والمجتمع وتصادر فيهما روح المبادرة والاستقلالية في تدبير المسار والمصير. ويقول "مونتسكيو" في معرض حديثه عن رجال الدين واستغلالهم للناس الباحثين عن غفران متفاوض عليه مع الكنيسة : "من المثير جدًّا أن ثروات الكنيسة بدأت مع ترويجها وتبريرها لمبدأ الفقر"[2]. كما أن انتظام المؤسسة الدينية المسيحية في إطار كيان مهيكل ومتراتب، أدى إلى نعتها لدى بعض المفكرين الغربيين بـ"الدين المنظم" organized religion أو "الصناعة الكهنوتية" Ecclesiastical industry. ولاشك أن الدين شكل موضوع تداول سجالي كبير ومزمن في منظومة الأفكار الغربية، وظل حاضرا بدوره كسند روحي وتبشيري في المشاريع الغربية الكبرى، بما فيها الاكتشافات الجغرافية والحملات الاستعمارية. والاطلاع الحصيف على الثقافة الغربية الراهنة يؤكد أن الدين مازال يغذي البنيات الروحية والأخلاقية للمجتمع الغربي، لكنه يغذيها من داخل النسق الحداثي وليس من خارجه أو على هامشه كما هو الأمر عليه في واقعنا المثقل بِرَهْبَنَةِ الدين (إضفاء البعد الإرهابي على الدين) أو تديين السياسة (إضفاء البعد الديني على الممارسة السياسية). بل إن بعض الأصوات خرجت من داخل المنظومة الكنسية المسيحية لتؤكد أن "الإله ليس ذاتا أو كينونة، بل هو مجرد بؤرة أخلاقية moral focus". وهذا الموقف حاضر بقوة في أعمال "دون كوبيت"Don Cupitt وهو أحد أعضاء "كلية إيمانويل" Emmanual College في "كامبريدج". والواقع أن هذا الموقف يعتبر تَصادِيًا أكاديميًا للتيار الذي يعرف بـ"بحر الإيمان" Sea of Faith، وهو تيار قائم على أساس أن الإله مجرد فكرة أبدعها الإنسان، وأن المسيح ليس نبيا بل مجرد شخص مستنير مثل "غاندي". وأتباع هذا التيار لا يؤمنون بالبعث ولا بـ"عقيدة الحمل بدون دَنَس" Virgin Birth التي تتعلق بمريم العذراء. أما "جورج داريان" Georges Darien فيقول : "إن نيتشه لم يبالغ حين قال إن الزمن يمر بسرعة ليصل إلى تلك اللحظة التي سينظر فيها الناس في كل مكان إلى الراهب نظرة ترى فيه أنه النوع الأكثر انحطاطًا، والأكثر خداعًا، والأكثر إثارةً للاشمئزاز ضمن كل أنواع الجنس البشري"[3].
وبعيدًا عن الرغبة في ملاحقة فورة هذه التدافعات السجالية التي نشأت في الغرب باسم الدين أو ضد الدين، أو بمعزل عنه تمامًا indifférentisme، فإن ما ينبغي الإشارة إليه هو أن الدين المسيحي انتظم نسقيًا وبنيويًا داخل النسق العام للحداثة الغربية من خلال التحول إلى ديانة مُمَأْسَسَةٍ religion institutionnalisée. وقد صدر عن الفاتيكان بيان يعبر عن أن هذه المؤسسة هي الوحيدة الممثلة للمسيحية، وقد اعتبر ذلك بمثابة إعلان عن "السيادة الدينية للكنيسة"church religious supremacy. وفي ديسمبر 2000، أصدر الكاردينال "جوزيف غاتزينجر" Joseph Ratzinger رئيس "هيأة رجال الدين من أجل عقيدة الإخلاص" Congregation for the Doctrine of the Faith، وثيقة تتعلق بالوضع الاعتباري الأوحد للكنيسة الكاثوليكية، وتعبر عن رفض أي وجود لهيأة كنسية أخرى sister church، لأن ذلك قد ينطوي على خطر التعدد الديني داخل المنظومة المسيحية نفسها. وانطوت الوثيقة أيضا على أن أتباع "الديانات غير المسيحية"non-Christian religions الذين لا يؤمنون بما يؤمن به أتباع المسيحية لا سبيل لهم للنجاة أو الخلاص.
ومن خلال هذه المبادرات التي أقدمت عليها الكنيسة، تحقق لها أخيرًا أن تستعيد سلطتها الروحية والدينية، وتمكنت بالتالي من الانتظام مؤسسيًا ضمن المنظومة الحضارية الغربية الكبرى. وبذلك حددت مجال حضورها في الواقع الحداثي الغربي، ونجحت في تقديم صورة جديدة غطت من خلالها على تاريخها الظلامي الطويل.
والواقع أن هذا الفرق في طبيعة العلاقة بين التاريخ والدين عند العرب من جهة والغرب من جهة أخرى، هو الذي يؤسس ويُمَأْسِسُ مجمل الاختلافات والخلافات المغذية للمواقف والتموقفات المتصارعة في العالم. ويبدو واضحا اليوم، أن قضية الدين حاضرة بقوة كرهان محدِّدٍ للأفعال وردود الأفعال على حد سواء. والتاريخ الراهن الذي تعكسه حاليًا الواجهات الإعلامية أو المشاهد اليومية المؤثثة للشأن الدولي العام، هو تاريخ متمفصل إيديولوجيًا وفق رؤى ومرجعيات دينية. إن النبش في الخطابات التي تتقاطر علينا يوميًا كصبيب السيل، يكشف، بما لا يدع مجالا للشك، أن الدين يتبوأ مكانة مركزية في تدبير صيغ الخلافات والاختلافات القائمة أو المفترضة بين الغرب والشرق.
لقد أضحت قضية تدبير المسألة الدينية (الإسلام في حالتنا هذه) انشغالا أساسيًا في السياسات الوطنية والقومية والدولية. وتحت ضغط الحوادث والأحداث، تحول الدين إلى بؤرة غير مأمونة لأنها -على سبيل الادعاء أو التخمين- تفرز الجماعات التي ترى أن الاحتكام للدين هو البديل عن الاحتكام للسياسة. وقد يكون خلف الواجهات الإعلامية التي تراهن على تقديم تحليل جاهز ومُنَمَّطٍ لكل الأطياف الدينية الإسلامية، نوع من الكسل المعرفي الذي يصرف المحللين عن جدية التحليل، فيكتفون من التحليل بالعموميات ويسارعون إلى تبني تلك الرؤية الاختزالية والتبسيطية التي تكتفي بالتوصيفات العائمة والغائمة من قبيل الظلامية والرجعية والتزمت إلخ. ولا شك أن هذه التوصيفات تنطوي على قدر لا ينكر من الصحة، لكنها لا تساهم نسقيًا في إلقاء أضواء كاشفة حقيقية على ما أصبح يشكل هذه الظاهرة المتواترة المعروفة بالجماعات الإسلامية. هناك فرق بَيِّنٌ وكبير بين التحليل الإيديولوجي والتحليل الفِكْرَوِي أو المفهومي analyse idéelle. فالتحليل الإيديولوجي تحليل مقترن بشرطٍ مرجعيٍ لا يَتَغَيَّا الحقيقة في بعدها الخالص والمحايث. الحقيقة في منظور التحليل الإيديولوجي هي حقيقة مُقَوْلَبَةvérité stéréotypée جاهزة وذات منزع دوكساوي بائن. إنها حقيقة انتقائية قائمة جدليًا على النفي والاختزال والجاهزية المطلقة القابلة للتعميم على كل السياقات القائمة أو المفترضة. أما التحليل المفهومي فهو اشتغال نقدي ومعرفي على المفاهيم ضمن شبكة تعالقاتها مع الأنساق المُوَلِّدَةِ للأفكار. ونحن لا ننكر أن خلف كل تحليل أو موقف، توجد أحكام مسبقة وتدبيرات فكرية جاهزة، إلا أن جدارة التحليل المفهومي تكمن في ضبط مجال التحليل واستحضار أوجه المسألة واعتبار تبايناتها وتبنيناتها من حيث هي تجسيد لأنساق التدافع الفكري المرتبط باللحظة التاريخية وأفقها الحضاري القائم أو المتاح. وبالتالي فهذا النوع من التفكير لا يستكين لمنطق المسبقات les a priori، لأن أفق اشتغاله ليس هو الانطلاق من مرجع مسبق من أجل العودة إليه عودة ظافرة، بل الانطلاق من الأفكار من أجل الكشف عن بؤرة انتساجها وأبعاد حركيتها المفاهيمية الفاعلة سلبًا أو إيجابًا في الواقع والوقائع. إن الدين في أبسط تجلياته ومعانيه، منظومة من الأوامر والنواهي والتوجيهات الصادرة عن تصور معين للكون والإنسان والحياة والموت والمسار والمآل. وهو من هذه الناحية مجال تدبير إنساني، لأنه موضوع تشاور وتوافق واجتهاد. فالنص القرآني مثلا هو نص إلهي بالنظر إلى مصدره، لكنه نص واقع تحت مجال التدبير الإنساني بمنطلقاته الاجتهادية والتأويلية وآفاق تنزيلاته على الواقع. وإذا كان النص القرآني مقدسًا، فإن قدسيته تظل في ذاته ولا تنتقل بالتبعية إلى غيره من النصوص الفقهية التي ينتجها العلماء أو الفقهاء. المشكل الذي ما زلنا عاجزين عن حسمه هو الفصل بين المقدس من حيث ارتباطه بالذات الإلهية المتعالية عن التمثيل والمنزهة عن الأغيار، وبين الدنيوي أو ما يسمى عند الغربيين بـ(المدنس)le profane لكن كل هذه الاعتبارات تظل غير ذات أهمية إن هي لم توضع ضمن سياق إشكالي واضح ومحدد. والأسئلة الغائبة الحاضرة في كل حديث عن ظاهرة الجماعات الإسلامية، هي : -بصرف النظر عما يتعلق بالنزوع الديني ومشمولاته القيمية- المرتبطة بالترغيب والترهيب، والثواب والعقاب، والضلال والاستقامة، والإيمان والكفر- ما هي الأسباب الحقيقية التي تفرز لدى أشخاص عاديين، الرغبة في الانتماء إلى جماعة إسلامية؟ من أين تستمد الجماعات الإسلامية قدرتها الرهيبة على الاستقطاب؟ هل مرد هذا الاستقطاب يتعلق بسلطة الخطاب الديني من حيث هو كذلك أم بسلطة التسخير السياسي للدين من حيث هو أَدْلَجَةٌ أو إيديولوجيا مضادة؟ ما هي أسباب انحسار الخطاب السياسي التقدمي لصالح الخطابات الدينية التحريضية؟ وإذا كان الدين-كما يعتقد هيغل- هو المرحلة ما قبل الأخيرة التي يمر منها الفكر قبل أن يرقى إلى المرحلة الفلسفية، فكيف نفسر اليوم ما نلاحظه من انجذاب الفلسفة إلى الدين؟
