تتعدد الخطابات الحجاجية إلى أنواع متباينة، ويأتي هذا التباين تبعا لتعدد الاستراتيجيات التي يسلكها كل نوع. فهناك نصوص برهانية تقوم استراتيجيتها الحجاجية البرهنة والروابط المنطقية، ثم نصوص تفسيرية تتخذ فيها الذات المتكلمة موقع حياد ظاهري، فتصوغ ملفوظاتها بأسلوب يعتمد على سرد المعلومات والمواضيع والأفكار بنوع من التدرج والتنامي، وأخيرا نصوص سجالية تتشكل بطريقة حوارية وجدلية بين أقطاب تلفظية حول قضية ما، غايتها إقناع الآخر من أجل تغيير موقفه، أو تعديل سلوكه، ودفعه إلى الاعتقاد بالأطروحة المقترحة والتخلي عن الأطروحة المدحوضة[1]. وتندرج المناظرة باعتبارها خطابا حجاجيا ضمن النوع الثالث، فما المقصود بالمناظرة في التراث النثري العربي القديم؟ وما ظروف نشأتها؟ وما المقومات التي تميزها عن الأشكال الحجاجية الأخرى؟
ترجع لفظة "مناظرة" في أصلها الاشتقاقي إلى فعل "ناظر"، على صيغة "فاعل" التي تعني في علم الصرف العربي اشتراك شخصين في أداء عمل واحد وفي الوقت عينه. وبالعودة إلى المادة اللغوية التي اشتق منها هذا الفعل وهي مادة "نظر"، نجد أنها أصل لمجموعة من المعاني المختلفة؛ فقد ورد «المناظرة: أن تناظر أخاك في أمر إذا نظرتما فيه معا كيف تأتيانه.. وتناظرت الداران إذا تقابلتا»، ويبدو من خلال التعريف اللغوي أن المناظرة نظر من جانبين في أمر ما، كما تدل على المقابلة. وفي المعجم نفسه ورد ما يلي: «التناظر: التراوض في الأمر.. والنظير: المثل، وقيل المثل في كل شيء، وفلان نظيرك؛ أي مثلك.. وحكى أبو عبيدة: النظر والنظير بمعنى الند والنديد.. والنظائر جمع نظيرة، وهي المثل والشبه في الأشكال والأخلاق والأفعال والأقوال.. ويقال: ناظرت فلانا: أي صرت له نظيرا في المخاطبة..»[2].
يتضح من خلال لسان العرب أن مادة "نظر" غنية بالعديد من الدلالات المختلفة، منها: التماثل، والتشابه، والتقابل، والصراع.. ومهما اختلفت هذه المعاني، فإنها كلها ترتبط ارتباطا مباشرا بالمناظرة في مفهومها الاصطلاحي. ولعل ما يجمع تلك المعاني - بالرغم من اختلافها- كونها توحي بوجود جانبين إما متماثلين أو متكافئين أو متقابلين أو متصارعين.. وهذا هو جوهر المناظرة.
إن المناظرة في جوهرها تتصف بالمواجهة الخطابية بين طرفين حول قضية معينة، مما جعلها خطابا حجاجيا، فارتبط لفظها بالمنازعة الفكرية والمحاججة والمناقشة والإقناع.. قصد إظهار الحق والصواب وليس الجدل والخصومة. فالمناظرة بهذا المفهوم نقاش منظم بين فردين يتبنيان قناعات فكرية ومعتقدات مختلفة، أساسه التعاون في التواصل بينهما مهما اختلفا، قصد الابتعاد عن العشوائية في الحوار. ولذلك يعتبرها الدكتور علي جريشة «لونا من الجدال بالتي هي أحسن بين فريقين وصولا إلى الحق أو إلى الصواب، يُحاول فيها كل فريق إثبات وجهة نظره مع تَخَلٍ مسبق عن التحَيُز، ورغبة صادقة في الوصول»[3]. ويدقق الدكتور طه عبد الرحمن مفهومها قائلا: «المناظرة هي النظر من جانبين في مسألة من المسائل قصد إظهار الصواب فيها»[4].
