قرأت ليليات عبد الإله بلقزيز واستهوتني لغتها ومضامينها، فكتبت عنها مقالا، أسميته: "شعرية الليل في ليليات بلقزيز، وقادني الأمر إلى قراءة أعمال الرجل والتعمق فيها أكثر، فقرأت له روايتي :"الحركة" و"سراديب النهايات"، فتبدت لي من العملين أشياء لا بدّ أن ننقلها إلى القارئ الكريم، وتقريبه من تجذرات الفكر السردي عند الكاتب، الممزوج بين الأدب والفلسفة، وسأتحدث في هاته الورقة عن رواية "سراديب النهايات"؛ إذ وجدنا فيها أثرا نفسيا يبرز المشترك الواقعي للمغرب في وجوه متباينة، ونستحضر هنا قولة غادمير: "كلما التقينا بأثر فني التقينا بأنفسنا"، وإنصاتا لهاته القولة أو الشذرة، نقول: إننا في سراديب النهايات، نلتقي بمشترك واقعي مغربي في الحياة المعيشية والثقافية، وسأبرزه في نقاط محددة، اعتمادا على نصوص مأخوذة من الرواية، و"لن أنصّب نفسي ناقدا وأعلق على النصوص" كما قال عبد الكريم جويطي في "ليل الشمس"، إنما أقوم بمحاولة نبدي فيها بمرح مداليل السراديب الباطنة.
وكما هو معهود لديّ في قراءة الروايات أو الأعمال السردية، أننا لا نحب مسألة وضع تلخيص لها، وإنما نتلهى بما فيها من فراغات وبياضات تشغل بالنا وبال قارئها، وتجعله يطرح تساؤلات حولها، وتشكل قلقا معرفيا بالأساس، وههنا نتغيا سدّ بعض فراغات وثغرات هذا العمل، بتأويلات فقط لا حقائق.
وفي تخصيص موضوع الورقة في: "شعرية الواقع المغربي سراديب النهايات"، فإننا سنقتصر على الموضوعات الآتية:
التغير الأخلاقي لأبناء البادية
صورة المغترب المغربي
تكسب أساتذة الجامعة للمال على ظهور الطلبة
جهل القانون ودور المثقف
التغير الأخلاقي لأبناء البادية:
أول نقطة تجلت في الرواية، وتتماثل مع الواقع البدوي، هي مسألة التغيرات الأخلاقية لأبناء البادية بفعل التأثر بطبيعة المدينة وصخبها، مدينة لا صمت فيها ولا هدوء، ولا راحة بال، ضجيج وقلق مفظع، وانحلال أخلاقي ظاهر في أول قدم تحطها بالمدينة، أبدى عبد الرحمن في الرواية تخوفا من تغير أخلاق أخيه المهدي بعد نجاحه في الباكالوريا، وذهابه لمراكشَ لاستكمال مساره الجامعي في الدراسات القانونية، ويرمز المهدي في الرواية إلى الإنسان المنحرف أخلاقيا بفعل تأزمات مادية تتعلق بظروفه المعيشية، وفي عدم قدرته على مسايرة حاجات الجامعة، وأخوه عبد الرحمن رمز للإنسان المكافح و الصابر والملتزم، الذي نسي ذاته من أجل ضمان قوت العائلة وحاجات المهدي في دراسته.
التغير الأخلاقي الذي رسمته الرواية بادٍ في تغير أخلاق المهدي في مراكش، وتأثره بأفكار شيطانية جديدة، جعلته يكره البادية ومعيشتها، قال الكاتب: "لم يسمع من أخيه غير ما يبشر ويريح النفس، لكنه يخشى على أخلاقه من العوج في مدينة مفتوحة لكل المغامرات، وفي مكان لا يراقبه فيه أحد، وهو يخشى أكثر من أن يركبه الغرور، فيفسد ذلك ما بينه وأهالي المنطقة من ودّ" ص40.