إن التأمل الحصيف في المشهد العالمي الراهن بانكشافاته السياسية والإعلامية، يسفر عن ملاحظة وازنة تتمثل في أن العالم العربي والإسلامي، هو الحيز الجغرافي والحضاري والسياسي الذي تجري فيه أكثر التوترات حدة وشدة وقتامة. ومن الناحية الإعلامية تبدو هذه الحقيقة مجرد مادة إخبارية موجهة للاستهلاك، مما يحول دون سَوْقَنَتِهَاcontextialisation ضمن رؤية إشكالية واعية ومستقطبة للمطارحات الجدية والمقاربات الشمولية. والواقع أن أفق كل تحليل واعٍ بمجال اشتغاله لا يمكن أن يحقق جدواه إلا إذا واتته الجرأة الكافية لوضع الحركات الإسلامية في سياق الحركة الاحتجاجية التي تتحرك في عمق المجتمعات الإسلامية ردًّا على واقع التردي المميت الذي يبدو كأن الأنظمة واللوبيات والأيدي الخفية تستديمه وتعيد إنتاج شروطه من أجل الحفاظ على التوازنات والمصالح ذات الاشتراطات الرجعية المقاومة بطبيعتها للتحولات التنموية والتحديثية العميقة والحاسمة. إن إفراغ الحركات الإسلامية من حمولتها الاحتجاجية، يقود إلى تعويمها ضمن رؤية تحليلية ذات بعد ديني صرف، فيترتب على ذلك إحداث وإنتاج تموقفات تخلط بين الجماعات الإسلامية من حيث هي أطياف اجتماعية تتغذى في حركتها الاحتجاجية الضمنية أو المعلنة من فهم معين للدين، وبين الظاهرة الدينية في حد ذاتها وانكشافات صفاتها. والنتيجة التي تؤول إليها الأشياء في ضوء هذا الخلط، هي تسرع الكثير من الأطراف في بناء خطاطات مختزلَة للصراع والتصادم، وهي خطاطات يتحول فيها الدين نفسه إلى خصمٍ وموضوع لتصفية الحسابات العاجلة أو المؤجلة. لذلك تتوجه الكثير من التيارات العربية المتشبعة برؤى علمانية وحداثية إلى الإعلان عن مواقفها المناهضة علنًا لكل مرجعية دينية في مجال التدبير السياسي. مما يوحي بأن الأمر يتعلق في نهاية المطاف بالرغبة في تحييد الدين من المجال الحقيقي لاشتغال السلطة والنفوذ، ونقصد به مجال السياسة.
والواقع أن هذا النهج قد لا يسفر على المدى الطويل أو القصير، عن أي انكشاف حقيقي للتوترات التي يبدو أنها تهدر جانبًا كبيرًا من طاقاتنا الفكرية والذهنية والإعلامية والحزبية. نحن بحاجة إلى التوقف عن استدامة هذه المطارحات المتشنجة والصدامية بين التوجهات العلمانية/الحداثية والتوجهات الإسلامية/الأصولية. وبدل التموقع والتقوقع تاريخيًا وفكريًا في مقاربات هي أشبه ما تكون بالأدبيات السجالية البيزنطية، ينبغي التوجه في المقابل نحو خلق أجواء ذهنية وفكرية وحوارية جديدة قمينة بتدبير الاختلافات الجانبية والفرعية، لكن ضمن مدار الائتلاف العام حول القضايا المجتمعية الجوهرية التي تراعي مقتضيات الرهانات الضرورية المتعلقة بالدمقرطة والتوزيع العادل للثروات وتكافؤ الفرص والتفعيل المستدام للتنمية مع إدماج كل الفئات الاجتماعية في بؤر هذه المشاريع الجماعية. إن التدبيرات الإقصائية والاستئصالية لا بد أن تنتج ردود أفعال تراكمية تنشأ في الظل لتتحول شيئا فشيئا إلى مباردات منظمة واستقطابية وعنيفة. العنف الرمزي قد يولد عنفًا أشد وأخطر. والإقصاء له تبعاته وثمنه المُؤَدَّى في المنظور القريب أو البعيد. والواقع أن ما يحدث اليوم على الساحة، يكشف أن التدبير الفكري والثقافي للأمور آل إلى رؤية ضيقة تختزل كل القضايا في منظومة من الرهانات المعلقة على الدوام : قضية الثنائيات الضدية الدين/الدولة، الحداثة/التقليد، العلمانية/الأصولية...
والواقع أن مدار هذه الثنائيات لا يبتعد كثيرًا عن القضايا التي رافقت المشاريع الفكرية التي أفرزتها أدبيات النهضة العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر. ربما تكون المتغيرات العربية الراهنة ذات منحى يصعب التنبؤ به واستبصار آفاقه واستضمار نوابضه الخفية وآليات سيرورته المضمرة، لكن التأسيس المستأنَف لنهضة عربية واعدة ومتحفزة، يتطلب التعالي الإشكالي عن الاختزالات النمطية التي ما زالت ترى أن المفتاح السحري للتطور هو إما الدين وإما استبعاد الدين. الدين ليس حلا حضاريًا وسياسيًا وتنمويًا جاهزًا، كما أن الحداثة ذات السند العلماني المعلن ليست بدورها حلا حضاريًا وسياسيًا وتنمويًا جاهزًا. الحلول الحضارية تتأسس وتتمأسس من خلال تفعيل نوابض التوافقات، وتجدير آليات الاحتواء السلمي للأزمات والتوترات. نحن نعيش اليوم على إيقاع توترات باطنية لا أحد يعلم على وجه التحديد من أي صوب تهب ومع أي ريح تأتي وتَحُل. عنصر المفاجأة أصبح مكونًا أساسيًا من مكونات السيرورة العامة للأحداث العالمية الراهنة. بل إننا نوجد اليوم أمام تحول غير مسبوق في ما يتعلق بسيرورة التاريخ نفسه. التاريخ الراهن لا يتمظهر من خلال أحداث تراكمية خاضعة لمنطق التوالي الخطي وارتباط اللاحق بالسابق، بل يؤسس نمط سيرورته اعتمادًا على منطق التحولات المفاجئة والطفرات التي لا تخضع نسقيًا لأي توقع. ومن أبرز الأمثلة على ما نقول، أحداث 11 سبتمبر في أمريكا، وما تبع ذلك من أحداث في أفغانستان والعراق، ثم ما تلي ذلك من أحداث في لبنان ابتداء من خروج القوات السورية، مرورًا بالحرب بين إسرائيل وحزب الله، ووصولا إلى ما نشهده اليوم من لعبة شد الحبل بين الحكومة والمعارضة اللبنانية، بالإضافة إلى التطورات المرتبطة بتنامي العودة القوية للتيارات اليسارية في أمريكا اللاتينية، والتيارات اليمينية في أوربا وحتى في أمريكا، وانبعاث هوس التسلح وفورة المد القومي في اليابان الخ.
إن استضمار النموذج الغربي والمراهنة على تمثل منعرجاته ومنعطفاته التاريخية والاجتماعية والفكرية، من أجل إحراز درجات تطور مماثلة نظريًا لما أحرزه الغرب، قد يكون سبيلا مشروعًا له مرتكزاته النظرية ومرجعياته الفكرية المقنِعة، لكنه يظل رغم ذلك منطويًا على مفارقة زمنية يصعب تجاوزها. اللحظة التاريخية الراهنة التي تطبق علينا أكثر مما نطبق عليها تحتم علينا التعجيل بحسم صراعاتنا الداخلية، وتسريع وتيرة عقد التوافقات الضرورية من أجل بناء سلم أولويات جديدة نابعة من/ومرافقة لشبكة الاستحقاقات الاستراتيجية المتعلقة بالديمقراطية والتنمية وحقوق الإنسان والتوزيع العادل للثروات. إذا كنا نعتقد أن حسم التعارض بين الدين واللادين هو الذي سيقودنا إلى ركوب الموجة الظافرة للتقدم والتمدن والازدهار، فإن ذلك سيتطلب منا البقاء ضمن حدود العمل داخل هذه الرؤية الكالحة والضيقة، وكلما طال تلكؤنا داخل هذه الحلبة الحصرية والمحصورة، سنفَوِّت على أنفسنا ومجتمعاتنا فرصًا ثمينة كثيرة. الأمر يتطلب توجيه الاهتمام -في المقابل-نحو استشكال القضايا الجوهرية المرتبطة رأسًا بالتدبيرات ذات المردودية القابلة للملاحظة والقياس، من قبيل : التنمية، الديمقراطية وحقوق الإنسان. ولا شك أن توفر وتوفير بنيات ذهنية وثقافية منخرطة عمليًا في التدبير الفعلي لهذه الملفات، سيقود حتما نحو تكريس رؤى مغايرة تخرجنا أخيرًا من حمأة الثنائيات الضدية التقليدية : الدين/اللادين، الأصولية/العلمانية، التقليد/الحداثة إلخ.
