شاعرٌ قومي فريدٌ من نوعه، جوهرة خرجت من نهر النيل واعتلت عرش الشعر في فترة من الفترات الصّعبة، رغم قِصر سنوات حياته التي لم تتجاوز الأربعين إلا بقليل، إلا أنه مرّ خلالها بمحطاتٍ فارقةٍ من تاريخ الأمة العربية، كشف فيها عن مواقفه السياسية بإحساسٍ صادقٍ غيور، وفي قالبٍ شعريّ رفيع المَقام، بعد نَكسة 67 كَتب قصيدَته المشهورة "البكاءُ بين يديْ زرقاء اليمامة"، عبّرَ فيها بحُرقة شديدة عن حُزنه وصَدمته من هزيمة العرب المُذلّة في الحرب ضد إسرائيل، ولأنه يحملُ هُموم الأمة ويُؤرقُه مَصيرُها كما يجبُ على أيّ شاعر أن يكون، فقد رفضَ توقيعَ السادات لاتّفاقيةِ كامب ديفيد عام 1978 وكَتب قصيدته الرافضة للتطبيع " لا تُصالح" ، جاء فيها:
لا تُصالح
ولو منحوك الذّهب
أترى حين أفقأُ عينيك
ثم أثبّت جوهرتين مكانهما.. هل ترى..؟
هي أشياء لا تُشترى..
أمل دنقل شاعرُ وطني بامتياز، راهب في محراب الشعر المُقاوم، لم ينصرفْ قيْدَ حياته إلى صنعةٍ أخرى من صنف القصّة أو الرواية أو المَقالة، بل اعتَكَفَ بين قصائده وذاب في أبياتها وحُروفها بكل جَوارحه، جَعل حياتَه فداء للشعر، يكتبه بإخْلاصٍ في كل وقت وحين حين تَعتصِرُ نفسُه بالبَوح بما يختلجُ في صدرهِ من ألمٍ واحتقانٍ لينتشِلَهُ بطريقتهِ الخاصة ويُخرجَه إلى الوجود في صورةٍ فنيةٍ أخاذة، لا يقلُّ جمالُها عن تأثيرها في النّفوس.
كان يقول: على الشاعرِ أنْ يأخذ موقفَه في المجتمع، أن يرفضَ الواقعَ بطبيعته لأنه يطمحُ لواقعٍ أفضلَ وأرقى، أن يُحقّق المعادلة الصّعبة وهي أن يجعلَ الواقعَ شعراً والشِّعرَ واقعاً ويعيش على ذلك، وبما أن الواقعَ متخلّف عن الحُلم، فالشاعر يقفُ دائماً مع الحُلم ضدّ الواقع.
كان يرفضُ المسمّيات العديدة التي باتتْ تُنسبُ إلى الشعر من قبيل القصيدة السياسية والقصيدة الوطنية وقصيدة المَدح وما إلى ذلك، فاعْتَبرَ الشِّعر في مُجْمله كتلةً واحدة ووحدةً متكاملة تستمدُّ طاقتها من وَحْي الإنسانية بكل تجلّياتها وصُوَرها، تنقلُ صورةً لإحساسِ الشاعر بنبضِ المُجتمعِ في لحظةٍ ما، ولأنَّ أباه سمّاه أمل تَيمّناً بحصولِه على الإجازة العالمية، فقد حاولَ بِدَوره أن يزرعَ بُذور الأمل في النّشء الصاعد، وأن ينقلَ معاناتهِ ومشاكلهِ المُتخبّط فيها، أملاً أن تنفرجَ كُربه ويَصلحَ حاله ويشقَّ الطريقَ الصحيحَ نحوَ غَدٍ أفضل، نحو أملٍ أفضل.
كان صوتاً بارزا يتصدّر الموجةَ الثانية لحركة الشعر الجديد، بكلماته الواصلة ومواقفه الثابتة، يُعبّر عنها بلُغةٍ عربية سلسة، وتصويرٍ شعريّ لا مثيل له، فكان واسعَ الخيال، يمتلكُ نظرةً ثاقبةً للأشياء، تنفذُ رسائلُه الرمزيّة بلُيونةٍ إلى أعماقِ ووجدانِ قارئها كما يندسُّ نصلُ السّيف في الغَمَد، مخلفةً وَقْعها في القلوب إلى الأبد.
