"يَا وطنِي فاشهَدْ
هَا قد بّلغتْ
مِن أنبَاء المَشهدْ
مَا قد أبصَرتْ" (2)
يَسعى الشاعرُ اليَمني مَنصُور راجح، وهو يتتبعُ القيامَة الجَارية ببلده، من خِلال كتابَاته المتواصِلة، إلى أن يكون شاهداً على مرحلة عَصيبة من تاريخ اليمَن المُعاصر. ولعلّ سقفَ الحُلم لديْه أعلى من مُجرد الشَّهادة، بل يَكاد يُوازي فعلَ الاستشهَاد، وهو ما عبّر عنهُ في بعضِ كتابَاتهِ التي اشتبَكت، ومَا تزَال، معَ مجرَيات الثورَة اليمَنية المُجهَضة، وتفاعَلت مَع سِياقها المَحلِّي والإقليمي ثم مَع انزياحِهَا المُدبَّر والذي يجُرّها إلى جهَة غيرِ مَعلومَة.
الإصدارُ الجديد الذي وسمَهُ منصور راجح ب ”ربيع الرّيح” والذِي صَدر له، قبلَ سنةٍ مِن الآن، بلندُن، ضمّنه أشعاراً ومقالاتٍ سياسيَة، كلّها، على اختلافِ خصُوصيتها، تدورُ في فلكِ الثورَة، ما جَعل النصُوص الشعريَة في الكتاب تتعرَّى من خصوصِية الشعر وتقولُ مَحمُولَها بلغة واضحَةٍ قريبة من جلدِ الأرض وبَعيدةٍ عن سَماء المَجاز.
ويُمكن اعتبار كتاب “ربيع الرِّيح” صرخةً بملء فمِ الدُّنيا ضدَّ صُنّاع ترَاجيديا الزّمن اليَمني؛ وفي الوقتِ ذاتِه مديحاً للمَوتى الذينَ قضَوا اغتيالاً وهم في منتصَف الطريقِ إلى أحْلامِهم أو الذينَ سقطوا في الشارعِ العام الذي جرّهُم إليهِ ضيقُ أحوالِهم وطوْقُ الحاكِم الذي ضَاق على أنفاسِهم.
في هذا الكِتاب تلتحمُ الأسماء بالأشياء وتغدُو اللغةُ عاريَة، ليسَ من مَعناها طبعاً، بل عارية ممَّا يجعلُ المَعنى مُخاتِلا ومُداوراً، إن لمْ أقل ملتبساً، لأنّ مَنصور رَاجح، يدركُ أنه أمَام مَقامٍ (هوَ هذا الظرفُ التاريخي العَصيب الذي تعيشهُ اليمَن) لا يَستدعي لعِباً باللغة مبالغاً فيه، بل يَشترط وُضوحاً يختصر المسَافة أو يُلغيها بين الأشياء وأسمَائها؛ وكأني بالكاتب، وهو يَختار لغتَه القريبة جدّاً، والمُبتعِدة عن اللغةِ الاسْتعارية الضَّاربة في المَجاز، (كأنِّي بهِ) يُريد أن يكونَ للغتهِ فعلُ الحَجر حتى يُعزِّزَ به ذخيرةَ صُناع الثورة في بَلده. وحتى في بعضِ اللحَظات حينَ يزيغ الشاعرُ عن الهدَفِ التواصلي الإبلاغي ويجِد نفسَه في حُميّا الاسْتعارة كمَا في قصِيدة "أمّ القتيل" حِين يقولُ:
"بُحيْرتا حزنٍ \ عَيناك \ قالتْ لِيَ الدّموعُ \ تنسَاب عَلى خدَّيك \ هدِيلاً"
وفي قصِيدة " تبادُل نظرَات" حِين يَقول:" مُثخن بالنّواح \ مثخنٌ بالبَلد" ثم في ص 61" شُهَداء مِثل الفَجر \ ذابُوا فِي الهزيعِ الأخِير منَ الرّوح"، يتدارَك أمرَهُ ويتوسَّل بلغتهِ الخَطابية التي تسعِفهُ على الالتحام بالناس ونقلِ يومِيّهم وَتنبيهِهم إلَى مَصيرِهم الغامِض والتي بها يُسجّلُ الشاعر حُضورَه في خِضمّ مرحلةٍ عَصِيبة يَعيشها بلدُه ومُواطنوه، ولعلّهُ بها يشارك في رَفدِ الثورة، بِما هيَ "شرعُ المَظلومِينَ" كمَا يقول، بمَعناها الحَقيقي والإنسَاني. لكنّ الشاعرَ مَع ذلك تنتابهُ حالاتٌ منَ الحَسرة والأسَف عن دعمِه للثورَة باللسَان فقط. يقولُ في قصيدة "ذهول": "أيثورُون هناك وأنا سَاكن؟" ثم " هَل أنا مُجرّد شاهِد؟" إلى أنْ يحسُدَهم على الشهَادة في قصِيدة "صَلاة وُسطى" إذ يقول: "أحسُدهم لأنّي لم أكن مَعهم" ثم يختمُ القصِيدة بالقولِ: "أهلِي هُناكَ قتلى \ وأنا وَحدِي مَن يُواريني؟"