ينبغي أن نعلم أن التركيز على البقاء ضمن منطق المراهنة المسرفة على الدين، أو منطق المناهضة المستميتة للدين، لا يمكن أن يسفر عن ترتيبات نهضوية حقيقية وجدية. نحن نعلم أن الغرب اليوم ليس خاليًا من الدين والتدين، ونعلم أيضا أن الغرب يرتبط بأكبر هيأة دينية منظمة ومستقلة وهي الفاتيكان. لا توجد في العالم منظومة دينية أكثر حضورًا في المشهد العالمي وأكثر تأثيرًا في الأحداث الدولية وأكثر قدرة على تسخير إمكانيات مادية خيالية، من الفاتيكان. وواضح أن الفاتيكان ليس كيانًا صوريًا مفرغًا من محتواه التمثيلي وسلطته الروحية والدينية، بل هو كذلك تنظيم تراتبي ذو حضور قوي في العالم بأكمله، وله سفراؤه وممثلوه في الكثير من العواصم العالمية، بما فيها العواصم العربية. ورغم هذا الحضور المؤسسي القوي للدين في الغرب، إلا أن الغربيين خرجوا وأخرجوا أنفسهم من إطار المنازلات الفكرية والسجالات السياسية المرتبطة بالثنائيات الضدية التقليدية التي ما زلنا نتلذذ بالخوض فيها خوض تناحر وتصادم وانشطار. أثناء مقامي في ألمانيا ما بين سنوات 1995 و1997، أتيحت لي الفرصة لملامسة حضور الحس الديني القوي في المجتمع الألماني العميق، رغم ما يتراءى في الظاهر من ابتعاد الألمان عن الدين. ومن أمثلة ذلك أن الأطفال الصغار الذين يلتحقون لأول مرة بالمدرسة، يحتفلون بهذا اليوم الأول من خلال حمل قناديل يضعون بداخلها شموعًا ويطوفون بها في شوارع المدينة يرافقهم أولياء أمورهم، ويتوجه الجميع نحو الكنيسة حيث يتلقون المباركة من الراهب. ومباشرة بعد الاستماع لخطبته يخرجون للالتحاق بالمدرسة.
إن هذا التقليد الديني يبدو مقبولا لدى الألمان ولا يثير أي ردود أفعال سجالية، لكن لو كان الأمر يتعلق في عدد من البلدان العربية بتوجه التلاميذ إلى المسجد للصلاة قبل الالتحاق بالمدرسة في يومهم الأول، لقام العديد من أدعياء الحداثة بالتعبير عن موقف الرفض والامتعاض من هذا السلوك التراثي المغرق في التقليد والظلامية.
إن حداثة الألمان تتسع لمثل هذه الممارسات ذات الخلفية الدينية المعلنة، لأنها حداثة رحبة تستضمر الدين كمكون أساسي من مكونات الإرث الحضاري الغربي ذي المرجعية المسيحية، وتترك له بالتالي إمكانية التمظهر دون الخشية من تحوله إلى عائق ذاتي أو موضوعي. ومن جهة أخرى "إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد نجحت اجتماعيًا في خلق شروط التعايش بين الحرية الدينية (بل والنجاح النسبي في تحقيق نوع من الفصل بين الكنيسة والدولة، وذلك منذ سنة 1791) وبين وجود الدين المدني (الذي ما زال حاضرًا في أمريكا في الوقت الراهن)، فإن فرنسا الثورية وما بعد الثورية لم تتمكن -رغم محاولات متعددة-من تحقيق هذا النوع من التعايش، لذلك لجأت -بعد الكثير من المحاولات والصراعات والتوافقات- إلى ابتكار حل مختلف هو :اللائيكية"[4]. ومعنى هذا أن المواقف بشأن الدين قد تختلف بين البلدان الغربية نفسها، لكن ذلك لا يمنع من أن هذه البلدان تتخذ من آلية التوافق آلية ناجعة من أجل حسم القضايا الشائكة.
لقد سبق لـ"إيميل زولا" أن قال : "لن تتمكن الحضارة من بلوغ كمالها إلا حين ينهار آخر حجر في آخر كنيسة فوق رأس آخر المصلين"[5]. صدر هذا الموقف عن "إميل زولا" في القرن التاسع عشر، ومنذ ذلك الحين مرت الكثير من المياه تحت الجسور، وظل الدين رغم ذلك حاضرًا في الغرب المتحضر، وظلت الكنائس قائمة مزهوة بقبابها الناتئة نحو السماء، لكن ذلك لم يمنع الغربيين من انتهاج طريق الحداثة بمأمن من الفوبيا الدينية. إن الغرب لم يُعدِم الدين ولم يُنْهِ وجودَه ولم يُصادر المعتقد المسيحي، بل أتاح له فرص الاندماج في النسق العام بمشمولاته الحضارية ذات التوجه الحداثي المعلن. الحداثة الغربية تتغذى من مرجعية توافقية قوية واستراتيجيات احتوائية قادرة على تقليص هامش التوترات وتحجيم بؤر الصراعات المنهِكة وغير المجدية. وهي لهذا السبب بالذات تعتبر حداثةَ فعلٍ وتدبير ونظر، أما "حداثتنا!" فهي حداثة المزايدة والمقايضة وتصفية الحسابات. ومن هذا المنطلق يمكن القول إن المسؤولية التاريخية للقوى الحية الفاعلة في مجتمعنا وثقافتنا ترتبط برهان جوهري هو حسم الصراعات بالتواقفات، خاصة أن الكثير من صراعاتنا المَرَضية المستشرية في واقعنا القائم، ليست سوى الوجه الآخر للمقايضات الميتافيزيقية والعقليات السجالية والنزوعات العشائرية والميولات الحزبية الضيقة. صراعاتنا استدامة متهتكة للخلافات الخرقاء، ولذلك فهي تنتج العنف والتشنج والإقصاء، أما الصراعات داخل النمط الحداثي الحقيقي فهي ممارسة رزينة لحق الاختلاف، ولذلك فهي صراعات ذات بعد درامي ككل الصراعات الإنسانية بكل تأكيد، لكنها دراما بدون عنف، وصراع بدون قهر، واختلاف بدون خلاف.
لقد قال "غوستاف لوبون" Gustave Le Bon : "إن التاريخ يجري خارج مدار العقل، وهو غالبا ما يجري حتى ضد العقل"[6]. ويبدو أن ما نتردى فيه يوميًا من مآزق وأزمات، يؤكد فعلا أن حلقات تاريخنا تتوالى خارج المقاييس العقلانية بتدبيراتها الاستراتيجية الموجهة وظيفيًا نحو تحقيق الطفرات الإنسانية والحضارية السلمية والحاسمة. هناك منطق مزمن يتحكم في سيرورة التاريخ العربي، ويختزله في محطات مكرورة ومستعادة. وهذا المنطق هو عَنْفَنَةُ التدبير الفكري والسياسي لقضية التناوب حول السلطة، وتحويل التموقف إلى تخندق بمعناه الدفاعي والهجومي العدائي. إن الحديث عن الحوار شيء، وتحويل الحوار إلى ممارسة ذات أفق إنساني وفلسفي رَحْبٍ وحقيقي شيء آخر. الكثير من الأدبيات السياسية والحزبية والرسمية في مشهدنا اليومي، تحتفي بمفهوم الحوار وتعلي من شأنه وتمتدح آلياته وإوالياته، لكن الملاحظة المتأنية والحصيفة تكشف أن هذه الأدبيات تروج لمفهوم الحوار بمعناه الاستهلاكي المفرغ من الوظيفة النفعية the utilitarism التي تحدث عنها الفيلسوف الإنجليزي "جيريمي بينتهام" Jeremy Bentham (1748-1832)، وهو أحد الشخصيات البارزة في التيار الإصلاحي الذي ساد في القرن التاسع عشر. ومن المعلوم أن هذا الفيلسوف كان يرى أنه من اللازم لكل الأنساق والقوانين والمؤسسات والأفكار والمواقف أن تستند وظيفيًا إلى مبدأ النفعية. وقد تطور هذا الطرح الفلسفي عند فيلسوفين أمريكيين هما "ويليام جيمس" William James (1842-1910) و"جون ديوي" John Dewy (1959-1952) في إطار معالجة مفهومية مختلفة بعض الشيء هي البراغماتية le pragmatisme، وهي مذهب يرى أن القيمة والعواقب العملية هي معيار صدق الأفكار وصحة الآراء. إن ربط الحوار بوظيفته العملية النفعية والبراغماتية يقود إلى تحقيق وإرساء التوافقات، أما ممارسة الحوار بمفهومه الاستهلاكي والاستعراضي الساذج والفج، لا يمكن أن تسفر عمليًا عن أي أفق توافقي أو تدبير منتج وعقلاني للاختلاف. إننا نسجل أن واقعنا ليس خاليًا تمامًا من الحوار من حيث هو كذلك، بل هو خالٍ من التصريف البراغماتي للحوار، وخال خُلُوًّا مُزْمِنًا من فلسفة الحوار المنفتح وظيفيًا على منطق التوافقات. مثقفونا ومفكرونا لا يفكرون إلا بمنطق الحدود الكلية القصوى، فإما أنهم يختارون سبيل الإجماع الذي لا يقبل حصرًا أيَّ اختلاف، أو يختارون سبيل الاختلاف الأرعن الذي يستبعد قصدًا منطق التسوية والتوافق. وبين هذين الحدين لا مجال سوى للدوغمائية البائسة والمزايدات المستقوية بضحالة الفكر وصفاقة التحليلات. وإذا كانت الدوغمائية تنصيص تعسفي وأخرق على المتماثل والأحادي والثابت، فإن أفقها الوحيد هو المواجهة التي لا تنتهي، وغايتها القصوى هي السجال الذي يتفاقم ويحتد ويشتد لكي ينفي كل شروط التسوية والتوافق. و"لئن كان وجود نسق واحد للأفكار يؤدي إلى ضيق الأفق، فإن الغياب التام لنسق من الأفكار شيء مستحيل. لكن الأفضل هو وجود أنساق فكرية متعددة"[7]. لكن ينبغي التأكيد رغم ذلك أن جدوى التعدد ليست في ذاته، بل في إمكانياته البنيوية والإبستيمولوجية الضمنية المشرعة غائيًا ووظيفيًا على حسن تدبير الاختلاف من خلال استراتيجية التوافقات.
