لقد أبدع شعراء الجاهلية ومن قبلهم، في البحور المعهودة ، دون أن تحاصر أذهانهم أو تلطّخ غايتهم، ضرورة التقيّد بعروض معينة ولا وساوس معرفة الانتماء إلى حدودها الإبداعية حتى، والحقيقة الأرجح أن كتلكم ممارسة إنما كان تتمّ باعتماد العفوية والفطرة والسّليقة، أو تبعا لطقوس غيبية يغطّي مساحاتها شيطان الشّعر وفعّالية حضوره ،مثلما هو مذكور في الأثر، هكذا وببساطة وبنموذجية فكر وطوباوية مغزى، تراكم في ديوان العرب إرث كلام مقفى موزون ،هو بحقّ مفخرة للأدب الإنساني بالأجمال، شغل الدّنيا لعذوبته وفلسفية رؤاه،ذاع وانتشر شرقا وغربا كأنّه النار المندلعة في الهشيم.
لحين جاء خليل بن أحمد الفراهيدي وقد فتحت له مغاليق أبواب العلوم، فأنشأ علم العروض مجموعة في خمسة عشر بحرا.
وبعده الأخفش الأوسط واضع" المتدارك" ليغدو عددها ستّة عشر بحرا كما هو معلوم.
أردنا فقط أن نصرف عناية المتلقي إلى بديهية من الأهمية والقيمة بمكان، تتجسّد في جدلية الحرية والإبداع، على أساس أنه كلّما اتسع حيز الحرية في التفكير والتعبير كلّما لاحت أفق التجديد والابتكار، والعكس بالعكس تماما، أي كلّما ضاق معطى الحرية وغلب القيد ،لاقى الإبداع ميوعة وركاكة وحصل التكرار والاجترار والاستنساخ.
إنّما قصدت بهذه الفذلكة ،الإشادة بكتاب السّليقة ومن على نهجهم ،باعتبار راهننا أحوج ما يكون إليهم،كونه بذلك يتمّ تجاوز الخطوط الحمراء وملامسة الصميم وفتح جبهة جديدة ومغايرة وبأسلحة وتقنيات تعبيرية مستحدثة، لصالح روح النضال ضدّ قبح وحديدية ولا إنسانية الذات والغيرية والعالم.
ضمن هذه الكوكبة التي تعزف وتر العفوية والسليقة، نجد الشاعر التونسي محمد الناصر شيخاوي،بعدّه قامة تحاول جاهدة القفز فوق قيود وإملاءات الصرامة المعيارية والقواعد الجاهزة،وبدل أن ينشغل بنحت عالمه الخاص ، نراه يذوب في الهمّ الجمعوي والشعبوي، وتساير تغريداته نبض الكونية المشدود إلى قانون وجداني/ عرفاني يزاوج بين الأضداد ،ويلتحم بمبدأ الاعتراض والإنكار.
كتابة هامسة لا تنطلق من خلفية بعينها،بقدر ما هي لحظات سطوع تغازل مرايا الروح،وتُلهم الطاقة والمقدرة والزاد الهذياني المعزز لتلكم الذات التي لا تمتلك سوى هشاشتها وعريها وعزلتها في مواجهة ومناهضة تجاوزات عالمنا الطافح بأوبئته وغرائبيته وغموضه.
بوح تتفادى من خلاله الذات تمرير الشحنات السّلبية برغم الحاصل ممّا يسرّع من وثيرة نهاية الإنسان والكون. بل تلتزم بقناع التفاؤل ، في تفريغ المعاناة وإنتاج النصّ الموازي بما هو معنى لحياة ثانية،من المخالف للقناعة والأخلاق ، أن ترسم ملامحها في خيال الشعراء فقط، ولا تكسر زجاج السّكونية وتلافيف الوثنية ومتاهات عمى الألوان، وتلعن وتطعن في كهذا احتكار،معمّق للهوة والشّرخ،فتقتنص بالنهاية حظّ التربّع على قلوب الأسراب الآدمية الظامئة للخيرية والمثالية والقيم.
إنها حروف تشتهيها الخطى، وحكاية تنكتب ضاجة بألحان الاعتراض والإنكار، متى ما غذينا الخامل في القصي في آدميتنا، وقلقلنا المكبوت،وسلكنا دروب تدمير الذات لأجل لملمتها وفق تفشي الأنساق الوجودية ،وتراخي ظلال الولادات الثانية ، وزمجرة النواميس الداعية إلى التحلي بالعقل في معالجة ما يحاصرنا من كروب وويلات وتحديات.
منطق السّليقة يندسّ في وعينا بغرض إنبات الذات المتعافية من خور وخنوع وانكسار راهن الانتماء.
بهذا وأكثر لعلّنا نخرج ،ونحن نتوغّل في عوالم شاعر آثر أن يترك مسافة حياة وامتداد أمل بين الوهم والحقيقة، السذاجة والتركيب،الغنائية والإنشائية،التجلّي والضمور، النّصانية والمحو.
فلنلق الضوء على الاقتباسات التالية ، لنقف على جرعة زائدة من ألم، تفبركها ذات تلهج بالأمل،وتتدفقّ التواءات أدغالها ببصيص الضوء ونورانية الكمون ،وإن على سبيل التوهّم.