، وكأنّي به هَهنا يُعلن مَوته لعدم مُشاركتهِ أهلَهُ في فِعل الثورَة، ويتسَاءل بالتالي عمّن سَيُواريهِ الترَاب. بهذا المَعنى، لم تُشفِ الكتابة غليلَ الشاعر إذ يتسَاءل عن جَدواها فِي قوله: "أيّ شعر مُمكن أن يُكتبَ عَنهُم؟" ويقصدُ أولئكَ الذينَ خرجُوا للحَياة بصُدور عَارية ولم يَجدُوا غيرَ المَوت في أعقابِهم. وهؤلاء يَظلّونَ، بحسَب إشاراتِ الشاعر، أكبرَ منَ القصيدَة وأبلغَ من أيّ كلامٍ. لهذا تستبدُّ بالشاعر في بعضِ اللحَظات بعضُ الاستيهامَات (وهيَ طبيعيَة) أَعلنَ عنها في مَقال "حُدود السَّاحة" في جزئهِ الشعرِي: "ها أنا أرجعُ مِن أرْض المَنفى \ مَرفوعَ الرّأس \ لأنِّي أنتم" خاتماً بسَطرين شِعريَين لمَحمُود دَرويش: " وَطني ليسَ حِقيبة \ وأنَا لسْت مُسافر". إنهُ إذن حلمُ العَودة ما يستبدُّ به؛ العودَة إلى الوَطن من أجْلِ المُشاركة في المهرَجَان الكبير (الثورة).
بكتابهِ "ربيع الرّيح"، يُعلن منصُور راجح نفسَه شاهداً على لَحظة فارِقة في تاريخِ اليمَن المُعاصر، وقد تتبعَ تفاصِيلها لحظةً بلحْظة من خِلال سَيل مقالاتِه التي واكبتْها في أدق جزئياتها، ما يبرِّر القولَ بأن الكتاب عملٌ توثيقِي يُسجّلُ مُتوَاليَات الثوْرَة اليَمنيّة للتّارِيخ. وحتى في شِعره لم يَنكفِئ منصُور راجح إلى ذاتِه، بلْ كانَ يقولُ الخَارج (الثورة) وقد خلَّص قصيدَته من كلّ ما يَجعلُها تعلو عَلى هذا الخارِج. ومَنصُور رَاجح ليس من دُعاة الغرَابة في الشِّعر، فقد سخَّر شعرَهُ مثلمَا سخّر كتابَاتهِ السّياسية لتنبيهِ العَالم إلى ما يحصُل في اليَمن، وكذا إلى تنبيهِ اليَمنيّين إلى أنهُ جزءٌ لا يتجزّأُ من الثورَة رغمَ المسَافة التي يُحاول تقليصَها بالكتابة. ومَا الكتابة إلا دمُهُ المُحترقُ المتحرِّق إلى تقوِيم مَسار الثورةِ وتخليصِ البلدِ من العَابثين ممَّن يدبِّرون موتَها ويُجهضُون أفقَها...
ولئِنْ سَعى منصُور رَاجح في كتابهِ الأخير إلَى تنبيهِ العالَم لمَا يحصُل بِبلدِه، فإنّه، في الوَقتِ ذاتهِ، يُشير إلَى صَمت هَذا العَالم الذِي تركَ اليمنَ لعزلتهِ وقد استفرَدتْ بهِ آلةُ المَوت العَمياء. يقولُ في قصِيدة "الرِّهانُ الأخِير لمَلك القُطعَان": "العالمُ صَامتٌ \ تَعالوا، لمْ يبقَ لنا إلا نَحنُ \ تعَالوا يَا أهلي كيْ ندفنَ قتلانَا...".
يَبقى كتابُ "ربيع الرّيح" شهَادةً حيَّة (على مَا يَجري في اليَمن) مِن رجُل مَعنيٍّ أكثر من غيرهِ بحَاضِر ومُستقبل بلدِه، ومُصرّ على أنْ يُوصل صَرختهُ إلى العَالمين ويُشهدَهم على حبٍّ غيرِ مشرُوط يُكنّهُ لِوطَنهُ.
زهير فخري (برغن- النرويج)
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
(1) "رَبيع الرّيح" (منصُور رَاجح)، الطبعة الأولى 2014 - دار النشر "اج اند اس" بلندن.
(2) من قصيدة "أعلنتُ عليكُم هذا الحبّ" - ديوان "أيادٍ كانتْ تسْرقُ القمَر" للشّاعر المَغربي الرّاحل عبد الله رَاجع.