إن مفهوم التوافق يعني "التسوية التي تقوم ضمنها كل الأطراف بتنازلات متبادلة من أجل الوصول في النهاية إلى صيغة اتفاق مُتَرَاضًى حوله"[8]. ومن المعلوم أن سبيل التوافق هو الحوار، وشروط الحوار المنتج هو إفساح المجال للآخر، والانفتاح على الآخر هو قبول للتعدد وتسليم بنسبية الذات ونسبية الآخر. إن قضية الإنسان ليست قضية دينية في المقام الأول، وهي كذلك ليست قضية علمانية أو حداثية في نهاية المطاف، لكن قضية الإنسان هي قضية حضارية بالدرجة الأولى. والحضارة لا تنشأ إلا بأناس متحضرين. ولربما كان السؤال الجذري الذي يستنبته أي تأمل فكري أو فلسفي في واقعنا العربي الواهن هو : هل نحن فعلا متحضرين بالدرجة التي تسمح لنا بأن نتحاور فيما بيننا ونخرج بتوافقات تاريخية ومصيرية وحضارية حقيقية؟
قد يكون التطلع إلى الجواب عن هذا السؤال هو الخطوة الأولى نحو الوعي بأن الحوار والتوافق مسلكان حضاريان ضروريان لا يتقنهما إلا من يؤمن بأن الحياة تجربة تشاركية بكل المقاييس. لا مستقبل لأي كيان فردي أو جماعي مُكْتَفٍ نرجسيًا بوهم اكتماله، ولا انعتاقَ أبدًا للكيانات المغترة بإفلاسها والمتكومة على نفسها كالمستحثات أو الفقاعة. لقد قال "جورج كريسطوف ليشتنبيرغ" : "إن الدوغمائية هي الأم الولود لكل سجال"[9]. والسجال هو الحوار المفرغ وظيفيًا من جدواه، لأنه ممارسة تَسْتَخْصِمُ المخاطب أي تحوله عمدًا إلى خصم وتقوض بالتالي كل فرص التقارب أو التوافق معه. "إن الخطير ليس هو الأفكار الطوباوية، لأنها ضرورية من أجل التطور. لكن الخطير هو الدوغمائية التي تستعملها بعض الأطراف من أجل المحافظة على مصالحها، وعلى امتيازاتها وهيمنتها"[10]. وفي ضوء هذا الفكرة، يمكن القول إن الدوغمائية تتحول عند البعض إلى استراتيجية دفاعية يحاولون من خلالها تثبيت مواقعهم وتعزيز خنادقهم وإعادة إنتاج نفس الشروط واستيلاد نفس الوضعيات لكي لا يحصل أي تغيير يهدد مصالحهم ويلغي امتيازاتهم. إن الأمر يتعلق بدوغمائية دفاعية وتحصينية ومصلحية. يقول "فرانسوا جاكوب" : " ليست المصلحة هي السبب الوحيد الذي يدفع الناس للاقتتال فيما بينهم، بل هناك سبب آخر هو الدوغمائية. لا شيء أكثر خطرًا من اقتناعك اليقيني بأنك على صواب وأن الآخرين على خطأ. ولا شيء أكثر دمارًا من الهوس بحقيقة معينة والنظر إليها باعتبارها حقيقة مطلقة. كل الجرائم التي عرفها التاريخ كانت نتيجة للتعصب. وكل الفظائع ارتكبت باسم الفضيلة، أو باسم الدين الحق، أو باسم القومية المشروعة، أو باسم السياسة الملائمة أو الإيديولوجيا الصالحة. وباختصار كل تلك الفظائع ارتكبت باسم الحرب ضد حقيقة الآخر، وباسم الحرب ضد الشيطان"[11].
إن طبيعة الإنسان تتحول تحت ضغط ظروف معينة إلى طبيعة مُحَيْوَنَة nature animalisée، فتنشأ عن ذلك ممارسات ومواقف لا علاقة لها بالعقل ولا رابط بينها وبين السلوك الحضاري ومتطلباته الإنسانية. وفي هذه الحالة يصبح العنف الرمزي والمادي هو المتحكم في تدبير العلاقات الإنسانية، ويصبح الاختلاف في الرؤية والرأي مدعاة للرغبة في الإجهاز كليا على الآخر. إن هذا السلوك هو المتحكم حاليا في مجموعة من الخلافات والصراعات العربية : فتح وحماس في فلسطين، السنة والشيعة في العراق، الحكومة والمعارضة في لبنان...واللائحة طويلة ومثيرة للأشجان. يقول "بول فاليري" : "توجد في العالم اضطرابات كبيرة، وهي ناتجة عن تعايش "حقائق" وأفكار مثالية، ووجود قيم متقاربة يصعب الفصل بينها. إن السجالات الأكثر عُنْفًا هي تلك التي تجري بين مذاهب أو معتقدات متقاربة جدا. الصراع الأكثر حدة والأنكى شدة ليس هو الذي يجري بين الأرثدوكسيين والوثنيين، بل هو الصراع الذي يجري بين المؤمن الأورثدوكسي والمؤمن الذي يخلط إيمانه بالبِدَع"[12]. ونفس هذا الرأي يتصادى لدى فيلسوف فرنسي آخر هو "غوستاف لوبون" حين يقول : "إن التعصب هو الرفيق الملازم للاعتقادات الراسخة والقوية، وهو حاضر بين المنتمين للمرجعيات الفكرية المتقاربة، أكثر من حضوره بين المنتمين للمعتقدات المتباعدة فيما بينها"[13].
ومهما كان الأمر، فإن الواقع الإنساني يحتمل الاختلاف، بل إن هذا الاختلاف يعتبر مكونا من مكونات السيرورة التاريخية والحضارية للأفكار والمرجعيات، وهو من هذه الزاوية يمثل ملمحًا من ملامح التجربة الوجودية للإنسان، وأفقا من آفاق تاريخانيتها المنفتحة على الاحتمالات الثرية والقصوى. يقول "إرنست رونان" : "إذا وُجِدَ اتجاهٌ فكري صحيح فلا ينبغي الخوف منه، وإذا كان هذا الاتجاه الفكري خاطئا فلا ينبغي الخوف منه أيضا، لأنه سيتهاوى من تلقاء نفسه. إن على من يتحدث عن المذاهب والاتجاهات الفكرية الخطيرة أن يضيف : إنها خطيرة علي أنا"[14]، لأنها تهدد مصالحه وتلغي امتيازاته.
وعلى هذا الأساس، تقودنا خطوات التحليل إلى التأكيد في نهاية المطاف على أن الأمر لا يتعلق دومًا بغياب فرص التوافقات، بل بالتغييب المتعمَّد والمقصود لمشاريع التوافق، لأن خلف ما تدعيه الأطراف المتصارعة، وخلف ما تصرح يه أو تُوهِمُ الناس بخطئه أو صحته، توجد رهانات دفينة وغير معلنة، وتوجد ديماغوجية مراوغة ومفضوحة وابتسارات دنيئة ودميمة. نحن نحيا على إيقاع مشهد تسقط فيه الأقنعة، فيُفتضح السر ويتراءى للعيان حجم الكارثة : التناحر عندنا ليس من أجل الإصلاح، بل من أجل المصالح.
الهوامش والإحالات :
[1] - Emil Cioran, De l'inconvénient d'être né (1973), Œuvres complètes, éd. Quarto Gallimard 1995, p. 1353
[2] - Montesquieu, Mes pensées, in Oeuvres complètes I, Bibliothèque de la Pléiade, éd. nrf Gallimard 1949
p.1535.
[3]- Georges Darien, La Belle France, Omnibus Presses de la Cité 1994, p.1274.
[4] - Jean Boubérot et Emile Poulat, Laïcité, in Encyclopaedia Universalis, version 9.