أن تكون شاعراً يعني أنك مرآة حية تعكسُ ما يجري في المجتمع، والفرقُ بين الشاعر وأي إنسانٍ آخر هو أن الأوّل يسعى دائما إلى وصف الواقع الذي يعيشه الإنسانُ نفسُه، يبحثُ عن سُبُل إسعادهِ ويتطلّعُ إلى حلمٍ مشتركٍ لا ينفَصلُ عن أحلامِ وتطلّعاتِ المُحيطين به، وذلك في قالبٍ فنيٍّ مُتناسقٍ ومُنظّمٍ ومُتدفّقٍ كالماء العذب في مَجراه. فلا يلقي الشاعر الكلامَ على عواهنه فقيراً من إبداعٍ يُذكر، ولا يبالغُ في الغموض والتّعقيد إلى درجة أن لا يفُكَّ طَلاسمَ شِعره أحدٌ سِواه، بل يمزُج الواقعَ بالخيال والحُلم بالحقيقة في مُركّبٍ مُدرك المقاصدِ مُستوعب الرسائل، ليُخرجَ إلى الوجود بعدَ عمليةِ تشخيصٍ دقيقة تِرياقاً يُريد به إنقاذَ البشرية من سموم العصر، ويبدو أن بعضا من شعراء هذا الزمان إذ يكتبون الشِّعر فهم يَنظمونه لأنفسِهم لا غير، ربّما بدافعِ الخوف من تجاوز الخطوط الحمراء، فيرتكبون جنايةً في حقّ القُرّاء والشِّعر على حدّ سواء إذ هم نشروه إلى العَلن، فأغلب ما يُنشرُ اليوم شعرٌ يكتبُه الشاعر لنفسه، ولا يَفهم مدلولَه أحدٌ سواه، هذا إن كان يحمل بين طيّاته دلالات بالفعل.
كان أمل دنقل يرفضُ الاسترزاق من الشعر، كما هو حال شعراء هذا العصر، فأغلبهم يتّجه لمحاولة كتابة كلمات بسيطة تتماشى والنغمة الموسيقية، حتى يسهلَ تحويلها إلى قالبٍ غنائي، لعل الأغنيةَ تُحقّق نجاحا عارما فيصيرون بين ليلةٍ وضحاها من الأثرياء، والأغنيةُ تتطلّبُ بمقاييس الفنّ الجديد تصويرها بتِقنية الفيديو كليب، فأصبحوا بالتالي حاملين لَقبَ شعراء الفيديو كليب عن جدارةٍ واستحقاق ! يكتبُ بعضهم (قصيدةً) أو (قصيدتين) ثم يندثرُون من الوجود بلا عودة.
في أيامه الأخيرة لم ينقطعْ شعرُ أمل دنقل، ولم يجفّ قلمه رغم معاناته المريرة مع المرض، وظلّت أنامله تنسجُ من جميل الشعر وبَديعِه إلى آخر نفَس، ذاك هو الشاعر الحقيقي أصيل المعدن، لا تهزّه الصدماتُ ولا يلتفتُ لنفسه بقدر ما تشغله همومُ المجتمع، فينسى آلامَه وهو يرى أوجاعِ الناس في كل مكان، طُلبَ منه أن يقرأ في برنامج تلفزيوني قصيدة كتبَها عن مُعاناته في المشفى، فرفضَ وفضّل قراءة قصيدة أخرى مبرّراً ذلك بقوله: مَرضي هذا ليس قضية أشغلُ بها أي أحد ! قال الشاعر والناقد المصري عبد المعطي حجازي عن صُموده في مِحنته المرضية، هو صراعٌ بين مُتكافئين، الموتُ والشِّعر، ليخلقَ أمل دنقل إلى الوجودِ متكافئاً ثالثا وهو الذاكرة التي نقشَ اسمَه على صفحتها كرمزٍ خالدٍ من رموز الشِّعر الوطني سيظلُّ مُلهمَ كل الأجيال القادمة.