فالمناظرة - حسب كلا التعريفين- حوار جدلي؛ والمقصود بكونه جدليا أنه قائم بين طرفين متصارعين، يمثلان موقفين مختلفين من قضية معينة. وبما أن أساسها الوصول إلى إظهار الحق والصواب، فقد عقدت لها مجالس حتى تلتزم بالتنظيم وتتفادى الوقوع في الفوضى والخصومة. ولم يكن الهدف من المناظرة المنازعة المقصودة لذاتها، إنما «وسيلة من وسائل تنمية المعرفة الصحيحة وممارسة العقل السليم »[5]. وفي محاولة منا لتعريف المناظرة، يمكن القول إنها "مجلس يتم فيه حوار جدلي بين طرفين متقابلين حول قضية معينة، يختص كل منهما بحقوق وواجبات، أساسه التنظيم والتعاون بين الطرفين، بهدف الكشف عن الصواب". وبهذا التعريف نحد المناظرة، ونُقْصِي ما كان أساسه الخصومة والحوار العشوائي والإفحام، وما كان مآله العنف المادي والرمزي..
إن الحضارة العربية والإسلامية شهدت خلال العهدين الأموي والعباسي مجموعة من التحولات، شملت مختلف المجالات، منها الصراع حول خلافة الدولة، والانفتاح على الأمم والحضارات المجاورة، ثم ظهور التدوين ونشاط حركة الإبداع الفكري والأدبي والفني. وقد لعبت تلك التحولات دورا حاسما في بروز تيارات متصارعة في السياسة والدين والفكر والأدب، نشأت عنها مدارس ومذاهب واتجاهات مختلفة.
وحيثما وجدت هذه الاتجاهات المختلفة، كانت المناظرة طريقة التعامل بينها، وهذا شأن الفقه (باب الخلاف) والنحو (باب القياس) والأدب (النقائض)، غير أن أي علم منها لم يتقيد بمنهج المناظرة الجدلي مثلما تقيد به علم الكلام، الذي قام على تواجه العقائد، سواء بين أصحاب الملة الواحدة (معتزلة، أشاعرة، شيعة..) أم بين أصحاب الملل المختلفة (مسلمون، نصرانيون، مسيحيون..)، إلى حد أن طه عبد الرحمن يرى أنه أحق أن يسمى "علم المناظرة العقدي"[6]. ولم تكن المناظرة طريقة التعامل بين التيارات المختلفة من قطاع علمي واحد فحسب، بل جمعت بين أهل العلم من قطاعات مختلفة (المناظرة بين أبي سعيد السيرافي النحوي ومتى بن يونس الفيلسوف).
وقد آن الأوان لنفرق بين المناظرة ونص المناظرة، وهو أمر ضروري؛ فالمناظرة تجسيد وأداء فعلي في الواقع يتم شفهيا ويقوم على المواجهة الكلامية، وحين يدون ويتحول من الشفهي إلى المكتوب فإنه يصير نصا، وهو ما نصطلح عليه نص المناظرة. والمقصود من خلال هذا البحث ليس المناظرة باعتبارها أداء واقعيا فحسب، إنما قصدنا ما حُفِظ منها عبر التاريخ، فسمي نص المناظرة؛ أي المناظرة المكتوبة. ولذلك، فحسين الصديق لا يعتبرها نقاشا أو مجلسا أو حوارا، بقدر ما هي «نص صغير أو كبير يعرض حوارا بين شخصين، وأحيانا أكثر. كل من الاثنين يخالف الآخر في الموضوع المطروح للمناقشة، ويتبنى فرضية تخالف فرضية الخصم، ويحاول دعمها بالحجج والبراهين وإدحاض فرضية الآخر وأدلته»[7].
وبعد أن حددنا المناظرة باعتبارها نصا، لم تعد شكلا من أشكال الخطاب الحجاجي فحسب، بل أيضا نوعا أدبيا يتخذ مكانه بين أنواع أدبية أخرى في كتب الأدب العامة[8]، وبذلك تغدو المناظرة نصا حجاجيا وأدبيا في آن واحد، لكن الأدب ليس جنسا واحدا، إنما هو أجناس وأنماط وأنواع تصنف باعتبار خصائص كل منها. والمناظرة تلتقي في تكوينها البنيوي والأسلوبي مع أشكال حجاجية أخرى في بعض المكونات مثل النهج الجدلي والاستدلالي، إلا أنها تفترق عنها في مكونات أخرى أهمها[9]:
- البناء الحواري القائم على تبادل الحجج.
- هيمنة المنحى الاستدلالي الحجاجي.
- اعتماد لغة واصفة تنزع إلى الدقة والصرامة، تتخللها استعمالات بلاغية، مما يجعل المناظرة مراوحة بين الوضع المنطقي والوضع البلاغي.