[5] - Cité in: Eureka encyclopedia, the 21st Century Guide to Knowledge, By Ian Adams, published by Ultralingua, Inc., copyright 2004, version 9.theme: religious.
[6] - Gustave Le Bon, Aphorismes du temps présent (1913), Paris, Les amis de G. Le Bon, 1978, p. 239.
[7] - Raymond Queneau, Journaux (1914-1965), éd. nrf Gallimard, 1996, p. 68.
[8] - Extrait de l’ouvrage du CERTU « La concertation en aménagement, éléments méthodologiques » actuellement téléchargeable sur le site du CERTU : WWW.certu.fr
[9] - Georg Christoph Lichtenberg, Le miroir de l'âme, éd. Domaine romantique José Corti, 1997, p.463.
[10] - Henri Laborit, Éloge de la fuite, éd. Robert Laffont 1976 - Gallimard folio-essais 7, p. 164.
[11] - François Jacob, Le jeu des possibles, éd. Fayard 1981, p. 12.
[12] - Paul Valéry, Tel Quel, Oeuvres II, Bibliothèque de la Pléiade, éd. nrf Gallimard 1960, p. 517.
[13] - Gustave Le Bon, Aphorismes du temps présent (1913), Les amis de G. Le Bon, Paris, 1978, p. 218
[14] - Ernest Renan, L'Avenir de la science, Pensées de 1848 (1890), éd. Flammarion 1995, p. 451.
وبعيدًا عن الرغبة في ملاحقة فورة هذه التدافعات السجالية التي نشأت في الغرب باسم الدين أو ضد الدين، أو بمعزل عنه تمامًا indifférentisme، فإن ما ينبغي الإشارة إليه هو أن الدين المسيحي انتظم نسقيًا وبنيويًا داخل النسق العام للحداثة الغربية من خلال التحول إلى ديانة مُمَأْسَسَةٍ religion institutionnalisée. وقد صدر عن الفاتيكان بيان يعبر عن أن هذه المؤسسة هي الوحيدة الممثلة للمسيحية، وقد اعتبر ذلك بمثابة إعلان عن "السيادة الدينية للكنيسة"church religious supremacy. وفي ديسمبر 2000، أصدر الكاردينال "جوزيف غاتزينجر" Joseph Ratzinger رئيس "هيأة رجال الدين من أجل عقيدة الإخلاص" Congregation for the Doctrine of the Faith، وثيقة تتعلق بالوضع الاعتباري الأوحد للكنيسة الكاثوليكية، وتعبر عن رفض أي وجود لهيأة كنسية أخرى sister church، لأن ذلك قد ينطوي على خطر التعدد الديني داخل المنظومة المسيحية نفسها. وانطوت الوثيقة أيضا على أن أتباع "الديانات غير المسيحية"non-Christian religions الذين لا يؤمنون بما يؤمن به أتباع المسيحية لا سبيل لهم للنجاة أو الخلاص.
ومن خلال هذه المبادرات التي أقدمت عليها الكنيسة، تحقق لها أخيرًا أن تستعيد سلطتها الروحية والدينية، وتمكنت بالتالي من الانتظام مؤسسيًا ضمن المنظومة الحضارية الغربية الكبرى. وبذلك حددت مجال حضورها في الواقع الحداثي الغربي، ونجحت في تقديم صورة جديدة غطت من خلالها على تاريخها الظلامي الطويل.
والواقع أن هذا الفرق في طبيعة العلاقة بين التاريخ والدين عند العرب من جهة والغرب من جهة أخرى، هو الذي يؤسس ويُمَأْسِسُ مجمل الاختلافات والخلافات المغذية للمواقف والتموقفات المتصارعة في العالم. ويبدو واضحا اليوم، أن قضية الدين حاضرة بقوة كرهان محدِّدٍ للأفعال وردود الأفعال على حد سواء. والتاريخ الراهن الذي تعكسه حاليًا الواجهات الإعلامية أو المشاهد اليومية المؤثثة للشأن الدولي العام، هو تاريخ متمفصل إيديولوجيًا وفق رؤى ومرجعيات دينية. إن النبش في الخطابات التي تتقاطر علينا يوميًا كصبيب السيل، يكشف، بما لا يدع مجالا للشك، أن الدين يتبوأ مكانة مركزية في تدبير صيغ الخلافات والاختلافات القائمة أو المفترضة بين الغرب والشرق.
لقد أضحت قضية تدبير المسألة الدينية (الإسلام في حالتنا هذه) انشغالا أساسيًا في السياسات الوطنية والقومية والدولية. وتحت ضغط الحوادث والأحداث، تحول الدين إلى بؤرة غير مأمونة لأنها -على سبيل الادعاء أو التخمين- تفرز الجماعات التي ترى أن الاحتكام للدين هو البديل عن الاحتكام للسياسة. وقد يكون خلف الواجهات الإعلامية التي تراهن على تقديم تحليل جاهز ومُنَمَّطٍ لكل الأطياف الدينية الإسلامية، نوع من الكسل المعرفي الذي يصرف المحللين عن جدية التحليل، فيكتفون من التحليل بالعموميات ويسارعون إلى تبني تلك الرؤية الاختزالية والتبسيطية التي تكتفي بالتوصيفات العائمة والغائمة من قبيل الظلامية والرجعية والتزمت إلخ. ولا شك أن هذه التوصيفات تنطوي على قدر لا ينكر من الصحة، لكنها لا تساهم نسقيًا في إلقاء أضواء كاشفة حقيقية على ما أصبح يشكل هذه الظاهرة المتواترة المعروفة بالجماعات الإسلامية. هناك فرق بَيِّنٌ وكبير بين التحليل الإيديولوجي والتحليل الفِكْرَوِي أو المفهومي analyse idéelle. فالتحليل الإيديولوجي تحليل مقترن بشرطٍ مرجعيٍ لا يَتَغَيَّا الحقيقة في بعدها الخالص والمحايث. الحقيقة في منظور التحليل الإيديولوجي هي حقيقة مُقَوْلَبَةvérité stéréotypée جاهزة وذات منزع دوكساوي بائن. إنها حقيقة انتقائية قائمة جدليًا على النفي والاختزال والجاهزية المطلقة القابلة للتعميم على كل السياقات القائمة أو المفترضة. أما التحليل المفهومي فهو اشتغال نقدي ومعرفي على المفاهيم ضمن شبكة تعالقاتها مع الأنساق المُوَلِّدَةِ للأفكار. ونحن لا ننكر أن خلف كل تحليل أو موقف، توجد أحكام مسبقة وتدبيرات فكرية جاهزة، إلا أن جدارة التحليل المفهومي تكمن في ضبط مجال التحليل واستحضار أوجه المسألة واعتبار تبايناتها وتبنيناتها من حيث هي تجسيد لأنساق التدافع الفكري المرتبط باللحظة التاريخية وأفقها الحضاري القائم أو المتاح. وبالتالي فهذا النوع من التفكير لا يستكين لمنطق المسبقات les a priori، لأن أفق اشتغاله ليس هو الانطلاق من مرجع مسبق من أجل العودة إليه عودة ظافرة، بل الانطلاق من الأفكار من أجل الكشف عن بؤرة انتساجها وأبعاد حركيتها المفاهيمية الفاعلة سلبًا أو إيجابًا في الواقع والوقائع. إن الدين في أبسط تجلياته ومعانيه، منظومة من الأوامر والنواهي والتوجيهات الصادرة عن تصور معين للكون والإنسان والحياة والموت والمسار والمآل. وهو من هذه الناحية مجال تدبير إنساني، لأنه موضوع تشاور وتوافق واجتهاد. فالنص القرآني مثلا هو نص إلهي بالنظر إلى مصدره، لكنه نص واقع تحت مجال التدبير الإنساني بمنطلقاته الاجتهادية والتأويلية وآفاق تنزيلاته على الواقع. وإذا كان النص القرآني مقدسًا، فإن قدسيته تظل في ذاته ولا تنتقل بالتبعية إلى غيره من النصوص الفقهية التي ينتجها العلماء أو الفقهاء. المشكل الذي ما زلنا عاجزين عن حسمه هو الفصل بين المقدس من حيث ارتباطه بالذات الإلهية المتعالية عن التمثيل والمنزهة عن الأغيار، وبين الدنيوي أو ما يسمى عند الغربيين بـ(المدنس)le profane لكن كل هذه الاعتبارات تظل غير ذات أهمية إن هي لم توضع ضمن سياق إشكالي واضح ومحدد. والأسئلة الغائبة الحاضرة في كل حديث عن ظاهرة الجماعات الإسلامية، هي : -بصرف النظر عما يتعلق بالنزوع الديني ومشمولاته القيمية- المرتبطة بالترغيب والترهيب، والثواب والعقاب، والضلال والاستقامة، والإيمان والكفر- ما هي الأسباب الحقيقية التي تفرز لدى أشخاص عاديين، الرغبة في الانتماء إلى جماعة إسلامية؟ من أين تستمد الجماعات الإسلامية قدرتها الرهيبة على الاستقطاب؟ هل مرد هذا الاستقطاب يتعلق بسلطة الخطاب الديني من حيث هو كذلك أم بسلطة التسخير السياسي للدين من حيث هو أَدْلَجَةٌ أو إيديولوجيا مضادة؟ ما هي أسباب انحسار الخطاب السياسي التقدمي لصالح الخطابات الدينية التحريضية؟ وإذا كان الدين-كما يعتقد هيغل- هو المرحلة ما قبل الأخيرة التي يمر منها الفكر قبل أن يرقى إلى المرحلة الفلسفية، فكيف نفسر اليوم ما نلاحظه من انجذاب الفلسفة إلى الدين؟
إن التأمل الحصيف في المشهد العالمي الراهن بانكشافاته السياسية والإعلامية، يسفر عن ملاحظة وازنة تتمثل في أن العالم العربي والإسلامي، هو الحيز الجغرافي والحضاري والسياسي الذي تجري فيه أكثر التوترات حدة وشدة وقتامة. ومن الناحية الإعلامية تبدو هذه الحقيقة مجرد مادة إخبارية موجهة للاستهلاك، مما يحول دون سَوْقَنَتِهَاcontextialisation ضمن رؤية إشكالية واعية ومستقطبة للمطارحات الجدية والمقاربات الشمولية. والواقع أن أفق كل تحليل واعٍ بمجال اشتغاله لا يمكن أن يحقق جدواه إلا إذا واتته الجرأة الكافية لوضع الحركات الإسلامية في سياق الحركة الاحتجاجية التي تتحرك في عمق المجتمعات الإسلامية ردًّا على واقع التردي المميت الذي يبدو كأن الأنظمة واللوبيات والأيدي الخفية تستديمه وتعيد إنتاج شروطه من أجل الحفاظ على التوازنات والمصالح ذات الاشتراطات الرجعية المقاومة بطبيعتها للتحولات التنموية والتحديثية العميقة والحاسمة. إن إفراغ الحركات الإسلامية من حمولتها الاحتجاجية، يقود إلى تعويمها ضمن رؤية تحليلية ذات بعد ديني صرف، فيترتب على ذلك إحداث وإنتاج تموقفات تخلط بين الجماعات الإسلامية من حيث هي أطياف اجتماعية تتغذى في حركتها الاحتجاجية الضمنية أو المعلنة من فهم معين للدين، وبين الظاهرة الدينية في حد ذاتها وانكشافات صفاتها. والنتيجة التي تؤول إليها الأشياء في ضوء هذا الخلط، هي تسرع الكثير من الأطراف في بناء خطاطات مختزلَة للصراع والتصادم، وهي خطاطات يتحول فيها الدين نفسه إلى خصمٍ وموضوع لتصفية الحسابات العاجلة أو المؤجلة. لذلك تتوجه الكثير من التيارات العربية المتشبعة برؤى علمانية وحداثية إلى الإعلان عن مواقفها المناهضة علنًا لكل مرجعية دينية في مجال التدبير السياسي. مما يوحي بأن الأمر يتعلق في نهاية المطاف بالرغبة في تحييد الدين من المجال الحقيقي لاشتغال السلطة والنفوذ، ونقصد به مجال السياسة.