"حين صرتُ لوحدي
في ذلك العراء المجحف
عاري الروح تماما
حافي الجسد
تشتهيني كلّ الخطى
وراودني الخواء"
..............
ورد في المحضر المحرّر
ما يلي:
البضاعة المعروضة:أكوام من الأتربة والحجر
البائع:مسخ من البشر
المشتري: رعاة البقر
التاريخ:أيام الذل والقهر
السّاعة :مادون الصفر"
....................
"عبورك
خلّف عبيرا
أيقظ شهوة
وأحيا سريرا
فعانقت فيك كلّ النساء
ودفء الشّتاء البارد
وبوح مساء شارد
كان قد غفا"
................
"إياك ثم إياك
أن تحبس في غيب وهم
أحلامك ورؤاك
ويشدّك سحر المرايا
وأهازيج الصبايا
فيهجر ذاتك
صوت المدى"
...................
"رفيق أيامي
لا تعجب إذا استيقظت ذات مساء
فيقال لك معذرة
قد أفقت متأخّرا
محجوز بالكامل هذا الوطن
فتّش لك عن وطن غيره
إذا حدث مثل ذلك معك
يا سليل خير تراب وماء
فعد سريعا إلى مضجعك"
....................
"احذروا أيها العرب
قد يسحب البساط
من تحت أرجلكم
وطن"
.....................
"الظل لا يخدش الزّهور ودفء الشمس
محال
أن يذيب الصّخور
وحده الإنسان
يتلف الأشياء الجميلة"
............................
"لحظة
من زمن ذميم
موغل في الشهوة والشّبق
الحبّ ليس فقط
حفنة أرداف
عصيّ بول
ومضغة
من علق..
الحبّ..
أسمى وأرقى وأرقّ
الحبّ سفينة النّجاة
من الغرق"
....................
"يا حبيبة الروح
لا تزال على العهد
وفية
تعانق في غدو ورواح
مآذن سماك والقبابا
وبعده عطر ترابك
يراود أحبّة قدامى
آه منك يا طنجة..
أهكذا هو حال الشعراء دوما
في العشق موتى؟
أم مثله حال سائر العشّاق؟"
..................
"راودتني التي...
أنا في قلبها
ساعة كنت بلا قميص
فأجبتها...
ليس دائما
يعيد التاريخ نفسه"
..................
"جميلة أنت
وكلّكنّ جميلات
لقد أعددت لكنّ
بقلبي متّكأ
غير أن لكل واحدة منكنّ
ميعاد وميقات"
بالنظر إلى ما تقدّم، ما نلبث نعلن استسلامنا للمواقف الصّريحة الجريئة، وحجم الدربة في إدارة المعنى الموازي والدلالة الخفيضة،كما تنتجها التعبيرية المنحازة للصورة أو اللون.
فهذه الإرسالية،وإن لاحت متفكّكة ، تظلّ مشدودة إلى مصا ريع ومفاصل فارقة،تحيل على تسلسل وأنساق ضمنية ،يستفتح الحكاية ويأنف أن ينهيها، أي يتركها مفتوحة، وأكثر قابلية للتأويل.
هذه الدلالة للنص الموازي ،قد لا تغزو العملية التواصلية، لأول وهلة، لكنها تأخذ في البروز لمجرّد الاحتكاك المبدئي مع العتبات،وعلى نحو تدريجي مطّرد تحتلّ فسحتها في الوعي وتتمكّن من الذائقة،بما يجبر المتلقي على عيش دورة كاملة ،يدغدغه عبرها فعل السّليقة، وينتشي بثمارها المتناثر مفردات وصورا على امتداد جسد النّص المارق العاق لشتى القيود والحدود والمضايق الأجناسية.
تلكم شعرية المناوبة على الهموم المشخصنة والمعوْلمة سيان، ترتع على ذاكرة ينخرها عبء الإخلاص والوفاء للجذر، دونما الوقوع في خيوط سمّ الإيديولوجية القاتلة لذات التعدّد والتعايش والامتداد إلى رياض ما هو إنساني وشمولي ولا محدود.
تحريك واع يقود إلى مناخ تفجير التساؤل المخلخل ، والمناورة بالإشكال الوجودي، في نطاق رؤى غضّة ونضرة تتغيا الإمساك بخيوط اللعبة المحال.
تجترّ الرّجع النرجسيّ ، وتخاطب بلسان الحال،و تلوّن إيقاعات المحطّات الحياتية بالمراوحة بين متون المقدّس والمدنس، صانعة بذلك المشاهد الهوليودية الشاهدة على تفاقم نزيف الإنسانية، والمصوّرة بوجع وتنكيت واستخفاف وإشفاق كذلك، للمرحلة البرزخية ،وكيف أنه خارج الزّمن وفي اللامكان، يتغوّل ويستذئب عالمنا على إنسان مواسم الجنائزية واليأس والخراب، بين الذبحة القلبية والسّكتة الدّماغية كإعلان رسمي على موت سريري للإنسان والكون،تبعا لفصول سردية شاعرة تفاخر بورطة اللاشكل و ما هو وراء الممكن، وتباهي بكتابة السّليقة المفجوعة في صميمها بالعالم والغيرية والذات.
أحمد الشيخاوي/شاعر وناقد مغربي