- كثرة الاقتباسات من القرآن الكريم والشعر التي تسخر لتحقيق غايات إقناعية.
ويتجسد الخطاب الحجاجي في المناظرة بشدة أكثر من الأشكال الأخرى، ويصل فيها الحجاج إلى مستوى مرتفع؛ لأن طرفي الحجاج فيها يتقابلان في مكان واحد وزمان واحد، وينصرف كل منهما إلى إثبات رأيه بالاستدلال على صحته من جهة، ودحض رأي الخصم من جهة أخرى. وبذلك تنفرد المناظرة عن الأشكال الحجاجية الأخرى، ففي الخطابة مثلا ينفرد الخطيب بالكلام دون أن يتمكن المتلقي من معارضة حججه.
وانطلاقا من كل ما سبق، نلخص بنية المناظرة في المقومات التالية:
الدعوى: هي القضية التي يدور حولها الخلاف ويُقصد إلى إظهار الصواب فيها؛ أي موضوع المناظرة. وترتبط بمجال معرفي معين، كعلم الكلام أو أصول الفقه أو الأدب أو النحو.. ويعرفها علي جريشة باعتبارها: «ما يشتمل على الحكم المطلوب إثباته؛ أي الدليل وإثباته بالتنبيه»[10]. وبإيجاز، فالدعوى أطروحة تضم رأيا يمثله شخص معين، يتقدم به قصد البث فيه أو لمحاولة إقناع شخص آخر بفحواه.
أطراف المناظرة: غالبا ما يكون في المناظرة طرفان يمثلان جانبين مختلفين من الدعوى، ويختص كل منهما بدور محدد، ويكون لما يختص به أثر هادف ومشروع في اعتقادات من يحاوره سعيا إلى الإقناع أو الاقتناع برأي، سواء ظهر صوابه على يد هذا أم على يد محاوره[11]. وإذ يمثل فعل التناظر شخصان، فإنهما لا يلبث أن يكون أحدهما عارضا، والآخر معترضا، ولكل منهما اختصاصات ووظائف[12]:
- العارض: وله ثلاثة وظائف: فإما أن يكون مدعيا فتكون مهمته عرض الدعوى، ويشترط فيه أن يعتقد صدق ما يدعي، وأن يطالب المخاطب بأن يصدق بدوره هذه الدعوى، وأن تكون له بينة على صدق ما يدعي، وإما أن يكون مجيبا، فتكون وظيفته الإجابة على استفسارات المتلقي. وإما أن يكون معللا، حين يقدم الحج والأدلة لإثبات صحة دعواه.
- المعترض: يتبنى رأيا مخالفا للدعوى، وله ثلاث وظائف أيضا؛ فإما أن يكون سائلا، كأن يستفسر عما قد تحتوي عليه الدعوى من الألفاظ الغريبة أو المجملة. أو أن يكون معترضا بكل الطرق المشروعة على مضمون الدعوى ويحاول نفيه ودحضه باعتماد مجموعة من الشواهد والأدلة التي تثبت بطلان الدعوى، وآنذاك يكون معللا.
وقد تتغير الأدوار أثناء المناظرة فينقلب السائل معللا والمعلل سائلا، والمانع سائلا والمستدل مانعا. غير أن ما تجذر الإشارة إليه أن التكافؤ بين المتناظرين شرط أساس من شروط المناظرة؛ أي لا بد من أن يكونا متساويين من حيث المكانة العلمية، حتى لا يؤدي استعظام أحدهما الآخر أو استحقاره له إلى أن يضعف عن القيام بحجته[13].
المآل: قسم الدكتور علي جريشة مراحل المناظرة إلى أربع، هي[14]:
- مرحلة المبادئ: ويتم فيها تعيين محل النزاع، حتى ينحصر موضوع المناظرة ولا يكون هناك تشتت في المواضيع.
- مرحلة الأواسط: يقدم فيها كل خصم الحجج والدلائل التي تثبت دعواه وتنفي دعوى الطرف الآخر.
- مرحلة المقاطع: وقد سميت بهذا الاسم؛ لأن البحث ينتهي إليها وينقطع، وهو ينقطع إذا انتهى إلى الضروري؛ أي اليقيني الذي يجب التسليم به بالضرورة العقلية، أو الظني الذي يسلم به الخصم. وورد عند طه عبد الرحمن أن الانقطاع سببه الإخلال بالقواعد سواء كان قولا أم فعلا، ويمنح الخصم الامتناع عن الجواب والانسحاب من البحث[15].