والواقع أن هذا النهج قد لا يسفر على المدى الطويل أو القصير، عن أي انكشاف حقيقي للتوترات التي يبدو أنها تهدر جانبًا كبيرًا من طاقاتنا الفكرية والذهنية والإعلامية والحزبية. نحن بحاجة إلى التوقف عن استدامة هذه المطارحات المتشنجة والصدامية بين التوجهات العلمانية/الحداثية والتوجهات الإسلامية/الأصولية. وبدل التموقع والتقوقع تاريخيًا وفكريًا في مقاربات هي أشبه ما تكون بالأدبيات السجالية البيزنطية، ينبغي التوجه في المقابل نحو خلق أجواء ذهنية وفكرية وحوارية جديدة قمينة بتدبير الاختلافات الجانبية والفرعية، لكن ضمن مدار الائتلاف العام حول القضايا المجتمعية الجوهرية التي تراعي مقتضيات الرهانات الضرورية المتعلقة بالدمقرطة والتوزيع العادل للثروات وتكافؤ الفرص والتفعيل المستدام للتنمية مع إدماج كل الفئات الاجتماعية في بؤر هذه المشاريع الجماعية. إن التدبيرات الإقصائية والاستئصالية لا بد أن تنتج ردود أفعال تراكمية تنشأ في الظل لتتحول شيئا فشيئا إلى مباردات منظمة واستقطابية وعنيفة. العنف الرمزي قد يولد عنفًا أشد وأخطر. والإقصاء له تبعاته وثمنه المُؤَدَّى في المنظور القريب أو البعيد. والواقع أن ما يحدث اليوم على الساحة، يكشف أن التدبير الفكري والثقافي للأمور آل إلى رؤية ضيقة تختزل كل القضايا في منظومة من الرهانات المعلقة على الدوام : قضية الثنائيات الضدية الدين/الدولة، الحداثة/التقليد، العلمانية/الأصولية...
والواقع أن مدار هذه الثنائيات لا يبتعد كثيرًا عن القضايا التي رافقت المشاريع الفكرية التي أفرزتها أدبيات النهضة العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر. ربما تكون المتغيرات العربية الراهنة ذات منحى يصعب التنبؤ به واستبصار آفاقه واستضمار نوابضه الخفية وآليات سيرورته المضمرة، لكن التأسيس المستأنَف لنهضة عربية واعدة ومتحفزة، يتطلب التعالي الإشكالي عن الاختزالات النمطية التي ما زالت ترى أن المفتاح السحري للتطور هو إما الدين وإما استبعاد الدين. الدين ليس حلا حضاريًا وسياسيًا وتنمويًا جاهزًا، كما أن الحداثة ذات السند العلماني المعلن ليست بدورها حلا حضاريًا وسياسيًا وتنمويًا جاهزًا. الحلول الحضارية تتأسس وتتمأسس من خلال تفعيل نوابض التوافقات، وتجدير آليات الاحتواء السلمي للأزمات والتوترات. نحن نعيش اليوم على إيقاع توترات باطنية لا أحد يعلم على وجه التحديد من أي صوب تهب ومع أي ريح تأتي وتَحُل. عنصر المفاجأة أصبح مكونًا أساسيًا من مكونات السيرورة العامة للأحداث العالمية الراهنة. بل إننا نوجد اليوم أمام تحول غير مسبوق في ما يتعلق بسيرورة التاريخ نفسه. التاريخ الراهن لا يتمظهر من خلال أحداث تراكمية خاضعة لمنطق التوالي الخطي وارتباط اللاحق بالسابق، بل يؤسس نمط سيرورته اعتمادًا على منطق التحولات المفاجئة والطفرات التي لا تخضع نسقيًا لأي توقع. ومن أبرز الأمثلة على ما نقول، أحداث 11 سبتمبر في أمريكا، وما تبع ذلك من أحداث في أفغانستان والعراق، ثم ما تلي ذلك من أحداث في لبنان ابتداء من خروج القوات السورية، مرورًا بالحرب بين إسرائيل وحزب الله، ووصولا إلى ما نشهده اليوم من لعبة شد الحبل بين الحكومة والمعارضة اللبنانية، بالإضافة إلى التطورات المرتبطة بتنامي العودة القوية للتيارات اليسارية في أمريكا اللاتينية، والتيارات اليمينية في أوربا وحتى في أمريكا، وانبعاث هوس التسلح وفورة المد القومي في اليابان الخ.
إن استضمار النموذج الغربي والمراهنة على تمثل منعرجاته ومنعطفاته التاريخية والاجتماعية والفكرية، من أجل إحراز درجات تطور مماثلة نظريًا لما أحرزه الغرب، قد يكون سبيلا مشروعًا له مرتكزاته النظرية ومرجعياته الفكرية المقنِعة، لكنه يظل رغم ذلك منطويًا على مفارقة زمنية يصعب تجاوزها. اللحظة التاريخية الراهنة التي تطبق علينا أكثر مما نطبق عليها تحتم علينا التعجيل بحسم صراعاتنا الداخلية، وتسريع وتيرة عقد التوافقات الضرورية من أجل بناء سلم أولويات جديدة نابعة من/ومرافقة لشبكة الاستحقاقات الاستراتيجية المتعلقة بالديمقراطية والتنمية وحقوق الإنسان والتوزيع العادل للثروات. إذا كنا نعتقد أن حسم التعارض بين الدين واللادين هو الذي سيقودنا إلى ركوب الموجة الظافرة للتقدم والتمدن والازدهار، فإن ذلك سيتطلب منا البقاء ضمن حدود العمل داخل هذه الرؤية الكالحة والضيقة، وكلما طال تلكؤنا داخل هذه الحلبة الحصرية والمحصورة، سنفَوِّت على أنفسنا ومجتمعاتنا فرصًا ثمينة كثيرة. الأمر يتطلب توجيه الاهتمام -في المقابل-نحو استشكال القضايا الجوهرية المرتبطة رأسًا بالتدبيرات ذات المردودية القابلة للملاحظة والقياس، من قبيل : التنمية، الديمقراطية وحقوق الإنسان. ولا شك أن توفر وتوفير بنيات ذهنية وثقافية منخرطة عمليًا في التدبير الفعلي لهذه الملفات، سيقود حتما نحو تكريس رؤى مغايرة تخرجنا أخيرًا من حمأة الثنائيات الضدية التقليدية : الدين/اللادين، الأصولية/العلمانية، التقليد/الحداثة إلخ.