تسلل عبد الإله بلقزيز إلى عقلية البدوي حينما ينبهر بالمدينة، ومظاهرها المخالفة تماما للبادية، النص مبرز أيضا لأمرين، أمر متعلق بتخوف بطل القصة من تغير أخلاق أخيه، وأمر ثان متجل في المقارنة بين المدينة والقرية، إذًا، فهذا هو المضمر الواقعي الأول في الرواية، ونؤكده بقول البطل: "يا حسرته على أولاد اليوم وأخلاقهم، وخصوصا حينما يذهبون إلى المدن، ويتأثرون بقيم أهلها، ويتطبعون بطباعهم، فيصبهم عُجبٌ وثقة زائدة بالنفس، واستعلاءٌ على الأهل والمحيط" ص64.
تماما أيها القارئ، هذا أمر تعلمه، وتراه حاصلا ومنطبقا على طلبة عدة، انتقلوا إلى المدن لاستكمال مسارهم في الدراسات العليا، فتغيروا تغيرا ملحوظا، وقلّما تجد طلبة حافظوا على ماء عين أخلاقهم ومبادئهم المكتسبة من البادية، التي دائما ما تحمل صورة إيجابية في الوعي الجمعي، فهذا هايذغر مثلا، الفيلسوف الألماني الشهير، مولوع بالقرية، وهرب من المدينة ليستقر في غابة سوداء منحته لقب رجل الغابة السوداء.
ولذلك، فقد زرعت المدينة في رأس المهدي مبادئ جديدة لم يكن قد تربى عليها من قبلُ، يتأسف الأخ مما حصل فيقول متسائلا مستغربا: ""من زرع في رأس مهدي هذه الأفكار الشيطانية؟ قطعا هو لم يكن هكذا قبل انتقاله إلى مراكش للدراسة الجامعية، وهناك كل شيء ممكن: من الاختلاط ببيئات مدنية مختلفة، وأخلاق وطباع مختلفة، ومغريات في الحياة غير مألوفة في بيئة شبه بدوية"ص66.
المسكوت عنه في النص أن الكاتب لا يقدح في المدينة أساسا، والمنطوق أنها تسهم في تغيير مبادئ أبناء البادية، وككاتب للمقال وكنت في البادية، فإنني قد صَاحبتُ هذا الأمر ورأيته في أبناء يحسون بفراغ في مبادئهم، وبعدم اقتناع بثقافتهم، التي كونتهم، وجعلت منهم رجالا، يتحدون مصاعب الحياة ومكائدها، ولكن تغيرات أحوالهم فأحسوا بالتكبر والاستعلاء. تبدى أن الرواية تبرز هذا الانحلال الأخلاقي لأبناء البادية، بعد صدمتهم ودهشتهم الصارخة بالمدينة، و"يبدو أن أبناء اليوم أقل قناعة من أبناء أمس، فلو كان في حوزة الأخيرين ما في حوزة الأولين، اليوم، لما طلبوا المزيد"ص88.
صورة المغترب المغربي:
نصل إلى المضمر الواقعي الثاني في الرواية، وهو صورة المغترب المغربي، وأقصد به الإنسان الذي عاش في المغرب ثم هاجر إلى بلاد الضفة الأخرى، فعبد الإله بلقزيز بين بأن المغترب المغربي هو إنسان مظهري فقط، ولا نعمم هذا القول، ولكنه يسري على أغلبية المغتربين، تجدهم يفتخرون ويتباهون أمامك، ويقدسون البلد الآخر لأنه وفّر لهم فرص العمل، إلا أن ما يحصدونه من أموال لا يظهر في أخلاقهم وسلوكاتهم، فعبد الرحيم الأخ الأكبر لعبد الرحمن، هاجر لأوربا، فنسي أسرته وأخاه الذي حمل هموم العائلة، ولم يجد من يساعده في السهر على مطالبهم، مع العلم أن الأرض التي يأخذ منها بعض الرزق لا تؤمن له ما يكفي حاجات العائلة والمهدي في الجامعة، يقول الكاتب: "وجد نفسه، فجأة، مسؤولا عن هذه العائلة، ومربيا لاثنين منها: صفية ومهدي، ونسي أمره تماما وهو منغمس في العمل والمسؤولية إلى أن بلغ السابعة والثلاثين، دون أن يفكر في الزواج" ص41.