- مرحلة النتيجة: ما تؤول إليه المناظرة، وتكون بعجز واحد من الطرفين، فإذا عجز العارض كان المآل هو الإفحام، وإذا عجز المعترض كان المآل هو الإلزام.
فالمآل هو النتيجة التي تنتهي إليها المناظرة في حالة إذا ما تم انقطاع؛ إذ لا بد أن تؤول إلى إلزام المانع أو إفحام المدعي. ويُلزم المانع إذا عجز عن التعرض لدعوى المدعي بإحدى وظائفه مع اعتبار عدم قوله أو فعله لأي شيء يؤدي إلى الانقطاع. ويُفحَم المدعي إذا عجز عن إقامة الدليل على دعوى من دعاويه المعترَض عليها مع اعتبار عدم قوله لأي شيء يؤدي إلى الانقطاع[16].
الآليات الإقناعية: يسعى كل واحد من الطرفين المتناظرين إلى إثبات وجهة نظره ودحض الرأي المخالف باعتماد مجموعة من الآليات اللغوية والمنطقية، قصد التأثير في الطرف الآخر وفي الجمهور على السواء، ودفعهم جميعا إلى تبني موقف معين. وحين الحديث عن المناظرة المكتوبة، فإننا لا نتحدث سوى عن نوع واحد من الآليات الإقناعية، وهو ما يرتبط باللغة والحجاج. أما ما يرتبط بحركات المتناظرين وإيماءاتهم وهيئاتهم، فإنها تؤدي دورا أثناء أداء المناظرة في الواقع، وقد لا توجد إشارات لها داخل نص المناظرة. وقد سبقت الإشارة سابقا إلى أن من سمات المناظرة، المراوحة بين الوضع المنطقي والوضع البلاغي في اللغة، ومن ثم يمكن أن نقسم الآليات الإقناعية في المناظرة إلى صنفين:
- آليات بلاغية: تتمثل في استعمال أساليب اللغة الأدبية وصورها الشعرية من تشبيه واستعارة ومجاز، بطريقة تستثير مشاعر المخاطب وأحاسيسه، وتؤثر على انفعاله ونفسيته. كما تتمثل في الأساليب الخبرية والإنشائية من استفهام ونفي وأمر ونهي.. سواء في معانيها الحقيقية أو المجازية.
- آليات منطقية: تتمثل في أنماط البرهان المستعملة (استنباطي، واستقرائي، وإضرابي)، والاستشهاد بأقوال تزكي الرأي المعروض، بالإضافة إلى آليات أخرى تتمثل في الشرح والتفسير بوسائلهما المختلفة: التعريف والمقارنة والوصف والسرد.
[1] عبد العزيز الحويذق، «الحجاج في المناظرة: مقاربة حجاجية لمناظرة أبي حنيفة للملحدين»، ضمن كتاب الحجاج مفهومه ومجالاته، إشراف حافظ إسماعيلي علوي، ط1، الجزء الرابع، عالم الكتب الحديث، الأردن، 2010، ص316.
[2] ابن منظور: لسان العرب، (مادة: نظر.
[3] علي جريشة، أدب الحوار والمناظرة، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، ط.1، المنصورة، ص59.
[4] طه عبد الرحمان، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، ط2، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2000، ص46.
[5] المرجع السابق، ص21.
[6] نفسه، ص70.
[7] حسين الصديق، المناظرة في الأدب العربي، ص63. أحيل عليها في: بلاغة الإقناع في المناظرة؛ عادل عبد اللطيف، ط1، دار الأمان، الرباط، 2013، ص131.
[8] عادل عبد اللطيف، بلاغة الإقناع في المناظرة، ص131.
[9] مصطفى الغرافي، «الخطاب الحجاجي في البيان العربي دراسة في التشكلات والمقومات: المناظرة»، الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي، 2013، ص160- 161.
[10] علي جريشة، أدب الحوار والمناظرة، ص73.
[11] طه عبد الرحمان، مرجع سابق، ص47.
[12] انظر ذلك في: طه عبد الرحمان، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، صص75- 84. عادل عبد اللطيف، بلاغة الإقناع في المناظرة؛ ، صص167- 171.
[13] طه عبد الرحمان، مرجع سابق، ص74.
[14] علي جريشة، مرجع سابق، ص131.
[15] في أصول الحوار وتجديد علم الكلام؛ ص78.
[16] المرجع السابق؛ ص78.