ينبغي أن نعلم أن التركيز على البقاء ضمن منطق المراهنة المسرفة على الدين، أو منطق المناهضة المستميتة للدين، لا يمكن أن يسفر عن ترتيبات نهضوية حقيقية وجدية. نحن نعلم أن الغرب اليوم ليس خاليًا من الدين والتدين، ونعلم أيضا أن الغرب يرتبط بأكبر هيأة دينية منظمة ومستقلة وهي الفاتيكان. لا توجد في العالم منظومة دينية أكثر حضورًا في المشهد العالمي وأكثر تأثيرًا في الأحداث الدولية وأكثر قدرة على تسخير إمكانيات مادية خيالية، من الفاتيكان. وواضح أن الفاتيكان ليس كيانًا صوريًا مفرغًا من محتواه التمثيلي وسلطته الروحية والدينية، بل هو كذلك تنظيم تراتبي ذو حضور قوي في العالم بأكمله، وله سفراؤه وممثلوه في الكثير من العواصم العالمية، بما فيها العواصم العربية. ورغم هذا الحضور المؤسسي القوي للدين في الغرب، إلا أن الغربيين خرجوا وأخرجوا أنفسهم من إطار المنازلات الفكرية والسجالات السياسية المرتبطة بالثنائيات الضدية التقليدية التي ما زلنا نتلذذ بالخوض فيها خوض تناحر وتصادم وانشطار. أثناء مقامي في ألمانيا ما بين سنوات 1995 و1997، أتيحت لي الفرصة لملامسة حضور الحس الديني القوي في المجتمع الألماني العميق، رغم ما يتراءى في الظاهر من ابتعاد الألمان عن الدين. ومن أمثلة ذلك أن الأطفال الصغار الذين يلتحقون لأول مرة بالمدرسة، يحتفلون بهذا اليوم الأول من خلال حمل قناديل يضعون بداخلها شموعًا ويطوفون بها في شوارع المدينة يرافقهم أولياء أمورهم، ويتوجه الجميع نحو الكنيسة حيث يتلقون المباركة من الراهب. ومباشرة بعد الاستماع لخطبته يخرجون للالتحاق بالمدرسة.
إن هذا التقليد الديني يبدو مقبولا لدى الألمان ولا يثير أي ردود أفعال سجالية، لكن لو كان الأمر يتعلق في عدد من البلدان العربية بتوجه التلاميذ إلى المسجد للصلاة قبل الالتحاق بالمدرسة في يومهم الأول، لقام العديد من أدعياء الحداثة بالتعبير عن موقف الرفض والامتعاض من هذا السلوك التراثي المغرق في التقليد والظلامية.
إن حداثة الألمان تتسع لمثل هذه الممارسات ذات الخلفية الدينية المعلنة، لأنها حداثة رحبة تستضمر الدين كمكون أساسي من مكونات الإرث الحضاري الغربي ذي المرجعية المسيحية، وتترك له بالتالي إمكانية التمظهر دون الخشية من تحوله إلى عائق ذاتي أو موضوعي. ومن جهة أخرى "إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد نجحت اجتماعيًا في خلق شروط التعايش بين الحرية الدينية (بل والنجاح النسبي في تحقيق نوع من الفصل بين الكنيسة والدولة، وذلك منذ سنة 1791) وبين وجود الدين المدني (الذي ما زال حاضرًا في أمريكا في الوقت الراهن)، فإن فرنسا الثورية وما بعد الثورية لم تتمكن -رغم محاولات متعددة-من تحقيق هذا النوع من التعايش، لذلك لجأت -بعد الكثير من المحاولات والصراعات والتوافقات- إلى ابتكار حل مختلف هو :اللائيكية"[4]. ومعنى هذا أن المواقف بشأن الدين قد تختلف بين البلدان الغربية نفسها، لكن ذلك لا يمنع من أن هذه البلدان تتخذ من آلية التوافق آلية ناجعة من أجل حسم القضايا الشائكة.
لقد سبق لـ"إيميل زولا" أن قال : "لن تتمكن الحضارة من بلوغ كمالها إلا حين ينهار آخر حجر في آخر كنيسة فوق رأس آخر المصلين"[5]. صدر هذا الموقف عن "إميل زولا" في القرن التاسع عشر، ومنذ ذلك الحين مرت الكثير من المياه تحت الجسور، وظل الدين رغم ذلك حاضرًا في الغرب المتحضر، وظلت الكنائس قائمة مزهوة بقبابها الناتئة نحو السماء، لكن ذلك لم يمنع الغربيين من انتهاج طريق الحداثة بمأمن من الفوبيا الدينية. إن الغرب لم يُعدِم الدين ولم يُنْهِ وجودَه ولم يُصادر المعتقد المسيحي، بل أتاح له فرص الاندماج في النسق العام بمشمولاته الحضارية ذات التوجه الحداثي المعلن. الحداثة الغربية تتغذى من مرجعية توافقية قوية واستراتيجيات احتوائية قادرة على تقليص هامش التوترات وتحجيم بؤر الصراعات المنهِكة وغير المجدية. وهي لهذا السبب بالذات تعتبر حداثةَ فعلٍ وتدبير ونظر، أما "حداثتنا!" فهي حداثة المزايدة والمقايضة وتصفية الحسابات. ومن هذا المنطلق يمكن القول إن المسؤولية التاريخية للقوى الحية الفاعلة في مجتمعنا وثقافتنا ترتبط برهان جوهري هو حسم الصراعات بالتواقفات، خاصة أن الكثير من صراعاتنا المَرَضية المستشرية في واقعنا القائم، ليست سوى الوجه الآخر للمقايضات الميتافيزيقية والعقليات السجالية والنزوعات العشائرية والميولات الحزبية الضيقة. صراعاتنا استدامة متهتكة للخلافات الخرقاء، ولذلك فهي تنتج العنف والتشنج والإقصاء، أما الصراعات داخل النمط الحداثي الحقيقي فهي ممارسة رزينة لحق الاختلاف، ولذلك فهي صراعات ذات بعد درامي ككل الصراعات الإنسانية بكل تأكيد، لكنها دراما بدون عنف، وصراع بدون قهر، واختلاف بدون خلاف.
لقد قال "غوستاف لوبون" Gustave Le Bon : "إن التاريخ يجري خارج مدار العقل، وهو غالبا ما يجري حتى ضد العقل"[6]. ويبدو أن ما نتردى فيه يوميًا من مآزق وأزمات، يؤكد فعلا أن حلقات تاريخنا تتوالى خارج المقاييس العقلانية بتدبيراتها الاستراتيجية الموجهة وظيفيًا نحو تحقيق الطفرات الإنسانية والحضارية السلمية والحاسمة. هناك منطق مزمن يتحكم في سيرورة التاريخ العربي، ويختزله في محطات مكرورة ومستعادة. وهذا المنطق هو عَنْفَنَةُ التدبير الفكري والسياسي لقضية التناوب حول السلطة، وتحويل التموقف إلى تخندق بمعناه الدفاعي والهجومي العدائي. إن الحديث عن الحوار شيء، وتحويل الحوار إلى ممارسة ذات أفق إنساني وفلسفي رَحْبٍ وحقيقي شيء آخر. الكثير من الأدبيات السياسية والحزبية والرسمية في مشهدنا اليومي، تحتفي بمفهوم الحوار وتعلي من شأنه وتمتدح آلياته وإوالياته، لكن الملاحظة المتأنية والحصيفة تكشف أن هذه الأدبيات تروج لمفهوم الحوار بمعناه الاستهلاكي المفرغ من الوظيفة النفعية the utilitarism التي تحدث عنها الفيلسوف الإنجليزي "جيريمي بينتهام" Jeremy Bentham (1748-1832)، وهو أحد الشخصيات البارزة في التيار الإصلاحي الذي ساد في القرن التاسع عشر. ومن المعلوم أن هذا الفيلسوف كان يرى أنه من اللازم لكل الأنساق والقوانين والمؤسسات والأفكار والمواقف أن تستند وظيفيًا إلى مبدأ النفعية. وقد تطور هذا الطرح الفلسفي عند فيلسوفين أمريكيين هما "ويليام جيمس" William James (1842-1910) و"جون ديوي" John Dewy (1959-1952) في إطار معالجة مفهومية مختلفة بعض الشيء هي البراغماتية le pragmatisme، وهي مذهب يرى أن القيمة والعواقب العملية هي معيار صدق الأفكار وصحة الآراء. إن ربط الحوار بوظيفته العملية النفعية والبراغماتية يقود إلى تحقيق وإرساء التوافقات، أما ممارسة الحوار بمفهومه الاستهلاكي والاستعراضي الساذج والفج، لا يمكن أن تسفر عمليًا عن أي أفق توافقي أو تدبير منتج وعقلاني للاختلاف. إننا نسجل أن واقعنا ليس خاليًا تمامًا من الحوار من حيث هو كذلك، بل هو خالٍ من التصريف البراغماتي للحوار، وخال خُلُوًّا مُزْمِنًا من فلسفة الحوار المنفتح وظيفيًا على منطق التوافقات. مثقفونا ومفكرونا لا يفكرون إلا بمنطق الحدود الكلية القصوى، فإما أنهم يختارون سبيل الإجماع الذي لا يقبل حصرًا أيَّ اختلاف، أو يختارون سبيل الاختلاف الأرعن الذي يستبعد قصدًا منطق التسوية والتوافق. وبين هذين الحدين لا مجال سوى للدوغمائية البائسة والمزايدات المستقوية بضحالة الفكر وصفاقة التحليلات. وإذا كانت الدوغمائية تنصيص تعسفي وأخرق على المتماثل والأحادي والثابت، فإن أفقها الوحيد هو المواجهة التي لا تنتهي، وغايتها القصوى هي السجال الذي يتفاقم ويحتد ويشتد لكي ينفي كل شروط التسوية والتوافق. و"لئن كان وجود نسق واحد للأفكار يؤدي إلى ضيق الأفق، فإن الغياب التام لنسق من الأفكار شيء مستحيل. لكن الأفضل هو وجود أنساق فكرية متعددة"[7]. لكن ينبغي التأكيد رغم ذلك أن جدوى التعدد ليست في ذاته، بل في إمكانياته البنيوية والإبستيمولوجية الضمنية المشرعة غائيًا ووظيفيًا على حسن تدبير الاختلاف من خلال استراتيجية التوافقات.