وَهْمُ المغتربين أنهم يبيعون الكلام فحسبُ، وكما نعلم في المثل المغربي الشهير، أن الكلام لن يشتري لك الخضرة، وتراهم يفتخرون ويتمايلون تمايلات عجيبةً، يبدون شوقهم المزيف بالاتصالات، ثم بزيارات قليلة في مواسم الإجازة، وبعدها ينقطعون دون أن يسألوا عن أحوالك وحاجاتك، هم وصلوا ولا شأن لهم في شؤونك، هذه هي الصورة التي يرسمها النص الآتي على لسان بلقزيز: "هاجروا إلى المغتربات الأوربية بعد فترة قليلة من استقرارهم فيها، كانوا يعودون، في السنوات الأولى، محمولين على مشاعر الشوق لرؤية الأهل، فيصطحبون معهم الهدايا والهبات ما يُرْضون به المنتظرين، ويشبعون به نهمهم لمعرفة العالم الجديد الذي قذف إليه أولادهم وفلذات أكبادهم، ويؤكدون به أنهم عملوا وجدّوا وحصّلوا كي يبرروا لهم لماذا غامروا بالهجرة، ما إن تتكررت الزيارة السنوية مرة أو اثنتين، حتى يبدأوا في التباطؤ، تتباعد تواريخ الرسائل ومناسباتها، وتشحّ المكالمات الهاتفية، وتنقطع الزيارات، والمبررات هي نفسها المبررات: الانشغال بالعمل، وقلة الإجازات"،ص93.
أسفر بلقزيز عن مضمر أساس ورئيس، يعد مشتركا بين عامة المغاربة، يرسم صورة يمتاز بها كل من تيسرت له سبل الهجرة إلى الضفة الأخرى، ناسيا متناسيا أهله، وأرضه التي منحته بعض حنانها، وحضنته بين أكتافها، أكيد هناك أمور غير مستحسنةٍ في البلد تجعلنا نبحث عن سبل الخلاص والهجرة، ننتقدها ونبدي عليها غضبا شديدا، ولكن لن يمنعنا عبور قارة وتحصيل مال، وتذوق غربة، والعيش في مرح ولهو من نسيان الأصل وإنكاره، وينساق هذا الأمر مع الواقع المغربي وتأصلاته الثقافية.
تكسب أساتذة الجامعة للمال على ظهور الطلبة:
نقطة تتطابق تمام التطابق مع أساتذة كثيرين في الجامعة المغربية، والقلة القليلة منهم التي أًعفيت وسلمت من هذا البلاء، أساتذة يسترزقون على ظهور الطلبة، بالإلحاح عليهم بشراء مطابعهم وكتبهم، ومن لم يشترِ الكتاب لن يستوفي مادة الفصل، هذا ما تنقله سراديب النهايات، وترسمه بأسلوب فيه نوع من الحسرة، على لسان المهدي يقول الكاتب: " كلهم تجار شرهون لا يقنعون بما بين أيديهم، فيتطاولون على حقوق الغير وإن كانت تافهة، لا ضمير مهنيا لديهم ولا هم يحزنون، ومن الأحسن أن يتقي شرهم...أنا لا أسرق أحدا، هم من يسرقوننا، ويضغطون على فقرنا فيفرضون علينا ما لا نستطيع أن نتحمله من أجل إضافة مالٍ جديد إلى رواتبهم"ص101.
نرى كيف نقل بلقزيز صورة بعض أساتذة الجامعة، الذين يبدون شرها ومزقا عَليه أسفٌ وبكاءٌ شديدين، بتكليفهم الطلبة بشراء كتبهم التي لم يَقْبَلْ عليها المثقفون في السوق، طلبة أعياهم الكراء، وأهلكتهم مصاريف النقل، وأرهقتهم الأكلة الواحدة في اليوم، طلبة فقراء بسطاء لا يملكون ما يسدون به رمق جوعهم، هذه صورة مأسوية حقيقية وواقعية، عايشتها كطالب أيضا، وعايشها طلبة كثيرون، هذا هو السبيل الذي يجعلك تمسح الأرض بالدولة، إذا كان من تحسبه مثقفا وواعيا، يسعى لانتهاك ضلوع الطلبة، وخرق جيبوهم الهزيلة، والفتك بهم، فماذا تنتظر من آخر لم يلج المدرسة؟ وبالأحرى فتجده أرحم من أستاذ همه الكسب والاسترزاق، وما نفع علمٌ غرضه الكسب والطمع.
ومساق هذا القول أن المهدي في الرواية، كان قد سعى إلى طبع بحوث الطلبة، وأخذ كتب الأساتذة وإعادة نسخها، وبيعها بثمن رخيص للطلبة، لضمان قوته اليومي، إلا أن هذا الأمر وصل إلى علم الأساتذة، واستفسروا عن صاحب الفعلة الذي وقف في وجه تجارتهم وطمعهم، يقول الكاتب: "بأن أستاذ إحدى المواد القانونية سأل الطلبة مرة، عن عدم اقتنائهم كتابه، فأجابه أحدٌ بأن نسخه المصورة متوفرة، وأنهم اقتنوها، لرخص سعرها، من طالب وفّرها بكميات كبيرة، انزعج الأستاذ وسأل عن اسم الطالب، ولم يجبه أحد، غير أن الأستاذ شوهد يتحدث، في نهاية الدرس، مع الطالب الذي أفاده بموضوع نُسخ الكتاب المصورة"ص98.
شيء يحزّ في النفس أن يمنع أستاذ طالبا من الاسترزاق، وهذا بفعل الطمع والجشع، وغياب الضمير المهني والأخلاقي والإنساني، وما لم يحضر الضمير الإنساني في المعرفة، فحتما يتنفر الناس منها، لقد "خرّبوا تجارته ولمّا تبدأ، منعوه المأكل والمشرب"، هذه صورة مبثوثة في تضاعيف صنيع بلقزيز.
جهل القانون ودور المثقف
هي آخر نقطة سنبرزها في الرواية، وهي مسألة غامضة أشار إليها بلقزيز دون جلاء، وإنما سنسعى لكشف غموضها وجعله متحققا؛ لأن النقاد كما قال تيري ايغلتون في كتابه: "كيف نقرأ الأدب"، "يسعون دائما وراء الغموض"، فحدد بأن الفلاحين والعمال يجهلون القانون، وجاء هذا في سياق مرض الحريزي مرضا شديدا، فتكلف العياشي بمصاريف العلاج، لكون أن الحريزي يشتغل عنده، وهذا أمر طبيعي في قانون العمال، إلا أن رجال القرية وأصحاب الحريزي يجهلون هذا الأمر، فقدموا تأويلات على هذا العلاج، لو لا الأستاذ الذي قطع لهم الشك باليقين، فأخبرهم بحقيقة العلاج، وهنا يرمز إلى الإنسان المثقف، فأخبرهم بأن ما قام به العياشي تجاه المريض من مهماته، فبهتوا ولم يزيدوا كلاما على ما قاله، ودليل هذا من الرواية ما يلي:
"أكد العطاوي في ما يشبه القطع، أن العياشي ما كان ليتكلف فرنكا واحدا لولا ضغط زوجته عليه التي تصلها بالحريزي قرابة ما، ثنى على كلامه كثيرون، لكن السي محمد، أستاذ المدرسة، سرعان ما قلب هذا الاطمئنان إلى تفسير العطاوي حين قال: وقد وصل متأخرا إن علاج الحريزي على نفقة العياشي حق قانوني له ما لا يملك مخدومه أن يتهرب من واجب أدائه، وأمام استغراب الجميع، طفق يشرح لهم معنى حقوق العمال والفلاحين في نظر القانون"ص42.
ظهر جهل عمال المغرب بالقانون، وعدم وعيهم بما لهم وما عليهم، فكان تكلف العياشي بالحريزي محض فجأة عندهم واستغراب، إلا أن الأستاذ المثقف شرح لهم بأن ما قام به العياشي حق له سنده القانوني، وأظهر لهم ما جهلوه وأجلَّ لهم أشياء كثيرة في الرواية، إلا أن المقام لا يسمح الاستطالة والزيادة.
تأتى في ختام هذه الورقة، أن بلقزيز أضمر شعرية واقعية في سراديبه، تتماثل مع المشترك الثقافي المغربي، وبتعبير غادمير إننا التقينا بأنفسنا في هذا العمل، وشغل بالنا كثيرا، فأسفرنا على بعض مسكوتاته، وسكتنا عن أخرى نوردها للقارئ في سياقات أخرى.