إن مفهوم التوافق يعني "التسوية التي تقوم ضمنها كل الأطراف بتنازلات متبادلة من أجل الوصول في النهاية إلى صيغة اتفاق مُتَرَاضًى حوله"[8]. ومن المعلوم أن سبيل التوافق هو الحوار، وشروط الحوار المنتج هو إفساح المجال للآخر، والانفتاح على الآخر هو قبول للتعدد وتسليم بنسبية الذات ونسبية الآخر. إن قضية الإنسان ليست قضية دينية في المقام الأول، وهي كذلك ليست قضية علمانية أو حداثية في نهاية المطاف، لكن قضية الإنسان هي قضية حضارية بالدرجة الأولى. والحضارة لا تنشأ إلا بأناس متحضرين. ولربما كان السؤال الجذري الذي يستنبته أي تأمل فكري أو فلسفي في واقعنا العربي الواهن هو : هل نحن فعلا متحضرين بالدرجة التي تسمح لنا بأن نتحاور فيما بيننا ونخرج بتوافقات تاريخية ومصيرية وحضارية حقيقية؟
قد يكون التطلع إلى الجواب عن هذا السؤال هو الخطوة الأولى نحو الوعي بأن الحوار والتوافق مسلكان حضاريان ضروريان لا يتقنهما إلا من يؤمن بأن الحياة تجربة تشاركية بكل المقاييس. لا مستقبل لأي كيان فردي أو جماعي مُكْتَفٍ نرجسيًا بوهم اكتماله، ولا انعتاقَ أبدًا للكيانات المغترة بإفلاسها والمتكومة على نفسها كالمستحثات أو الفقاعة. لقد قال "جورج كريسطوف ليشتنبيرغ" : "إن الدوغمائية هي الأم الولود لكل سجال"[9]. والسجال هو الحوار المفرغ وظيفيًا من جدواه، لأنه ممارسة تَسْتَخْصِمُ المخاطب أي تحوله عمدًا إلى خصم وتقوض بالتالي كل فرص التقارب أو التوافق معه. "إن الخطير ليس هو الأفكار الطوباوية، لأنها ضرورية من أجل التطور. لكن الخطير هو الدوغمائية التي تستعملها بعض الأطراف من أجل المحافظة على مصالحها، وعلى امتيازاتها وهيمنتها"[10]. وفي ضوء هذا الفكرة، يمكن القول إن الدوغمائية تتحول عند البعض إلى استراتيجية دفاعية يحاولون من خلالها تثبيت مواقعهم وتعزيز خنادقهم وإعادة إنتاج نفس الشروط واستيلاد نفس الوضعيات لكي لا يحصل أي تغيير يهدد مصالحهم ويلغي امتيازاتهم. إن الأمر يتعلق بدوغمائية دفاعية وتحصينية ومصلحية. يقول "فرانسوا جاكوب" : " ليست المصلحة هي السبب الوحيد الذي يدفع الناس للاقتتال فيما بينهم، بل هناك سبب آخر هو الدوغمائية. لا شيء أكثر خطرًا من اقتناعك اليقيني بأنك على صواب وأن الآخرين على خطأ. ولا شيء أكثر دمارًا من الهوس بحقيقة معينة والنظر إليها باعتبارها حقيقة مطلقة. كل الجرائم التي عرفها التاريخ كانت نتيجة للتعصب. وكل الفظائع ارتكبت باسم الفضيلة، أو باسم الدين الحق، أو باسم القومية المشروعة، أو باسم السياسة الملائمة أو الإيديولوجيا الصالحة. وباختصار كل تلك الفظائع ارتكبت باسم الحرب ضد حقيقة الآخر، وباسم الحرب ضد الشيطان"[11].
إن طبيعة الإنسان تتحول تحت ضغط ظروف معينة إلى طبيعة مُحَيْوَنَة nature animalisée، فتنشأ عن ذلك ممارسات ومواقف لا علاقة لها بالعقل ولا رابط بينها وبين السلوك الحضاري ومتطلباته الإنسانية. وفي هذه الحالة يصبح العنف الرمزي والمادي هو المتحكم في تدبير العلاقات الإنسانية، ويصبح الاختلاف في الرؤية والرأي مدعاة للرغبة في الإجهاز كليا على الآخر. إن هذا السلوك هو المتحكم حاليا في مجموعة من الخلافات والصراعات العربية : فتح وحماس في فلسطين، السنة والشيعة في العراق، الحكومة والمعارضة في لبنان...واللائحة طويلة ومثيرة للأشجان. يقول "بول فاليري" : "توجد في العالم اضطرابات كبيرة، وهي ناتجة عن تعايش "حقائق" وأفكار مثالية، ووجود قيم متقاربة يصعب الفصل بينها. إن السجالات الأكثر عُنْفًا هي تلك التي تجري بين مذاهب أو معتقدات متقاربة جدا. الصراع الأكثر حدة والأنكى شدة ليس هو الذي يجري بين الأرثدوكسيين والوثنيين، بل هو الصراع الذي يجري بين المؤمن الأورثدوكسي والمؤمن الذي يخلط إيمانه بالبِدَع"[12]. ونفس هذا الرأي يتصادى لدى فيلسوف فرنسي آخر هو "غوستاف لوبون" حين يقول : "إن التعصب هو الرفيق الملازم للاعتقادات الراسخة والقوية، وهو حاضر بين المنتمين للمرجعيات الفكرية المتقاربة، أكثر من حضوره بين المنتمين للمعتقدات المتباعدة فيما بينها"[13].
ومهما كان الأمر، فإن الواقع الإنساني يحتمل الاختلاف، بل إن هذا الاختلاف يعتبر مكونا من مكونات السيرورة التاريخية والحضارية للأفكار والمرجعيات، وهو من هذه الزاوية يمثل ملمحًا من ملامح التجربة الوجودية للإنسان، وأفقا من آفاق تاريخانيتها المنفتحة على الاحتمالات الثرية والقصوى. يقول "إرنست رونان" : "إذا وُجِدَ اتجاهٌ فكري صحيح فلا ينبغي الخوف منه، وإذا كان هذا الاتجاه الفكري خاطئا فلا ينبغي الخوف منه أيضا، لأنه سيتهاوى من تلقاء نفسه. إن على من يتحدث عن المذاهب والاتجاهات الفكرية الخطيرة أن يضيف : إنها خطيرة علي أنا"[14]، لأنها تهدد مصالحه وتلغي امتيازاته.
وعلى هذا الأساس، تقودنا خطوات التحليل إلى التأكيد في نهاية المطاف على أن الأمر لا يتعلق دومًا بغياب فرص التوافقات، بل بالتغييب المتعمَّد والمقصود لمشاريع التوافق، لأن خلف ما تدعيه الأطراف المتصارعة، وخلف ما تصرح يه أو تُوهِمُ الناس بخطئه أو صحته، توجد رهانات دفينة وغير معلنة، وتوجد ديماغوجية مراوغة ومفضوحة وابتسارات دنيئة ودميمة. نحن نحيا على إيقاع مشهد تسقط فيه الأقنعة، فيُفتضح السر ويتراءى للعيان حجم الكارثة : التناحر عندنا ليس من أجل الإصلاح، بل من أجل المصالح.
الهوامش والإحالات :
[1] - Emil Cioran, De l'inconvénient d'être né (1973), Œuvres complètes, éd. Quarto Gallimard 1995, p. 1353
[2] - Montesquieu, Mes pensées, in Oeuvres complètes I, Bibliothèque de la Pléiade, éd. nrf Gallimard 1949
p.1535.
[3]- Georges Darien, La Belle France, Omnibus Presses de la Cité 1994, p.1274.
[4] - Jean Boubérot et Emile Poulat, Laïcité, in Encyclopaedia Universalis, version 9.
[5] - Cité in: Eureka encyclopedia, the 21st Century Guide to Knowledge, By Ian Adams, published by Ultralingua, Inc., copyright 2004, version 9.theme: religious.
[6] - Gustave Le Bon, Aphorismes du temps présent (1913), Paris, Les amis de G. Le Bon, 1978, p. 239.
[7] - Raymond Queneau, Journaux (1914-1965), éd. nrf Gallimard, 1996, p. 68.
[8] - Extrait de l’ouvrage du CERTU « La concertation en aménagement, éléments méthodologiques » actuellement téléchargeable sur le site du CERTU : WWW.certu.fr
[9] - Georg Christoph Lichtenberg, Le miroir de l'âme, éd. Domaine romantique José Corti, 1997, p.463.
[10] - Henri Laborit, Éloge de la fuite, éd. Robert Laffont 1976 - Gallimard folio-essais 7, p. 164.
[11] - François Jacob, Le jeu des possibles, éd. Fayard 1981, p. 12.
[12] - Paul Valéry, Tel Quel, Oeuvres II, Bibliothèque de la Pléiade, éd. nrf Gallimard 1960, p. 517.
[13] - Gustave Le Bon, Aphorismes du temps présent (1913), Les amis de G. Le Bon, Paris, 1978, p. 218
[14] - Ernest Renan, L'Avenir de la science, Pensées de 1848 (1890), éd. Flammarion 1995, p. 451.